25 جويلية 2021: رجّة عاجلة للمجالس البلدية وزلزال مؤجّل للامركزيّة


2021-12-10    |   

25 جويلية 2021: رجّة عاجلة للمجالس البلدية وزلزال مؤجّل للامركزيّة

غداة 25 جويلية، كانت البلديّات – الممثّل الوحيد الحالي للسلطة المحلّية – السلطة الوحيدة المنتخَبة مباشرة من الشعب التي لم تلحقها قرارات تجميد أو إعفاء أو “ترؤّس” من رئيس الجمهوريّة قيس سعيِّد. في الواقع، لم تتعدَّ تدابير الرئيس الاستثنائية في خصوص الجماعات المحلّية[1] تعطيل العمل لمدّة يومين والإتاحة لرؤسائها اتّخاذ قرارات تكليف عدد من الأعوان بحصص حضورية أو عن بُعد بالإضافة إلى إشارة نقدية إلى فهم بعض رؤساء مبدأ التدبير الحرّ[2] بدون قرارات عملية تُذكَر.

أمام لحظة 25 جويلية، شهدتْ البلديّات تشرذماً غير مسبوق في قراءتها للوضع بين أقلّيّة معارضة “لكلّ القرارات غير الدستورية والانقلابية لرئيس الجمهوريّة”[3] وأغلبيّة داعمة للتدابير الاستثنائية معتبرة إيّاها من قبيل “تصحيح المسار”. وقد تبلورتْ هذه المواقف، ليس من خلال التعليق مباشرة على المستجدّات السياسية إنّما من خلال موجة البيانات الصادرة تفاعلاً مع نشر الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية[4] برئاسة السيد عدنان بوعصيدة[5] بياناً رافضاً للتدابير الاستثنائية.

اضطراب ممثّلي السلطة المحلّية لحظة 25 جويلية، يستدعي التساؤل جدّياً حول موقفها من تَبِعات ذلك التاريخ الفارق، خصوصاً في ظلّ هيمنة الخطاب المطالِب بتغيير النظام السياسي وما يترتّب عنه من إعادة النظر في مسار تأسيس اللامركزيّة من جهة وحلم البناء القاعدي الذي يحمله قيس سعيِّد من جهة أخرى.

فوضى البيانات، أو عندما تشمل أزمة الديمقراطيّة التمثيلية الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية

لم تبقَ البلديّات التونسية بمعزل عن تدابير 25 جويلية التي أعلنها رئيس الجمهوريّة. فبعد سويعاتٍ من إعلان قرارات قيس سعيِّد المتمثّلة في تعليق اختصاصات البرلمان، رفع الحصانة عن النوّاب وإعفاء رئيس الحكومة، أصدرتْ الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية[6] باعتبارها “الممثّل الشرعي للسلطة المحلّية” بياناً عبّرتْ من خلاله عن “معارضتها المطلقة لكلّ القرارات غير الدستورية والانقلابية لرئيس الجمهوريّة” محمّلةً إيّاه جزءاً من المسؤوليّة عمّا بلغه تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. كما رفضت الجامعة تجميد أيّ جهة مُنتخَبة على غرار البرلمان أو البلديّات، مستجيبةً بذلك إلى مطالبة البعض بامتداد التدابير لتشمل تجميد أعمال المجالس البلديّة.

إلّا أنّ البيان الصادر عن الجامعة كهيكل موحّد للبلديّات التونسية – خاصّة في ظلّ غياب المجلس الأعلى للجماعات المحلّية – لم يكنْ من دون تبعات. فقد تفاعل عديد رؤساء البلديّات الممثَّلون في المكتب التنفيذي للجامعة مؤكِّدين أنّ المكتب لم ينعقد للتشاور حول البيان ومحتواه. وكان أبرز هؤلاء رئيس بلديّة المرسى الذي نشر بوصفه عضواً في المكتب التنفيذي للجامعة بياناً[7] أكّد فيه أنّ ما صدر يُعدّ تعدّياً على آراء ومواقف أعضاء المكتب، وشدّد على أنّه لا يعكس مواقفه تجاه الأحداث السياسية الأخيرة.

لم يكتفِ بعض رؤساء البلديّات بالتشديد على نقطة عدم استشارة المكتب التنفيذي لدى إصدار الجامعة بيانها. بل اتّجهت رئيسة بلديّة حلق الوادي إلى اعتبار أنّ البيان “لا يُعبِّر مُطلقاً عن موقفها المُساند والمُتبنّي للقرارات والإجراءات التي أعلنها السيّد رئيس الجمهوريّة”.

هذا وقد لجأ بعض رؤساء البلديّات إلى إصدار بيانات مشتركة[8]، أعلنوا فيها رفضهم “البيان المُسقَط أحادي الجانب والمفتقد إلى الشرعية”، مُعبِّرين عن انخراطهم الصريح في المسار التصحيحي الذي اتّخذه رئيس الجمهوريّة.

تواترت بيانات[9] رؤساء البلديات الرافضة لموقف الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية بالغة حدود الانسلاخ عنها[10] وتلويح البعض بـالتزامهم خيار الرئيس إن رأى ضرورة في تجميد عمل المجالس البلديّة[11].

أمام هذا الرفض الواسع وتصاعد وتيرة التصريحات الصادرة عن قياديّي حركة النهضة، أصدر السيّد عدنان بوعصيدة – رئيس الجامعة – بصفته رئيس بلديّة رواد رسالة مفتوحة موجّهة إلى رئيس البرلمان راشد الغنوشي في تاريخ 30 جويلية مجدّداً رفضه قرارات رئيس الجمهوريّة، لكن مع التأكيد على “ضرورة الاستماع إلى نبض الشارع”، وملوّحاً بالانسحاب النهائي من التحالف البلدي بينه وبين حركة النهضة، في حال لم تتراجع عن تصريحاتها المتعلّقة بدعوة المتعاطفين مع الحركة إلى النزول إلى الشارع والتهديد بموجة هجرة غير نظامية في حال تواصل الوضع الحالي. إذ اعتبر بوصعيدة أنّ مثل هذه التصريحات تستهدف الأمن الداخلي وتحرّض على استعمال القوة لزيادة القيود على البرلمان وتحرّض الأجنبي على التدخّل في الشأن الداخلي والمسّ من السيادة الوطنية.

“البناء القاعدي”: لامركزيّة مفرطة للسلطة التشريعية مقابل مركزيّة مفرطة للسلطة التنفيذية؟

قطع الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 مؤرّخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلّق بالتدابير الاستثنائية، الجدل حول ما إذا كنّا أمام بوادر الخروج عن دستور 2014. فقد جمع بمقتضاه الرئيس قيس سعيِّد السلط التنفيذية والتشريعية موكلاً نفسَه صلاحيّة إصدار نصوص تشريعية تتّخذ شكل مراسيم وتشمل هذه المراسيم السلطة المحلّية.

ولئن لا يزال مدى التغيّرات التي ستطرأ على دستور 2014 غير واضح فإنّ تحقيق الرئيس بناءه القاعدي الذي يمرّ عبر انتخاب محلّيات ينبثق عنها المجلس التشريعي يمرّ بالضرورة عبر تنقيح الباب السابع للدستور المتعلّق بالسلطة المحلّية. حيث لا يمكن أن يتعايش النظام السياسي المقترَح من قِبل سعيِّد مع مجالس بلدية وجهوية منتخَبة موازية.

لكن، هل فشل فعلاً النظام اللامركزي في تونس لاستبداله ببناء جديد؟ وهل إنّ مشروع “البناء القاعدي” يمثّل فعلاً تصوّراً لا مركزياً؟ وقبل الحسم في ضرورة قبر الباب السابع من الدستور من عدمه، هل درس أبناء” تونس الجديدة” العراقيل التي واجهت المسار وحلّلوها ليطرحوا بديلاً عنه؟

لا بدّ من الإشارة قبل التطرّق إلى تفاصيل مشروع البناء القاعدي، الذي طالما تحدّث عنه الرئيس قيس سعيِّد، إلى أنّ الهدف من هذا البناء هو الوصول إلى تأسيس سلطة تشريعية تنطلق من المحلّي وهو ما صرّح به قيس سعيِّد مراراً مؤكّداً أنّ “المسألة مسألة مجلس تشريعي”[12].

ولا مفرّ من التأكيد على أنّ الرئيس لا يهدف إلى اقتراح برنامج تنموي أو اقتصادي أو اجتماعي محدَّد بل دوره هو تمكين التونسيين والتونسيّات من الآليّات القانونية التي تسمح لهم بممارسة إرادتهم وبرنامجهم الذي يريدون باعتبار أنّ “الشعب يريد ويعرف ماذا يريد”.

وعليه يطرح دعاة “تونس الجديدة” تصوُّراً لتركيز السلط ينطلق من الأسفل أيْ من العمادات عن طريق انتخاب ممثّل عن كلّ عمادة – انتخاب أفراد – على أساس مشاريع محلّية، من بين مرشَّحين تتمّ تزكيتهم مناصفةً بين الرجال والنساء وبتمثيليّة معيّنة من الشباب المُزَكّين. فإذا انتُخب هؤلاء، تنبثق عنهم مجالس محلّية على مستوى المعتمديّات ويكون دورها “التخطيط لمشاريع التنمية المحلّية وتتمتّع بصلاحيّات واسعة تسمح لها بمراقبة السلطة التنفيذية والتدخّل للتدقيق إن لزم الأمر”، ليُصار لاحقاً إلى اختيار ممثّل وحيد عن كلّ مجلس محلّي، وذلك عن طريق القرعة، ليمثّله على مستوى الولاية. ويكون بذلك لدينا 24 مجلساً جهوياً يتم اختيار أعضائهم بالقرعة من بين أعضاء المجلس المحلّي. وسيُعهَد لهؤلاء “التأليف بين البرامج التنموية المقترحة على المستوى المحلّي” – أي المشاريع التي اقترحها المرشَّحون لعضويّة العمادات الذين تمّ انتخابهم – كما يضطلعون بمهمّة التخطيط للمشاريع التنموية الجهوية بعد النظر في المشاريع التي طُرحت على المستوى المحلّي، مع صلاحيّات واسعة تسمح لهم بمراقبة السلطة التنفيذية في الجهة والتدقيق إن لزم الأمر.

من جهة أخرى، يتمّ اختيار ممثّل ثانٍ عن كلّ مجلس محلّي لتكوين مجلس نوّاب الشعب الذي سيكون دوره سنّ التشريعات التي من شأنها السماح للمجالس الجهوية والمحلّية بتنفيذ برامج التنمية الجهوية والمحلّية، التي انتُخبوا على أساسها – على مستوى العمادات – أو تلك التي “أُلِّفت” – على مستوى الجهات.

إلى جانب ذلك، يُقترَح ضمن “البناء الجديد” أن يتمتّع الناخبون دائماً بإمكانيّة سحب الوكالة من المنتخَبين وذلك للحدّ من ظاهرة “السياحة الحزبية” وخلق آليّة من شأنها إبقاء السلطة في يد الشعب الذي يمارس رقابة متواصلة على منتخبيه.

بغضّ النظر عن نقاش طرق الانتخاب وما يمكن أن يتأتّى عن الانتخاب على أساس الأفراد[13] من تغذية للنزعة العشائرية، الزبونية السياسية، واستحالة ضمان المناصفة بين النساء والرجال في المجالس المنتخَبة لا خلاف اليوم حول أنّ الديمقراطيّة التمثيلية، بخاصّة على المستوى الوطني وبدرجة أقلّ حدّة على المستوى المحلّي، كشفت عن العديد من العيوب التي تستدعي النظر في إمكانيّة إدخال آليّات من شأنها التقليص من سلبيّاتها. إلّا أنّ الآليّة الوحيدة المقترَحة في “البناء الجديد” تسترعي بعض الملاحظات، أهمّها أنّ آليّة سحب الوكالة كوسيلة من وسائل الرقابة على المنتخبين من شأنها أن تفقد أيّ فاعليّة، بخاصّة أنّ نتائج الانتخابات تخضع للحسابات القبلية أو المال السياسي في جزء لا بأس به من التراب التونسي. كما يمكن تصوّر أنّ آليّة سحب الوكالة ستكون سيفاً على رقاب الممثّلين الجهويين أو التشريعيين الذين اختيروا بالقرعة باعتبارهم بالضرورة لا يمثّلون إرادة ناخبيهم وإنّما إرادة الصدفة. أخيراً وليس آخراً، يمكن أن تمثّل هذه الآليّة عاملاً إضافياً في عدم استقرار المجالس المنتخَبة وضعف شرعيّتها ونجاعتها – باعتبارها مرتهنة بحشد شعبي لسحب الوكالة – خصوصاً أنّنا نشهد في المقابل تركيزاً فظيعاً للسلطة بيد رئيس الجمهوريّة الذي يمارس صلاحيّات واسعة ليضمن استقراراً مطلقاً لسلطته، تحديداً إذا تواصل العمل بالأمر 117 في خصوص السلطة التنفيذية، وإن كان بحلّة قانونية أخرى.

بغضّ النظر عن الاستفهامات التي تطرحها طريقة البناء القاعدي، من المهمّ التساؤل عمّا إذا كان المطروح فعلاً تأسيس شكل جديد من اللامركزيّة؟

المفارقة الكبرى في البناء القاعدي المقترَح أنّه يروَّج له بكونه لامركزيّة فعلية تعيد السلطة إلى الشعب. في حين يقتصر دور المنتخَبين المحلّيين على تقديم مشاريع على مستوى العمادات يتمّ تأليفها على مستوى محلّي وجهوي.

ينطلق هذا التصوّر من فرضيّة تقتضي وجود رؤية موحَّدة للمستقبل المحلّي والجهوي، في حين أنّ الانتخاب يتمّ على مستوى ضيّق، ألا وهو العمادة وعلى رؤية شخصية “للمشاريع التنموية”. كما يتجاهل هذا التصوّر مسألة عدم وجود أغلبيّة في المجالس المذكورة تمكّنها من خلق تصوّر محدّد وموحّد لمستقبل الجهة والمنطقة، أو أن تخضع لحسابات وتكتّلات غير واضحة المعالم تقوم على تحقيق مصالح مشتركة يمكن أن تأخذ صبغة مالية أو قطاعية أو قبلية. وهو ما ينسف فكرة اللامركزيّة التي من بين أهدافها القضاء على النزعة القبلية وتكريس الانتخاب على أساس برامج تستجيب لاحتياجات المواطنين والمواطنات.

من جهة أخرى، يترتّب على هذا البناء أوّلاً، الانتقال من تصوّرات كُبرى للتنمية المحلّية والجهوية والوطنية إلى نقاش حول مشاريع قُرب، لا تصوّر استراتيجي لها. ولئن تستجيب المشاريع المحلّية مؤقّتاً للاحتياجات الأساسية للتونسيين فليس بإمكانها أن تُقدّم خيارات تنموية على المديَيْن البعيد والمتوسّط.

إذ ينتقل النقاش في ظلّها من الحديث عن النموذج التنموي الذي نبتغيه والخيارات الكبرى المتعلّقة بالصحّة والتعليم والاقتصاد إلى التباحث حول ما يعوزنا على مستوى العمادة والمعتمديّة والجهة[14]. ثمّ إذا كان الهدف تحقيق احتياجات التونسيين محلّياً عن طريق مشاريع القرب التي يبتغونها، لماذا يتمّ التخلّي عن السلطة المحلّية بالتصوّر الذي هي عليه؟ أليس ذلك دورها اليوم، على الأقلّ على المستوى البلدي؟ أليس المنتخَبون المحلّيون ممثّلين للشعب ويمكنهم ممارسة الرقابة عليهم عن طريق آليّات الديمقراطيّة التشاركية؟ أليس أكثر ما يُعاب على البلديّات مثلاً اقتصار عملها – نظراً إلى ضعف الموارد المالية والبشرية – على مشاريع ذات صبغة أساسية لا تستجيب لنظرة شاملة للتنمية (دور الجهات متى تمّ انتخابها)؟

في الواقع، يمثّل البناء القاعدي لامركزيّة للسلطة التشريعية لا غير، من شأنها تفتيت إرادة الشعب على محلّيات تفتقر للسلطة التنفيذية التي تحتاجها لتحقيق أهدافها، بالإضافة إلى التأسيس لسلطة تشريعية مشوّهة المعالم. إنّ اللامركزيّة المقترَحة تخفي في طيّاتها استقالة تامّة للدولة من دورها التنموي لفائدة المحلّيات. استقالة قد تنمّ عن عجز ضمني عن إيجاد تصوّرات وحلول اقتصادية واجتماعية وترحيل المشاكل إلى المستوى المحلّي والجهوي باسم إرادة الشعب، في حين أنّ الدور التنموي للمحلّيات لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن يعوّض الدولة.

ومن المفارقات العجيبة في المشروع “اللامركزي” المقترَح أنّ المحلّيات التي يُراد لها التعبير عن رغبة “الشعب الذي يريد” ليس لها جهاز تنفيذي لتحقيق تصوّراتها – وإن كانت ضيّقة المجال – باعتبار أنّ السلطة التنفيذية هي التي تضطلع بدور التنفيذ ويبقى للمحلّيات دور المتابعة والرقابة. ثمّ كيف يمكن الحديث عن رقابة فعلية لهذه المحلّيات، إن وجدت، والحال أنّ السلطة التنفيذية، وطنية كانت أم جهوية، تحتكر النظرة الشاملة والمعطيات الكفيلة بتقييم ما إذا كان التخطيط المحلّي والجهوي قابلاً للتنفيذ؟

إنّ البناء القاعدي، وإن كان يؤسّس في ظاهره لإعادة السلطة إلى الشعب،  لا يسعى في باطنه إلى سوى لا مَرْكَزَة السلطة التشريعية ومجابهتها بسلطة تنفيذية متغوّلة ومفرطة المركزيّة.

السؤال المزعج: بناء قاعدي… صلاحيّات واسعة… بأيّ موارد؟

تختلف السرديّات حول النظام اللامركزي في تونس وتُجمع التقييمات على أنّ المعضلة التي تواجه هذا المسار طويل الأمد وأولى أسباب تعثّره هي ضعف الموارد البشرية والمالية. إنّ التصوّر اللامركزي الذي انتهجتْه تونس منذ دسترة هذا الخيار، تصوّر حالم يعطي الجماعات المحلّية صلاحيّات كبرى على مستوى محلّي، جهوي وإقليمي. تصوّر أكثر ما يُعاب عليه نزعة المركز للتخلّص من أعباء إدارة الشأن المحلّي وإسنادها إلى الجماعات المحلّية بدون موارد مالية كافية أو كفاءات من شأنها نقل البلديّات على سبيل الذكر لا الحصر من دورها التقليدي في إسداء خدمات القرب إلى وضع نظرة شاملة لمستقبل المدن.

لا اختلاف بين مشروع البناء الجديد والسلطة المحلّية كما نعرفها اليوم من حيث علوّ سقف أحلامها الذي نخشى ارتطامه بمرارة الواقع الذي يشكو اليوم من ضعف الموارد الذاتية للبلديّات، ضعف حجم الأملاك العائدة إلى المجالس المحلّية، ضعف نسبة التأطير التي لا تتجاوز 11.8% وصعوبة نقل الصلاحيّات العائد أساساً إلى الأسباب المذكورة آنفاً.

فالسؤال المطروح اليوم، ما هو الواقع الذي سيواجهه غداً “البناء الجديد” – إن رأى النور – بأيّ موارد مالية وبشرية ستقوم المجالس المنتخَبة بـ”التخطيط لمشاريع التنمية المحلّية والجهوية” وما هي الصلاحيّات الواسعة – الموعودة – التي ستتمتّع بها وبأيّ آليّات والدولة التونسية تواجه أحلك حقبة على المستويَيْن الاقتصادي والاجتماعي؟

في السياق نفسه، يصبح التساؤل حول علاقة المجالس المحلّية والجهوية كحجر أساس لاختيار المجلس التشريعي في السلطتين التنفيذية والقضائية مشروعاً. فإن سلّمنا بوجاهة الرقابة التي يمارسها المواطنون على ممثّليهم – على هنّاتها – هل من سبيل لمراقبة هذه المجالس من قِبل القضاء كما هي الحال اليوم؟ والسؤال الأهمّ الذي لا يزال غامضاً، هل تمارس السلطة التنفيذية رقابة على المجالس، وفي هذه الصورة لا مجال للحديث عن سلطة محلّية ذات صلاحيّات واسعة تعبّر عن إرادة الشعب؟ أم أنّ المجالس المنتخَبة هي مَن تمارس رقابة على السلطة التنفيذية وفي هذه الوضعيّة يمكن أن نشهد انحرافات خطيرة قد تعمّق النظرة التي تربط آلياً بين السلطة المحلّية وتفتيت الدولة، وهو ما انتقده مراراً الرئيس قيس سعيِّد من خلال استحضار بعض أمثلة الانحراف في مبدأ التدبير الحرّ؟

إنّ البناء القاعدي كما يُروَّج له لا يحمل في طيّاته أيّ حلول عملية لما تواجهه السلطة المحلّية من مشاكل ومحاولة معالجتها، بل يُرحَّل النقاش من نجاعة وفاعليّة عمل الجماعات المحلّية والموارد المستوجب إسنادها لها لتأدية دورها، إلى نقاش حول كيفيّة لا مَرْكَزَة السلطة التشريعية مقابل تغوّل السلطة التنفيذية.

إذا السلطة المحليّة سُئلت بأيّ ذنب قبرت

على غرار الدستور، لا وجود لأيّ ضمانة لخضوع أيّ خطوة في اتّجاه طيّ صفحة السلطة المحلّية من عدمها لنقاش عقلاني حول نقائص الفترة السابقة والإمكانيّات المتاحة في المستقبل. لكنّ ذلك لا يمنع من المطالبة بتشريح علمي وعقلاني للمسار اللامركزي لمعرفة أسباب هوانه – إن كان حتمياً – وتلافي وقوعه مستقبلاً مع أشياء قد نكون اعتبرناها مكاسب في الماضي القريب وأصبحنا اليوم نرذلها باسم إرادة الشعب.

للتاريخ، يجب القول إنّ تجربة السلطة المحلّية في تونس بدأت تتلمّس طريقها منذ سنوات ويجب القول إنّ المسار، وإن اكتنفته أحياناً رؤية ضبابية وتخبّط بعض رؤساء البلديّات وفهمهم المغلوط للتدبير الحرّ الذي يتمتّعون به، محفوف بالنوايا الطيّبة ألا وهي التأسيس لسلطة قرب تستجيب لتطلّعات المواطنين والمواطنات.

يواجه المسار اللامركزي تحدّيات عديدة على غرار نقص التكوين، نقص الموارد البشرية والمالية، ضبابيّة الرؤية. جميع هذه التحدّيات ستواجه أيّ مسار جديد يمكن أن يُقترَح، سواء حمل اسم السلطة المحلّية المكرَّسة في الباب السابع للدستور أو “البناء الجديد” الذي يحمله الرئيس سعيِّد. فالنوايا الطيّبة لا تصنع المسارات الناجحة. المسارات الناجحة تؤسَّس على الرؤية الواضحة ومراكمة التجارب وتقييمها وتطويرها.

لا نزاع في أنّ لحظة 25 جويلية وما لحقها من تبعات هي لحظة للتأمّل في العشريّة السابقة بما تحمله من إيجابيّات وسلبيّات. إلّا أنّ الخطر الكامن في هذه المرحلة التاريخية التي تمرّ بها السلطة المحلّية خصوصاً والتجربة الديمقراطية عموماً هي النزعة الجامحة للهدم وإعادة البناء من جديد بدون تفكّر وتبصّر وتشخيص دقيق لمواطن الخلل ومحاولة إصلاحها وتصحيح مسارها.

في النهاية، إنّ المشاريع المفرَغة من أيّ نقاش مُوسَّع وشامل لا يمكن أن تتجاوز تناقضاتها وثغراتها ولا يمكن أن يُرجى منها الخلاص وتأسيس تونس جديدة.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة


[1] أمر رئاسي عدد 71 لسنة 2021 مؤرّخ في 26 جويلية 2021 يتعلّق بأحكام استثنائية لعمل أعوان الدولة والجماعات المحلّية والمؤسّسات العمومية ذات الصبغة الإدارية.

[2] خلال لقاء الرئيس قيس سعيِّد بعدد من ممثّلي المنظّمات الوطنية يوم 26 جويلية 2021.

[3] بيان الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية.

[4] أُسّست الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية سنة 1973 وتمّت المصادقة على قانونها الأساسي في نوفمبر 1976 “سُمِّيَت منذ التأسيس “الجامعة الوطنية للمدن التونسية” ثم  سُمِّيَت “الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية” في 26 سبتمبر 2020، حيث تمّت المصادقة على نظامها الأساسي الجديد وانتخاب المكتب التنفيذي الجديد ورئيسه عدنان بوعصيدة، رئيس بلديّة رواد خلفاً للسيّدة رئيسة بلديّة تونس سعاد عبد الرحيم. ومن أهداف انشائها تكريس تمثيليّة فعلية لكافّة البلديّات التونسية بالإضافة إلى تعزيز التنسيق بين البلديّات والسلط العمومية والمساهمة في تكريس سلطة محلّية فعلية: https://bit.ly/3jFItfq.

[5] رئيس الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية ورئيس بلديّة رواد ترشّح خلال الانتخابات البلدية كمستقلّ على رأس قائمة حركة النهضة وانضمّ إلى كتلة حركة النهضة في بلديّة رواد إثر الانتخابات.

[6] بيان الجامعة الوطنية للبلديّات التونسية: https://bit.ly/3xPcWNj

[7] بيان رئيس بلديّة المرسى: https://bit.ly/3yGZjkb.

[8] على غرار رؤساء بلديّات حمام الشط وحمام الأنف وبومهل البساتين ومقرين في تاريخ 28 جويلية، ورؤساء بلديّات ولاية قفصة في تاريخ 27 جويلية.

[9] رؤساء بلديّات الزريبة، قعفور، العروسة، سيدي بورويس، قصيبة سوسة والثريات، زغوان، الزريبة، الصواف، سيدي الهاني، الجهينة، ساقية سيدي يوسف، المكنين، عميرة الحجاج، بوحجر، منوبة، الهوارية، قرنبالية، الناظور، سليانة، أكودة، مكثر، مساكن، القلعة الصغرى، المسعدين، زاوية سوسة، سيدي عيش، دار شعبان.

[10] على غرار رئيس بلديّة سيدي بوسعيد وإعلان رئيس بلديّة قرمبالية استقالته من الهيئة الإدارية للجامعة عقب البيان الصادر عنها.

[11] على غرار بيان رئيسة بلديّة دار شعبان.

[12] خلال مقابلة له على إذاعة شمس أف أم في تاريخ 6 سبتمبر 2019.

[13] في هذا الصدد انظر مقال مهدي العشّ، “الانتخاب على الأفراد حلّ ملغوم لأزمة الحكم”، المفكّرة القانونية“.

[14] زياد كريشان، “في عمق مشروع قيس سعيِّد البناء الديمقراطي القاعدي ووهم إرجاع السلطة إلى الشعب: عندما نلغي السياسة نؤسّس للفاشية” جريدة المغرب، 29 سبتمبر 2021.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، سلطات إدارية ، عدالة انتقالية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني