هل يوقف القضاء الإداري قرارات حظر النشر في مصر؟


2016-02-25    |   

هل يوقف القضاء الإداري قرارات حظر النشر في مصر؟

في 19-1-2016، قضت محكمة القضاء الاداري المصرية بالغاء قرار النيابة العامة بحظر النشر في قضية "تزوير الانتخابات الرئاسية" معتبرة أن "للمواطنين ولوسائل الاعلام الحق في اللجوء لمصادر المعلومات الصحيحة للحصول عليها وتداولها واجراء النقاش والجدال حولها، ليشكل كل مواطن رأيه في الشؤون العامة على هدى من نور الحقيقة ودون حجر على حرية الفكر". وهو الحكم الذي أشاد به الكثيرون من متابعي الشأن العام في مصر، لاسيما المدافعون عن حرية الصحافة وتداول المعلومات.

الجدير بالذكر أن قرارات حظر النشر ازدادت في الفترة الأخيرة في مصر في قضايا تهم الرأي العام، نذكر منها على سبيل المثال، حظر النشر في تحقيقات مقتل السائحين المكسيكيين، وفي قضية الفساد التي قبض على وزير الزراعة الأسبق صلاح هلال على أساسها. كذلك تم حظر النشر في قضية مقتل المحامي كريم حمدي، ومقتل شيماء الصباغ وقد اتهم ضباط شرطة في كلا القضيتين. وكان آخر هذه القرارت، القرار الصادر من النائب العام في يناير 2016 بحظر النشر في قضية فساد مؤسسات الدولة التي صرح عنها المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات. وتثير قرارات حظر النشر جدلا واسعا في الأوساط الصحفية والحقوقية حول انتهاكها لحرية تداول المعلومات وحرية الصحافة خاصة أنها تصدر في قضايا تهم الرأي العام كما ذكرنا[1].

وتجدر الإشارة قبل التعليق على الحكم، إلى أن قانون العقوبات نص في مادتيه 190 و193 على حق المحكمة وسلطة التحقيق بحظر النشر في القضايا المنظورة أمامها أو التي تتولى التحقيق فيها والعقوبات التي تقع على الصحفيين نتيجة خرق القرار[2].
ويستدعي هذا الحكم التعليق عليه من زاويتين: الأولى حول مقدمة الحكم بشأن حرية تداول المعلومات ودور الاعلام، والثانية حول اشكالية ماهية قرارات حظر النشر، وإذا كان يجوز الطعن عليها أمام محاكم القضاء الاداري أم لا.
 
كيف انتصر الحكم لحرية تداول المعلومات؟

عند قراءة حكم المحكمة، نقرأ هذه الحيثية المهمة "الأخبار والمعلومات التي تخص الشأن العام تعتبر من أدوات تشكيل الرأي العام، وأن للمواطنين ولوسائل الاعلام الحق في اللجوء لمصادر المعلومات الصحيحة للحصول عليها وتداولها ونقلها واجراء النقاش والجدال حولها، ليشكل كل مواطن رأيه في الشؤون العامة على هدى من نور الحقيقة ودون حجر على حرية الفكر"، وهي الحيثية التي تنتصر للحق في المعرفة وحرية تداول المعلومات حسب المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور المصري[3]. كما أن المحكمة أكدت على هذا الحق معتبرة أن تقييد وسائل الإعلام والمواطنين من الوصول الى المعلومات الصحيحة والأخبار الصادقة يعد مخالفاً للدستور اذا لم يستند الى القانون والى المصلحة العامة. وأكدت المحكمة ان مبدأ اتاحة المعلومات المنصوص عليه في الدستور لا يقتصر على السلطة التنفيذية بل هو "مبدأ عام تخضع له كل سلطات الدولة"، ولذلك جعل الدستور العلانية هي الأصل في عمل السلطتين التشريعية والقضائية.

بالاضافة الى ذلك، اعترفت المحكمة بتأثير الاعلام في الرأي العام. وعليه، فان المحتوى الاعلامي الصحيح يؤدي الى ادراك الرأي العام السليم لما يجري، والعكس صحيح، معتبرة أن التحقيق الجنائي من أهم وسائل معرفة الحقيقة، وبالتالي فان القاعدة هي جواز نشر أخبار عن التحقيقات التي تجريها النيابة العامة أو قاضي التحقيق، وأن حظر النشر استثناء يتم من خلال قرار من السلطة المختصة وفي الحالات التي نص عليها القانون فقط[4].  كما حذرت المحكمة من الأكاذيب والأضاليل التي تنتشر عند غياب المعلومات والحقائق في وسائل الاعلام، والذي يساهم في زيادة الجهل والانتقاص من الوعي العام. وهي الأمور التي تجعلنا نفهم حكم المحكمة بانه انتصار لحرية الصحافة ويدلل على إيمان المحكمة بدورها في المجتمع[5]، وهو الأمر الإيجابي في ظل الوقت الراهن في مصر مع تزايد قرارات حظر النشر وتزايد الرقابة على الصحافة.

كما أن المحكمة ذهبت أبعد من ذلك باعتبار تداول المعلومات وحرية الاعلام من مقومات الديمقراطية، حيث اعتبرت المحكمة أن الديمقراطية تتجاوز مشاركة المواطن في الانتخابات "لتصبح عملية مستمرة تضمن مشاركة الأفراد في كل أمور الشأن العام مشاركة فاعلة، ولا تتحقق هذه المشاركة إلا اذا كان المواطنون على بصيرة من الحقائق عما يحدث في وطنهم"، مؤكدة ان محتوى وسائل الاعلام يؤثر في الرأي العام، وبالتالي اذا كان محتوى الاعلام صحيح فيؤثر بالايجاب على ادراك الرأي العام، أما اذا حُرمت وسائل الاعلام من المعلومات الصحيحة، فتنتشر الأكاذيب والجهل والانتقاص من الوعي العام. وهي الحيثية المهمة جداً لأمرين، أولهما تعريف المحكمة الواسع للديمقراطية والتأكيد على ضرورة مشاركة المواطن في الشأن العام، والأمر الثاني هو الاعتراف بدور الاعلام في العملية الديمقراطية بصفته المُشكل للرأي العام ووسيلته لمعرفة الأخبار والمعلومات. وهو الأمر الهام في ظل تهميش دور المواطن في مراقبة السلطات وانتقاد القرارات التي تتخذها أجهزة الدولة المختلفة، ومع تهميش دور الاعلام، والتقييد على حريته. ويطرح تساؤل حول امكانية تغير نظرة الدولة للديمقراطية ولدور الاعلام، وامكانية استعانة المواطنون بأحكام مجلس الدولة لاجبار الدولة على تغيير هذه النظرة من خلال دعاوى مماثلة.

ولكن يبقى السؤال حول نتائج هذا الحكم على قرارات حظر النشر الصادرة قبله وبعده. فهل يفتح هذا الحكم الباب أمام مزيد من الطعون على قرارات حظر النشر؟ وهل يكون مصير هذه القرارات الالغاء؟
 
هل حسم الحكم الخلاف حول ماهية قرار حظر النشر؟

"تتحدد صفة العمل القانوني بالنظر إلى طبيعته وجوهره بغض النظر عن شخص مُصدره، ولكي يصدق على قرار حظر نشر أخبار عن تحقيق معين أنه عمل قضائي إلحاقاً له بطبيعة التحقيق القضائي بأنه يتعين أن يصدر القرار من جهة قضائية مختصة، وأن يتعلق بتحقيق تجريه تلك الجهة القضائية بالفعل". من خلال هذه الحيثية، أكّدت المحكمة أن الفيصل في وصف قرار حظر النشر بأنه عمل قضائي أو اداري ليس صدوره من جهة قضائية أم لا، بل بجوهر القرار. واعتبرت المحكمة أن قرار حظر النشر له شرطان لكي يُعتبر عملاً قضائياً: الأول أن يصدر من جهة قضائية مختصة، والثاني أن يتعلق بتحقيق تجريه هذه الجهة. وعلى هذا الأساس، اعتبرت المحكمة "أنه لا محل لوصف هذا القرار بأنه عمل قضائي لمحض صدوره عن النائب العام"، بل هو قرار اداري اكتملت أركانه وذلك لأنه صدر في شأن تحقيق لا تجريه النيابة العامة، وبالتالي فهي جهة غير مختصة بإصدار هذا القرار.

ولعل هذا الحكم يؤكد على عقيدة المحكمة باختصاصها برقابة كل القرارات الادارية أياً كانت الجهة التي تصدرها. فالمُحدّد هو طبيعة القرار وليس جهة إصداره سواء كان سلطة تنفيذية، قضائية أو تشريعية. وهذا الأمر يذكرنا بحكم محكمة القضاء الاداري بحل الجمعية التأسيسية للدستور في عام 2012[6]. فإذ دفع نواب في البرلمان حينذاك بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى كونه عملاً تشريعياً صادراً عن البرلمان لا يجوز الطعن عليه أمام مجلس الدولة، اعتبرت المحكمة أن القرار هو قرار إداري وليس تشريعي حتى لو صدر من مجلس الشعب، وبالتالي فهي مختصة بالنظر فيه. وهذه الرقابة من مجلس الدولة تؤدي حتماً الى مزيد من الحماية لحقوق المواطن وحرياته، فتسمح للمواطن بالإلتجاء إليه ضد أي قرار اداري دون اعتبارات لجهة اصداره. وهي تلغي  أيضا الفكرة السائدة بأن القرارات الادارية تصدر من السلطة التنفيذية فقط.
 
الخلاصة

يعكس هذا الحكم نظرة تقدمية لمجلس الدولة عن حرية تداول المعلومات، والاعلام، وعن الديمقراطية. كما يكشف نظرة مجلس الدولة بخصوص قرارات حظر النشر التي تصدر من جهات التحقيق، حتى في حال كانت مختصة. فالمجلس يعتبر أن المبدأ هو اتاحة المعلومات وأن الحظر يجب أن يتم على أضيق نطاق. وهو الأمر الحسن الذي يدفعنا للتساؤل حول مدى انعكاس هذه الرؤية التقدمية على قرارات حظر النشر التي تصدر في قضايا تهمّ الرأي العام. يؤمل طبعاّ أن يؤدي هذا الموقف الى انحسار هذا النوع من القرارات.



[1] راجع عمر سعيد، "حيثيات الغاء حظر النشر: مقدمة لحق تداول المعلومات…ولكن"، نشر على موقع مدى مصر الالكتروني بتاريخ 20-1-2016.
[2] تنص المادة 190 من قانون العقوبات على: "في غير الدعاوى التي تقع في حكم المادة السابقة، يجوز للمحاكم نظراً لنوع وقائع الدعوى أن تحظر في سبيل المحافظة على النظام العام أو الآداب نشر المرافعات القضائية أو الأحكام كلها أو بعضها باحدى الطرق المبينة في المادة 171، ومن يخالف ذلك يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد عن عشرة آلاف جنيه أو باحدى هاتين العقوبتين"
تنص المادة 193 من قانون العقوبات على: "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة شهور وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد عن عشرة آلاف جنيه أو باحدى هاتين العقوبتين، كل من نشر بالطرق المتقدم ذكرها: أ) أخباراً بشأن تحقيق جنائي قائم اذا كانت سلطة التحقيق قد قررت اجراءه في غيبة الخصوم أو كانت قد حظرت اذاعة شيء منه مراعاة للنظام العام أو الآداب أو لظهور الحقيقة. ب)أو أخباراً بشأن التحقيقات أو المرافعات في دعاوى الطلاق أو التفريق أو الزنا."
[3] تنص المادة 68 من الدستور المصري على: "المعلومات والبيانات والاحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها واتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها واتاحتها وسريتها، وقواعد ايداعها وحفظها، والتظلم من رفض اعطائها،  كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا. وتلتزم مؤسسات الدولة بايداع الوثائق الرسمية بعد الانتهاء من فترة العمل بها بدار الوثائق القومية، وحمايتها وتأمينها من الضياع أو التلف، وترميمها ورقمنتها، بجميع الوسائل والأدزات الحديثة وفقاً للقانون".   
[4] الحالات التي نص عليها القانون هي مراعاة للنظام العام أو الآداب أو لمصلحة التحقيق.
[5] في الحكم نقرأ ان "كل مساحة تخلو في وسائل الاعلام من المعلومات والحقائق تمتليء بالأكاذيب والأضاليل، وكل خصم من العلم الصحيح بالحقائق يؤدي الى زيادة الجهل والانتقاص من الوعى العام، ويؤدي الى عدم مصداقية وسائل الاعلام ويصرف الناس عن متابعة الشأن العام، كما يجرد وسائل الاعلام من تأثيرها الايجابي في الدفاع عن حقوق وحريات المواطنين وتبني قضاياهم".  
[6]راجع مقال محمد أسعد عن حكم محكمة القضاء الاداري، نُشر في جريدة اليوم السابع بتاريخ 10-4-2012. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني