الغاء الحبس في جريمة إهانة رئيس الجمهورية في مصر: مادة ضبابية في قلب النظام السياسي


2013-08-07    |   

الغاء الحبس في جريمة إهانة رئيس الجمهورية في مصر: مادة ضبابية في قلب النظام السياسي

"مفهوم العيب أو الإهانة مفهوم يعتريه الغموض فلا ضابط له أو تعريف قانوني واضح أو ملزم. إنما الأمر مرده أولا وأخيرا لقاضي الموضوع".[1]
لم أجد خير من هذه الكلمات افتتاحية لهذا المقال رداً على إصدار المستشار عدلي منصور رئيس الجمهورية المؤقت قرارًا بقانون بتعديل المادة 179 من قانون العقوبات بإلغاء عقوبة الحبس في جريمة إهانة رئيس الجمهورية واستبدالها بالغرامة التي لا تقل عن 10 ألاف جنية ولا تزيد عن 30 ألف جنيه.
إن هذا التعديل لم يعد كافيًا بل كان من الأجدى إلغاء هذه المادة بأكملها، وتنقية قانون العقوبات المصري من كافة التهم المطاطة التي تسمح بالنيل من الخصوم والمعارضين السياسيين والصحفيين، وعلى رأسها "جريمة إهانة رئيس الجمهورية". حيث أنه باختلاف العصور والأوضاع السياسية، تختلف مساحات الحرية، فأحيانًا تتسع قليلًا ليتم التغاضي عن بعض النقد، وأحيانًا تضيق لتخنق كل كلمة. كما ينبغي أن يعتبر نقد الرئيس في إطار حرية التعبير إلا إذا تم استخدام عبارات مهينة حقًا. خاصة وأن كثيرا ممن ينتقدون عمل رئيس الجمهورية يطالبون بالإصلاح وهدفهم مصالح الجماهير. ومن هنا ينبغي اعتبار ما يكتبه هؤلاء أو يصرحون به بمثابة نصح وتبصير وتنبيه وليس عيبًا أو تطاولا أو اهانة.
جريمة إهانة رئيس الجمهورية لم تكن حديثة في التقنين العقابي المصري، فهي تعود إلى قانون العقوبات المطبق أمام المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، فقد أنشئت هذه المحاكم تباعا في عامي 1876 و1882. وعندماوُضِع قانون العقوبات الجديد في 1937 أثناء حكم الملك فاروق أول حكام مصر في هذه الآونة، كانت المادة 179 في هذه الوقت تعاقب بالسجن أو الحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات لكل من عاب في حق الذات الملكية بأي طريقة من طرق النشر، على ألا يقل الحبس على أي حال عن ستة أشهر. ولم يكتف المشرع المصري بهذا فقط بل أضاف أيضًا عقوبة الحبس لكل من عاب بذات الطرق في حق الملكة أو ولي العهد أو أحد أوصياء العرش، وتضاعف العقوبة إذا وضع هذا العيب في حضرة أحد ممن تقدم ذكرهم.
إن المقنن المصري في هذه الآونة عمل على تأليه الحاكم، وهذا ما نجده بشكل خاص في أحد الأحكام حيث جاء "أن المشرع إذ نص في المادة 169 من قانون العقوبات على عقاب كل من عاب في حق الذات الملكية، قد قصد أن يتناول بالعقاب كل قول أو فعل أو كتابة أو رسوم أو غيره من طرق التمثيل يكون فيه مساسًا أو تصريحًا أو تلميحًا، من قريب أو من بعيد، مباشرة أو غير مباشرة، بتلك الذات المصونة التي هي بحكم كونها رمز الوطن المقدس محوطة بسياج من المشاعر يتأذى بكل ما يحس أن فيه مساسًا بها، ولو لم يبلغ ما يعد بالنسبة لسائر الناس قذفًا أو سبًا أو إهانة. فمتى وقع الفعل المكون للعيب على أية صورة من تلك الصور، وكان الجاني قد قصد توجيهه، وهو عالم به، إلى شخص الملك فقد حق عليه العقاب".[2]
ولم يقف المشرع المصري عند هذا الحد. بل عمل على تحصين الذات الملكية من اللوم على عمل من أعمال حكومته، فأضاف المادة 180 من ذات القانون أن "كل من وجه اللوم إلى الملك على عمل من أعمال حكومته أو ألقى عليه مسؤوليته بواسطة إحدى الطرق المتقدم ذكرها يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن عشرين جنيها ولا تزيد على مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين". كما قرر في المادة 183 ذات العقوبة على كل من عاب بإحدى طرق العلانية في حق أحد أعضاء الأسرة المالكة.
بعد انتهاء الملكية في 1952 وتولي جمال عبد الناصر مقاليد الحكم، طرأت تعديلات على هذه المواد بأن ألغيت المواد 180 و183، وباتت عقوبة المادة 179 الحبس لمدة لا تزيد على سنتين لكل من أهان رئيس الجمهورية.
ومن الملاحظ أن هذه الجريمة يزداد ظهورها في الأوقات الصعبة التي تشهد ضعف الدولة والمؤسسات فمنذ أن أعلنت الملكية الدستورية في مصر عام 1923 وحتى وزارة الوفد الأخيرة في عام 1950 أي على مدى سبعة وعشرين عامًا لم توجه هذه التهمة إلا الى عدد محدود. ولكنها في الفترة السابقة على ثورة يوليو 1952 أصبحت شائعة وكأنها مخالفات مرورية.[3]
كما أنه من الملاحظ أيضًا أن هذه المادة وضعت خصيصًا في قانون العقوبات للحد من معارضة الحكام في مصر على مر العصور، نظرًا لأن لفظ "الإهانة" هو لفظ واسع وفضفاض يستعصي على التحديد والضبط نظرًا لأن القانون المصري لم يضع تعريفًا محددًا يمكن على أساسه تحديد مفهوم الإهانة بصورة توقف اجتهاد الفقهاء وتفسيرات المحاكم على اختلاف درجاتها.
فمفهوم الإهانة – وفقًا لأحكام محكمة النقض– "هي كل قول أو فعل بحكم العرف فيه ازدراء وحط من الكرامة في أعين الناس وإن لم يشمل قذفًا أو سبًا أو افتراءً. والإهانة أمر نسبي يتغير تبعًا للظروف والملابسات، فان العبارة الواحدة إذا قالها شخص بحضور آخر في مكان ما وفى ظرف معين قد تعد مهينه، بينما هي إذا وجهها شخص إلى موظف من طبقة أخرى في ظرف آخر فلا تكون لها هذه الصفة، وليس الإهانة وسيلة إيضاح أو طريقة لإثباتها فقد تقع بالقول أو الإشارة، وقد تكون الصور شيوعًا هي الإهانة بالقول. ويتعين على القاضي أن يظهر في حكمه ألفاظ الإهانة حتى تتمكن محكمة النقض من مراقبة ما إذا كانت تلك الألفاظ تعبر اهانة للموجة إليه من عدمه".
وخير مثال على اتسام هذا الجرم بالضبابية، الدعوى التي أقامها محامون ينتمون للحزب الوطني وبمباركته وتشجيعه ضد بعض طلبة مدرسة الحقوق بتهمة العيب في الذات الخديوية، لأنهم جلسوا واضعين قدما على فدم في مواجهة مرور عربة الخديوي عباس حلمي الثاني وعدم وقوفهم لتحيته.[4]
وبالإضافة إلى ذلك، أصدرت المحكمة العسكرية حكمًا بمعاقبة الشاعر أحمد فؤاد نجم بالحبس مع الشغل والنفاذ مدة سنة نظرًا لإهانته رئيس الجمهورية (الرئيس السادات) بالقول والصياح علنًا، بأنه قام بتأليف قصيدة بعنوان "بيان هام" وألقاها في ندوة عامة حضرتها جموع من طلبة كلية الهندسة – جامعة عين شمس، وتضمنت هذه القصيدة تقليدًا لصوت الرئيس ولطريقة أدائه لخطبه وبياناته بصورة فيها كثير من السخرية.[5]
حتى أن الكاتب/ عباس محمود العقاد وعضو مجلس النواب في هذه الآونة، لم يسلم من توجيه ذات الاتهام له، وعقابه بالحبس البسيط لمدة تسعة أشهر. فقد وجهت له النيابة العامة اتهامًا بالعيب علنًا في حق الذات الملكية -السلطان فؤاد الأول- لأنه في غضون شهر سبتمبر 1930 كتب مقالات بجريدة "المؤيد الجديد" تحت عناوين "الوزارة البريطانية والأزمة المصرية الحاضرة"، "الاستقلال لحرية مصر وسعادتها .. لا لاستعباد مصر وتعذيبها"، "رأي في الأزمة الحاضرة"، "الرجعيون والإنجليز المحليون"، "سيعدل الدستور ولكن كيف؟"، "الرجعية هي العدو الأكبر في الأزمة الدستورية الحاضرة"، وذلك لانطوائهم على عيب في الذات الملكية.
وأثناء تولي الرئيس السابق محمد مرسي مقاليد الحكم ازدادت القضايا والبلاغات ضد صحفيين وإعلاميين وكُتاب ونشطاء سياسيين بتهمة إهانة رئيس الجمهورية في 200 يوم منذ توليه بلغ 24 قضية وبلاغًا، وهو رقم قياسي لملاحقة الصحفيين، لم يبلغه أي رئيس أو ملك مصري.[6]

الصورة نقلاً عن موقع العربية.نت


[1] أ/ حمدي الأسيوطي المحامي – إهانة الرئيس وحرية الرأي والتعبير.
[2] محكمة النقض (حكم رقم 1665 لسنة 9 قضائية – جلسة 25 ديسمبر 1939)، (حكم رقم 1890 لسنة 20 قضائية – جلسة 26 مارس 1951).
[3] أ/ حمدي الأسيوطي – المرجع السابق.
[4] حمدي الأسيوطي – المرجع السابق.
[5] المحكمة العسكرية المركزية – قضية رقم 2 لسنة 78 جنح عسكرية – إدارة المدعي العام العسكري – جلسة 25 مارس 1978.
[6] جريمة اهانة الرئيس .. جريمة نظام مستبد – تقرير صادر عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني