قراءة في مشروع القانون الأساسي للهيئات الدستورية المستقلة


2016-02-24    |   

قراءة في مشروع القانون الأساسي للهيئات الدستورية المستقلة

عرضت وزارةالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان على النقاش مشروع قانون أساسي إطاري للهيئات الدستورية المستقلة. جاء هذا المشروع لتنظيم صنف الهيئات الدستورية المحدث بمقتضى الباب السادس من الدستور وليضبط الآثار المترتبة عن الطبيعة المستقلة المسندة لهذه الهيئات فضلاً عن المبادئ والقواعد المشتركة المنطبقة عليها (الفصل الأول منمشروع القانون). ويثير هذا المشروع تساؤلات عديدة تتعلق أساساً بالجدوى منه ومدى تطابقه مع أحكام الدستور.

1-               في الجدوى من مشروع القانون:

إذا كان الغرض من هذا المشروع هو تنظيم صنف الهيئات الدستورية المستقلة ووضع مبادئ مشتركة تسري عليها وتنظمها، إلا أن ذلك يطرح بعض المشاكل المتعلقة من ناحية بطبيعة هذا المشروع ومدى إلزامية الأخذ به.

فمن ناحية طبيعة هذا المشروع: يقدم المشروع على أنه قانون أساسي إطاري. ويتوجّب علينا في هذا الإطار أن نشير إلى أنه من الناحية القانونية وتحديدا الدستورية، لا وجود لصنف القوانين الإطارية. فالدستور لا ينص إلا على صنفين من القوانين: وهما القوانين العادية والقوانين الأساسية، ولا وجود لطائفة القوانين الإطارية في نص الدستور. و لذا فإن فكرة القانون الإطاريلا تتعلق لا بالطبيعة القانونية للنص ولا بقيمته القانونية وإنما بعمومية أحكامه وطابعها التوجيهي والذي يمكن لغيره من النصوص القانونية أن تستأنس به وأن تستلهم أحكامه وهو ما يطرح مشكل إلزامية الأخذ به.

ومن ناحية إلزامية القانون الإطاري: ينصّ الفصل الأول (فقرة 2) من مشروع القانون الأساسي على أنه: "فضلا عن أحكام هذا القانون، تنطبق على الهيئات الدستورية المستقلة أحكام القوانين والأنظمة الداخلية الخاصة بكل هيئة".هذا الفصل يؤكد إلزامية هذا القانون بالنسبة للقوانين التي ستصدر لاحقا والتي ستنظم كل هيئة دستورية على حدة، وهو ما يطرح إشكالا قانونيا فيما يتعلق بعلوية هذا القانون، ذلك أن الهيئات الدستورية تنظم وفقا للدستور بمقتضى قوانين أساسية (الفصل 65 من الدستور) وسيتخذ هذا القانون الإطاري شكل قانون أساسي ونكون عندئذ أمام قانونين أساسيين لهما نفس القيمة القانونية ولا علوية لأحدهما على الآخر. كما أنه وبمقتضى المبادئ العامة للقانون، فإنه بإلتقاء نصين، أحدهما عام (القانون الإطاري مثلا) و الآخر خاص (قانون إحدى الهيئات الدستورية)، فإن الأولوية تكون للنص الخاص. فأي علوية لهذا النص الإطاري إذا ما خالفت بعض أحكامه النصوص الخاصة؟ فالمرجعية الخاصة بكل هيئة دستورية هي أحكام الدستور والرقابة التي تباشر ستسلط عليها هي رقابة الدستورية. وما الذي يمنع السلطة التشريعية من إصدار نص قانوني يخالف نصا آخر شرط  ألا يتعارض  مع الدستور؟ فالقانون يحوره ويتممه وينسخه قانون من نفس الطبيعة القانونية ولا حكم في ذلك إلا للدستور.

وعلى ضوء هذه الأسئلة، يجدر التساؤل عن الجدوى العملية لهذا القانون الإطاري.فهدف المشروع هو أن يصدر أولا ثم يليه صدور القوانين المتعلقة بكل هيئة دستورية. هذا التمشي المنطقي لا ينسجم تماما مع واقع الحال اليوم في تونس. فعديد المشاريع المتعلقة بالهيئات الدستورية هي بصدد الإعداد الآن ونذكر منها المشروع المتعلق بهيئة حقوق الإنسان، ومشروع هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد بينما كان قد تم منذ سنة 2014، إنشاء هيئة الانتخابات تطبيقا للفصل 125 من الدستور.فهل سننتظر أن يُعرض القانون على المصادقة ثم تحدث هذه الهيئات التي تم إعداد مشاريع نصوصها؟ إن هذا التمشي من شأنه أن يضع عائقا إضافيا أمام صدور القوانين التي من شأنها أن تنظم كل هيئة دستورية. ولذا، فإننا نرى أنه كان من الأنجع أن يكون هذا المشروع في شكل وثيقة  توجيهية يمكن لكل من يريد أن يقترح مشروع قانون هيئة دستورية أن يستأنس بها. كما يمكن للحكومة التيمن مهامها إقتراح مشاريع القوانين أن تعمل وفق هذه الوثيقة دونما أن تكون قانونا ولها أن تلتزم بها وأن تجعل منها دليل تشريعها فيما يتعلق بالهيئات الدستورية.
 
2-              في مدى مطابقة المشروع للدستور:

إن مشروع القانون الأساسي جاء تطبيقا لأحكام الدستور وذلك بصفة مباشرة فيما يتعلق بإنفاذ الفصل 125 منه والذي يمثل الفصل المنطبق على كافة الهيئات الدستورية والذي أرسى المبادئ المشتركة لهذه الهيئات. إلى جانب بقية فصول الدستور التي تنطبق على مبادئ التسيير وواجبات الأعوان العموميين. هذا التمشي الإيجابي لا يجب أن يحجب عنا عدم تكريس هذا المشروع لمبادئ دستورية هامة إلى جانب مجموعة من النقائص التي يمكن تلافيها.

غياب بعض المبادئ الدستورية عن المشروع:

من أهمّ المبادئ الدستوريّة التي غابت عن المشروع هي أساساً مبدأ النجاعة من ناحية ومبدأ التناصف من ناحية أخرى وأخيرا تشريك الشباب.

–                    بالنسبة لمبدأ النجاعة، واستنادا إلى الدستور، يؤكد الفصل 15 على أن "الإدارة العمومية تنظم وفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة: هذا المبدأ الدستوري نلاحظ غياب ذكره صراحة  في مشروع القانون رغم أهميته، خاصة وأن بعض الهيئات الدستورية وبالنظر في الصلاحيات الدستورية المسندة لها تطرح مشكل مدى نجاعتها، خاصة إذا ما تم حصرها في الصلاحيات الإستشارية فقط دون أن يكون  رأيها الإستشاري رأيا مطابقا، وهو ما ينطبق مثلا على هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة و التي لا يقر لها الفصل 129 من الدستور إلا الإستشارة و إبداء رأيها.

ولذا يكون من المهمّ التنصيص صراحة على مبدأ النجاعة في عمل هذهالهيئات سواء في هذا القانون الإطاري أو لاحقا في القانون المنظم لهذه الهيئة وغيرها، حتى لا يكون إنشاؤها وعملها وجهاً منأوجهإهدار المال العام، خاصة وأن الدولة مطالبة بمقتضى الفصل 10 من الدستور بالحرص على "حسن التصرف في المال العمومي".

–                    بالنسبة لمبدأ التناصف: يؤكد الدستور في فصله 125 على أن الهيئات الدستورية يتم إنتخابها من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية معززة. وبما أنها هيئات منتخبة، فإن الدولة تكون ملزمة بأن " تسعى … إلى تحقيق التناصف بين المرأة و الرجل في المجالس المنتخبة" (الفصل 46 الفقرة 3). وتكون أولى درجات هذا السعي لتكريس التناصف، والتنصيص على ذلك صراحة في النصوص القانونية المنظمة لهذه المجالس/ الهيئات. ولتلافي ذلك، يكون من الملائم إقرار مبدأ التناصف، في هذا القانون الإطاري  من ناحية وفي كل النصوص القانونية التي ستنظم هذه الهيئات لاحقاً.

–                    في تنمية قدرات الشباب وتحمله المسؤولية: لقد أقر الدستور في فصله 8 الواجب المحمول على الدولة في توفير الظروف الكفيلة بتنمية قدرات الشباب وتفعيل طاقاته وتعمل على تحمله المسؤولية وعلى توسيع إسهامه في التنمية …" هذا الإقرار بدور الشباب لم تتمّ أية إشارة إليه في مشروع القانون الإطاري المتعلق بالهيئات الدستورية التي تغلب عليها فكرة مسبقة بأنها هيئات عليا للخبرات والكفاءات، بينما نلاحظ بأن الهيئات الدستورية ليست فقط هيئات تقنية بل إنها أيضا هيئات تفكير واقتراح مما يستوجب أن تكون تركيبتها أيضا متماشية مع ما ننتظره منها خاصة وأن الطاقات الشبابية الفاعلة والكامنة عديدة جدا وهامة أيضاً. و لذا فإن تنزيل الفصل 8 من الدستور يجب أن يأخذ طريقه ضمن فصول مشروع القانون الإطاري من ناحية وضمن المشاريع اللاحقة الخاصة بكل هيئة دستورية.

 في عدم ملاءمة المشروع لروح الدستور:

–                   إن مشروع القانون الإطاري وإن كان مستلهما في أغلبه من الدستور في نصه وروحه. إلا أن بعض أحكام هذا المشروع نزعت إلى عدم الملاءمة مع روح الدستور المبني أساسا فيما يتعلق بالهيئات الدستورية على مبدأ استقلاليتها وعملها على دعم الديمقراطية (الفصل 125).
ذلك أن هذه الهيئات جاءت بالأساس لتكون هيئات عليامستقلة تعديلية وحكما مباشرا في القضايا الكبرى. ولذا فإن مشروع القانون الإطاري سيكون أكثر ملاءمة للدستور ولروحه إن عمل على دعم هذه الإستقلالية من ناحية وتعزيز دور الهيئات فيما يتعلق بدعمها للديمقراطية.

ومن أهمّ الأحكام المنتجة في هذا المجال، الأحكام المتّصلة بآليات إختيار أعضاء الهيئات الدستورية. فقد أكد مشروع القانون الإطاري على أهمية انتخاب أعضاء الهيئات بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب (الفصل 6) وهو تطابق مع نص الفصل 125 من الدستور. إلا أن نص مشروع القانون الإطاري لم يضع الضوابط الإجرائية لإختيار هؤلاء الأعضاء حيث لم يتطرق لمسألة تقديم الترشحات ولإحداث لجنة فرز واختيار داخل مجلس نواب الشعب، وهي مسألة أساسية من شأنها إما أن تجعل من هذه الهيئات هيئات مسيسة تعكس توازنات مجلس نواب الشعب أو أن ترقى بها ولو جزئيا على التسييس المفرط.

ويجدر التفكير في إرساء لجنة/لجان فرز لتحقيق أكبر قدر من التوازن بين مختلف مكوّنات المجلس. ومن الأجدر أن تكون لجنة/لجان الفرز هذه مشكلة من عضو عن كل كتلة وممثلين عن النواب غير المنتمين للكتل بحساب نائب عن كل مجموعة من هؤلاء النواب.

كما يقبل المشروع النقد لجهة آليات الرقابة المالية المقترحة منه. فمن الملاحظ أن أهمّ فصول المشروع وأغلبها عددياً، تم تخصيصها للرقابة المالية وفي ذلك إهتمام واسع بهذه المسألة. إلا أنه يتوجّب في بعض النقاط على المشروع أن يدقّق وأن يضع الضوابط الكفيلة أيضا لتحقيق استقلالية هذه الهيئات ماليا. فمثلاً، وإذ تناول المشروع رقابة مجلس نواب الشعب على الموارد المتأتّية من الدول أو المنظمات الدولية أو المنظمات غير الحكومية صوناً للسيادة الوطنية (الفصل 18 من مشروع القانون)، فإنه لم يبيّن بالمقابل كيفية موافقته على هذه الموارد. فهل تتم بصفة مسبقة أو عند مناقشة ميزانية الهيئات؟ ومن المجدي ضبط ذلك بصفة واضحة في نص المشروع.

–                   فيما يتعلق بدعم الهيئات للديمقراطية، لم ينصّ مشروع القانون على إلزام الهيئات بنشر تقاريرها للعموم، وإن تقيد بالفصل 125 من الدستور الذي اكتفى باإزامها بتقديم التقرير إلى مجلس نواب الشعب. إلا أنه ولدعم الشفافية والديمقراطية، يكون لزاما نشر نفس التقرير وفي نفس اليوم للعموم. ولذا، يتوجّب إدراج  نشر التقارير في المشروع الإطاري وفي كل القوانين المنظمة للهيئات الدستورية لاحقاً.
 
خلاصة:

إن مشروع القانون الإداري المتعلق بالهيئات الدستوريّة وإن كان متطابقا في أغلبه مع أحكام الدستور إلا أن عديد المسائل تثير بعض التساؤلات المتعلقة أساسا بالجدوى منه وبمدى تطابقه مع بعض الأحكام الدستورية من ناحية و مع روح الدستور من ناحية أخرى. لذا نرى أنه من الأجدر أن يكون هذا المشروع في شكل وثيقة توجيهية توضع على ذمة كل من يريد إقتراح نص قانوني يتعلق بالهيئات الدستورية سواء من قبل الأطراف الحكومية أو النواب أو منظمات  المجتمع المدني.

للاطلاع على مشروع القانون، انقر/ي على الرابط ادناه

انشر المقال



متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني