الهلال الأحمر نعى 4 شهداء من عناصره استشهدوا في 30 دقيقة ظهر يوم 11 تشرين الأوّل
“دخلنا ساحة المستشفى لم نجد جرحى، وجدنا مئات الشهداء أشلاء”، بهذه الكلمات يلخّص أحد أفراد الدفاع المدني المشهد ليل الثلاثاء الماضي في المستشفى الأهلي العربي المعمداني في غزّة، بعد أن تحوّل إلى كرة نار ملتهبة، وأحيلت ساحته إلى مقبرة جماعية، تتناثر فيها أشلاء المرضى والممرضين والمسعفين والأطباء والنازحين. وكان الطبيب غسان أبو ستة يجري عملية حينما سمع صوت صاروخ تلاه انفجار تسبّب بانهيار جزئي لسقف غرفة العمليات، حسب ما وثّق في شهادة خرج بها إلى العالم، مشيرًا إلى انتشار جثث أطفال ومصابين من كلّ الفئات العمرية في غرفة الطوارئ التي كانت تعجّ بالمرضى.
471 شهيدًا وفقًا لوزارة الصحّة في القطاع، مُزّقت أجسادهم وتناثرت أشلاؤهم، ومئات الجرحى، بينهم من فقد أطرافه أو تسبّب له الانفجار بإعاقات دائمة. وكثير من بينهم جرحى للمرة الثانية، بعد أن أُحضروا إلى المستشفى لمعالجة جراحهم من غارات سابقة. هذا يجعل من استهداف المستشفيات والقطاع الطبي برمّته مع كوادره يرقى إلى مرتبة جريمة القتل العمد الجماعي أو الإبادة الجماعية، ليس عبر منع العلاج وأدواته فقط بل أيضًا عبر اللحاق بالجرحى وقصفهم من جديد للتأكد من قتلهم بعد نجاتهم من الاستهداف الأوّل.
وفيما أكّد الفلسطينيون أنّ إسرائيل استهدفت المستشفى بغارة، وهو ما أيّدته دول عدة بينها دول عربية، نفت سلطات الاحتلال مسؤوليتها في الهجوم على المستشفى بعد انكشاف هول المجزرة وحمّلتها للجهاد الإسلامي في محاولة لإقناع الرأي العام ببراءتها، تمامًا كما فعلت في جرائم سابقة مثل اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة (2021) والتي أكّدت تحقيقات مفوّضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدّة في حزيران 2022 مسؤولية إسرائيل عنها.
وما يُفضي إلى تحميل الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية استهداف المستشفى المعمداني في ظلّ عدوانه المستمرّ على غزّة بوحشية غير مسبوقة منذ 7 تشرين الأوّل الجاري، إصداره ثلاثة إنذارات بالإخلاء للمستشفى قبل قصفه، كما واستهدافه لجميع أركان القطاع الصحّي في غزّة من أطباء وممرضين ومسعفين: إذ استشهد في غزّة لغاية 17 تشرين الأوّل، أي خلال 10 أيام، 37 كادرًا صحيًا وطبيًا، وأخرج من الخدمة 37 مركزًا للرعاية الصحية بينها 4 مستشفيات، وتدمّرت 23 سيارة إسعاف بالكامل. كما وثّقت منظمة الصحّة العالمية 136 هجومًا على القطاع الصحّي خلال هذه الفترة في غزّة (59) والضفّة الغربية (77) طالت مراكز صحيّة وسيارات إسعاف وأسفرت عن مقتل 491 شخصًا من ضمنهم 16 عاملًا صحيًّا خلال الخدمة في غزّة.
حتى هذه اللحظة، طلبت إسرائيل إخلاء 24 مستشفى ومركز رعاية صحيّة أوّلية في غزّة خلال الأسبوع الأخير تمهيدًا لقصفها، بينها أكبر مستشفيات القطاع، وهي شرعت باستهداف هذه المؤسّسات الطبية بالفعل، بعدما رفضت أطقمها الطبية مغادرتها وترك الجرحى لمصيرهم. وقد أدانت العديد من المنظمات الدوّلية أوامر الإخلاء هذه واعتبرتها منظمة الصحّة العالمية قد تصل “إلى الحكم بالإعدام”.
إعدام الجرحى عبر أوامر إخلاء المستشفيات
لأوامر الإخلاء العدوانية حيثيّاتها وذيولها، إذ يوجد في غزة 36 مستشفى ومركز رعاية أوّلية قدّمت وتقدّم العلاج لنحو 13 ألف و500 مصاب، إضافة إلى المرضى العاديين، وهو ما لم يشهده القطاع خلال 75 عامًا على النكبة. عمليات ميدانية من دون تخدير وأحيانًا في الهواء الطلق، والقدرة الاستيعابية لغرف العناية الفائقة نفدت، برغم مئات الجرحى المحتاجين لهذا النوع من العناية في ظلّ عدوان رُصدت فيه أسلحة خطيرة مثل الفوسفور الأبيض. هنا يصبح أمر إخلاء المستشفيات إعلانًا إسرائيليًا صريحًا بمنع العلاج عن المصابين وقتلهم عبر إهمالهم بحيث لا يبقى في غزة إنسان على قيد الحياة، حتى لو كان جريحًا، أو حتى طبيبًا أو ممرضًا أو مسعفًا لمداواة من تصيبهم الحرب. ومع نزوح عشرات الآلاف إلى المستشفيات بوصفها “ملاذات آمنة”، وفق القانون الدولي، هربًا من القصف الذي يطال المنازل والأبنية السكنية، يصبح هذا الاستهداف إعلانًا بأنّ لا مكانًا آمنًا في غزّة لأكثر من 2 مليون إنسان متروكين لمواجهة مصير القتل الذي قرّرته إسرائيل بتغطية دولية غير مسبوقة.
يقول حسام، الممرّض في مستشفى العودة، لـ “المفكرة”: “نحن العاملون في القطاع الصحي نشهد على فصول الإجرام الإسرائيلي كلّها، نحن نعرف كم عين قلعوا وكم رأس قطعوا وكم جسد مزّقوا، ونحن نطبّب من نطبّبه، وحينما تُستهدف سيارة إسعاف أو مستشفى، نداوي بعضنا وندفن بعضنا بعضًا، وننتظر موتنا”. لكن، ورغم الغصّة في صوته، يرفض حسام الإخلاء بحزم: “على الأقل نموت ونحن على رأس عملنا، نداوي شعبنا، نقاوم الإبادة بخبراتنا وما تبقى بحوزتنا من مواد طبية، بدل أن نخضع للاحتلال ونترك مرضانا ونهرب، وندع النكبة تتكرّر فوق جثث مرضانا الذين تعتمد حياتهم علينا، وفوق جثثنا نحن، لأننا إذا أخلينا المستشفيات، من يداوينا ويداوي أهلنا إذا أصبنا بعدها؟”
خلال أكثر من 200 ساعة، لم ينم حسام سوى 20 منها: “كلّما أغمضت عينيّ أستيقظ على أصوات الإسعاف، أنهض لأن هذا واجبي، ولأنّ صوتها لا يعني إلّا أنّ مجزرة جديدة حصلت. أبدأ بالتأكّد أنّ عائلتي ليست من بين الشهداء، وأوزع نظري بين نظرة إلى الجثامين وأخرى إلى المصابين بدل الاتصال في وقت متأخّر وإيقاظهم”. في خضم شهادته يخفت صوت حسام متهدّجًا “هذه أعتى الحروب التي عاصرتها ولم أشهد على إجرام مشابه”، لكنه ما يلبث أن يختم بحزم “العاملون في القطاع الطبّي يعتبرون استمراريتهم واجب نعم، ولكن الأهم هو فعل مقاومة في وجه الإبادة الجماعية التي نتعرّض لها جميعنا في غزة”.
يروي ممرّضون ومسعفون من غزة الكثير من المواقف التي امتحنت قدرتهم على الصمود في وجه هول ما يشهدون عليه، من دون أن يعني صمودهم أنّهم لا ينهارون بالبكاء بين الحين والآخر، أو أنّ بعضهم لم ينم قلقًا وبسبب التأهّب الدائم، لكن الصمود هنا هو الإصرار على الاستمرار رغم كلّ شيء. يقول من تواصلنا معهم إنّ عزيمتهم امتحنت مع بدء توالي تهديدات الإخلاء الإسرائيلية، “فهذه كانت أصعب الليالي عليّ”، يقول أحد الممرضين لـ “المفكرة”، ليروي عن مسعفين من الهلال الأحمر أنّهم اتصلوا بأسرهم يودّعونهم، “لأنّ الموت اقترب كثيرًا”. رغم ذلك، يؤكد الهلال الأحمر الفلسطيني في مواقفه المتتالية التي ينشرها على صفحاته الرسمية أنّ قرار الطواقم الطبية مجتمعة هو الاستمرار بتقديم الخدمات الصحّية حتى آخر نفس.
قصف “المعمداني”: جريمة حرب نعرف ضحاياها ونعرف مرتكبيها
مساء الثلاثاء 17 تشرين الأوّل، تحوّلت ساحة المستشفى الأهلي العربي المعمداني إلى صورة مصغّرة عن غزّة: أطفال يلعبون رغم الحرب، نساء فقدن أزواجهنّ أو أطفالهنّ، رجال فقدوا زوجاتهم وأطفالهم، أسرٌ نزحت، أو نزح من نجا منها بعد أن قُصِفت بيوتهم، آخرون هجّرهم ترهيب الاحتلال من كلّ الأعمار، ومن كل الفئات. ومع هؤلاء، بحسب شهود تحدثت إليهم “المفكرة القانونية”، مستشفى يعمل فوق طاقته بإمكانيات شلّها الحصار والعدوان: سيارات إسعاف تصل مسرعة لتغادر مباشرة إلى عملية إنقاذ أخرى، مسعفون يستقبلون الحالات الطارئة، ممرّضون يتحضّرون لمعاينة الإصابات وأطباء ينتقلون من مصاب إلى آخر، الجرّاحون يحاولون وصل ما مزقته الغارات، وكل طبيب لديه قوائم لا تنتهي من المرضى الذين ينتظرونه. أما موظفو برّادات الموتى فلا يهدأون، فيما حُمل الكثير من الشهداء إلى مثواهم الأخير على عجل، حتى أحيانًا من دون أن يودّعهم ذووهم، لعدم وجود مكان يحفظهم في البرادات التي لم تعد تتسع للمزيد من الضحايا.
الآلاف كانوا يجتمعون في المستشفى، في ساحته، وأروقته، وكنيسته، كنيسة القديس فيليبس، وحديقته. هم رغم ضرب محيط المستشفى بقذيفتين تحت عنوان “التحذير” قبل يومين (الآن بتنا نعرف أنّها كانت تحذيرية) أصابت أربعة ممرضين ودمّرت أقسامًا منه، لم تتصوّر عقولهم، حتى في الخيال، أنّ في هذا العالم من يقصف مستشفى، بحسب شهادات من بقي من بينهم على قيد الحياة. وُثقت مشاهد تَثبّتت “المفكرة” من مصدرها، أنّ الأطفال كانوا يلهون في مراجيح في حديقة المستشفى قبل يوم من استهدافه، وبُثت فيديوهات توثق آخر لحظات لهوهم.
المستشفى المعمداني، كما المستشفى الأوروبي، كانا من بين المستشفيات التي تلقت أوامر بالإخلاء، وأعلنت الكنيسة الإنجيلية في القدس المحتلّة التي تدير المستشفى تلقّي 3 إنذارات هاتفية من قبل السلطات الإسرائيلية أيام السبت 14 والأحد 15 والإثنين 16 تشرين الأوّل قبل قصف المستشفى يوم الثلاثاء، وهو ما يؤشر إلى قرار إسرائيل باستهدافه. ودخلت المستشفيات دائرة الاستهداف رسميًا مع إعلان الاحتلال الإسرائيلي ضرورة إخلائها، في إطار طلبه من الفلسطينيين إخلاء القسم الشمالي من القطاع والتوجّه نحو الحدود الجنوبية مع مصر، وهو ما شكل إعلانًا صريحًا لاستكمال التطهير العرقي.
قال الطبيب غسان أبو ستة في شهادته إنّ “مجزرة المعمداني هي جريمة رآها العالم قادمة”، في إشارة إلى الصمت الدولي رغم أنّ التهديدات الإسرائيلية للمستشفيات توضّحت قبل أيام على مباشرة قصف محيطها أو قصفها مباشرة. يَبرز هنا كيف يتمّ تحضير العالم لتقبّل مثل هذه المجازر من تصريحات إسرائيلية تطالب بقصف مستشفيات فلسطينية، وصولًا إلى تقارير إعلامية غربية تجعل استهداف المستشفيات والمدارس الفلسطينية محلّ نقاش من خلال التساؤل عما إذا كانت تشكل أهدافًا مدنية أم عسكرية، في تدعيم للدعاية الإسرائيلية بأنّ كلّ غزّة هي هدف مشروع. برز ذلك بشكل صريح في منشور لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” طرح السؤال التالي: “هل تبني حماس أنفاقًا تحت المستشفيات والمدارس؟”، مرفق بصورة مسلّح داخل نفق، ولم يقدّم المنشور أيّ معلومات تدعم أو تدحض هذه المزاعم، واكتفى بالإجابة على السؤال بعبارة “من المحتمل”، لكنه منح الاحتلال الإفادة من الشك وبالتالي تبرير استهداف هذه المؤسسات. ونُشر المنشور قبل ساعات من مجزرة المعمداني، ليُلحق بتقرير آخر عقب الاستهداف “يتبرّع” بإجراء تحليل عسكري يخلص إلى عدم إمكانية تحديد مسؤولية الاحتلال في استهداف المستشفى استنادًا للمعلومات المتوّفرة، وذلك رغم الإنذارات العلنية الإسرائيلية واستهداف القطاع الصحّي بشكل متعمّد ومنهجي.
وعقب مجزرة المعمداني، وفيما كان العالم يحاول استيعاب الصدمة، استهدفت الطائرات الحربية محيط ومدخل مستشفى غزة الأوروبي والمستشفى الميداني الإماراتي جنوب قطاع غزة، ما أدى إلى تضرّر أجزاء منه. وكان يتمّ حينها نقل مئات الضحايا إلى مستشفيات أخرى، فيما طواقم الإسعاف تُجلي الأشلاء، وجاء القصف كرسالة أكثر وضوحًا للطواقم الصحية: لا مكان آمن لكم.
أبرز المستشفيات المهدّدة بالقصف المباشر
كان مجمّع “الشفاء” الطبي أبرز المؤسّسات الطبية التي نُقل إليها المصابون من المستشفى المعمداني بعد العدوان عليه. وفي هذا المجمّع الأكبر في غزّة، أجريت العمليات في الأروقة، وبدون مخدّر، في معركة غير متكافئة مع القدر. لكن “الشفاء” الواقع في شمال القطاع بدوره على رأس قائمة المستشفيات المهددة من قبل إسرائيل مع 40 ألف نازح داخل حرمه. أكدت المصادر الطبية في المستشفى لـ “المفكرة” أنّ حاله “كسائر مستشفيات القطاع، خارج سيطرة الكادر الطبي على الوضع”بعد أن تخطّى عدد المصابين كما الشهداء في 12 يومًا، عدد ضحايا حرب 2014 التي امتدّت 51 يومًا، حيث حصدت آلة القتل الإسرائيلية يومها 2322 شهيدًا و11 ألف جريح، بينما تعدت حصيلة العدوان الحالي 3859 شهيد ونحو 13500 جريح خلال 13 يومًا من الحرب، وهو ما يجبر الأطبّاء اليوم مضطرّين على المفاضلة أحيانًا بين المصابين في أولوية العلاج.
يصمد “الشفاء” اليوم بالوقود بعدما حمل الغزّاويون وقود منازلهم إليه ودعمته بعض المنظمات الإنسانية من مخزونها الاستراتيجي من الوقود والمستلزمات الطبية ومحطّات الوقود، وهو ما مدّد عمر الصمود لساعات إضافية تنتهي بين الساعة وأختها، ويشرّع الأبواب أمام الموت ليخيّم فوق رؤوس الجميع، وخصوصًا أنّ هناك عشرات الجرحى يعيشون على آلات الأوكسيجين بعدما قطعت إسرائيل الكهرباء عن القطاع المحاصر واستهدفت محطة الكهرباء الوحيدة فيه. وفي مجمّع “الشفاء”، لا مياه تكفي لتطهير وتعقيم المعدات الطبية، ولا إمكانية لنقل المرضى من غرف العمليات إلى غرف العناية بسبب امتلائها. ويُجري الأطباء عملياتهم في أي مكان، وحتى على أسرّة الأطفال والمواليد الجدد ويفترش المرضى الأروقة وحتى باحات المجمّع وطرقه الداخلية. ويكافح “الشفاء” للاستمرار، وقد رفض طاقمه الطبي الإخلاء ليبقى أمينًا لاسمه في توفير الشفاء لمن استطاع إليه سبيلًا.
يمكن تعميم حال “الشفاء” على باقي المستشفيات في القطاع. بشكل عام، وإذ يعبّر الرئيس الدولي لمنظّمة أطباء بلا حدود كريستوس كريستو بأنّه كجرّاح، يعجز عن تخيُّل كيف تجرى عمليات جراحية من دون تخدير، ويوثّق الطبيب أبو ستّة لجوءه إلى الخلّ لعلاج التهابات الجروح البكتيرية، فإنّ هذا الواقع هو رأس جبل الجليد مع بدء نفاد المخزون الاستراتيجي من المواد الطبية في القطاع في ظل الحصار.
Vinegar from the corner shop to treat pseuodomonas bacterial wound infections. Its come to that. pic.twitter.com/mEE4haHMyj
وفي المستشفى الأندونيسي الذي هُدّد بالإخلاء أيضًا، وهو ثالث أكبر مستشفيات غزة، وصلت الطاقة الاستيعابية إلى أقصاها. وهو كان أوّل مستشفى يستهدفه الاحتلال الإسرائيلي حينما قصفه بصاروخ في الساعات الأولى للحرب التي بدأت في 7 تشرين الأول، ممّا أدى إلى استشهاد أحد العاملين فيه، وتعطُّل محطة الأوكسجين بداخله. كما سُجّلت إصابات إضافية إثر قصف سيارة إسعاف عند مدخل مستشفى النصر للأطفال ظهر أوّل أيام الحرب، لتتوالى الاستهدافات لمحيط كلا المستشفيين، ما دمّر أقسامًا منهما.
وفي مستشفى “القدس”، أعلن الهلال الأحمر الفلسطيني تلقّيه 3 أوامر بإخلاء المستشفى التابع له “لكن أعلنّا عدم إمكانية الإخلاء”. وكان “القدس” من أوّل المستشفيات التي استُهدفت عقب أمر إسرائيلي بالإخلاء، حيث تضرّرت الشوارع المحيطة به، ليعود ويُستهدف محيط المستشفى في قصف عنيف ليل أمس الأربعاء 18 تشرين الأوّل، مما أدّى إلى تدمير أبراج تبعد أمتارًا عنه، ووقوع أضرار بالغة فيه جرّاء تطاير الشظايا. وهذه الشظايا هي “رسائل الاحتلال إلى الطاقم الطبي والمرضى تنذر بأنّ مصير مستشفى المعمداني عينه يحدق بهم”، بحسب ما نقله ممرّض عن أحد النازحين إلى المستشفى.
ونقل الهلال الأحمر فجر اليوم الخميس “حالة من الرعب والهلع بين صفوف 8000 نازح موجودين في مبنى الجمعية ومستشفى القدس جراء الاستهداف المتواصل بالغارات في محيط المكان”، مؤكدًا أنّ زجاج المباني تطاير وانهار جزء من السقف فوق رؤوس النازحين.
ووثّق الهلال الأحمر الفلسطيني أضرارًا في قسم العناية المركّزة “حيث معظم الحالات في القسم من الأطفال”، وهو أكّد مجدّدًا أنّ إخلاء المستشفى غير وارد، بسبب استحالته، لكنّ مخزونه الاستراتيجي من الوقود بدأ ينفد، ما يعني حكمًا بالإعدام على المصابين بأيّ لحظة الآن”.
وقد دمّر القصف الإسرائيلي تباعًا أجزاء من مستشفى “العودة” في جباليا، المهدّد بالإخلاء أيضًا، فيما قُصِف محيطه بشكل عنيف. وإذ أكد الطاقم الطبي في المستشفى، المؤلف من موظفين ومتطوّعات بالمئات، تمسّكهم بأداء مهمتهم، أعلنت إدارة المستشفى الثلاثاء 17 تشرين الأوّل أنّ ما لديها من الوقود لتوليد الكهرباء يكفي حتى يوم السبت المقبل فقط.
مستشفيات خارج الخدمة
بدءًا من اليوم الثالث للعدوان على غزة بدأ إخراج بعض المستشفيات من الخدمة، وتحديدًا بعد أن أغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية على مبنى المستشفى الدولي للعيون في تل الهوى ما أدى إلى تدميره بالكامل. وفي اليوم التالي، أعلنت السلطات الصحّية أنّ مستشفى بيت حانون (الوحيد في منطقته) بات خارج الخدمة، بعدما دمّرت إسرائيل المباني المحيطة به والتي تكوّمت فوقه فاستحال الدخول والخروج منه، مع تضرّر أجزاء واسعة منه.
يوم الجمعة 13 تشرين الأوّل، استهدفت طائرات الاحتلال مستشفى الدرّة للأطفال (شرق غزة) بقنابل الفوسفور الأبيض، ليهرع الممرضون ويخلوه على الفور، بحسب وزارة الصحة في غزة. كذلك خسر القطاع الصحي الفلسطيني المستشفى الميداني الأردني (يتبع للجيش الأردني) الذي، وعقب إنذاره بالإخلاء والذي لم يكن ممكنًا تنفيذه، استهدفته طائرات الاحتلال مباشرة يوم السبت 14 الجاري، بعد أن مهدّت بحزام ناري من القصف العنيف على محيطه. وهو، بحسب الإعلام الأردني الرسمي كان على شفير الانهيار الخدماتي بسبب نقص اللوازم الطبية، لكن عمان قالت إنّها ستعيد العمل به بعد أن كان كادره الصحي الأردني يهمّ بالمغادرة.
ويوم الثلاثاء 17 الجاري، وقبل ساعات من مجزرة المعمداني، خرج مستشفى الكرامة عن الخدمة بعد أن ألحق القصف العنيف على محيطه أضرارًا بالغة به، حيث استهدف الاحتلال المباني المجاورة وأسقطها باتجاهه. بدوره أعلن مستشفى “الصداقة” التركي توقف قسم كبير من خدماته عن العمل، وهو المتخصّص الوحيد بالأورام في قطاع غزة، بينما أخلي مستشفى “حمد للتأهيل” ومركز إسعاف الهلال الأحمر، بسبب انعدام الأمان والقصف المتكرر.
العاملون في القطاع: لن ندع النكبة تتكرر فوق جثث مرضانا
تقول ممرضة في مستشفى العودة من غزة تواصلت “المفكرة” معها: “نحن نعمل بشكل متواصل، تحت ضغط ساعات العمل المنهكة، وهول المجازر، وأعداد الضحايا والجرحى الضخمة، وغياب الأمان عن عائلاتنا وعنا”. تذكر الممرضة الفلسطينية قصص زملاء لها، مثل الطبيب عبد الله أبو ندى الذي قضى 10 أيام من الحرب بين جدران المشفى، قبل أن يصله خبر استشهاد زوجته وأطفاله الأربعة في قصف طال منزله، لتقول إننا “نتوقع استقبال أقاربنا او أفراد أسرنا جثثًا بين اللحظة والأخرى، وحتى اللحظة، لا أذكر أنّ سيارة إسعاف وصلت ولم تكن تحمل شخصًا يعرفه أحدنا بشكل أو بآخر”.
والمسعفون يتجوّلون تحت القصف في غزة، ويُستهدفون. وقد أبلغ الهلال الأحمر في بياناته عن قصف سياراته مرات عدة، فيما يحكي الغزاويون عن أنّ القصف الإسرائيلي كثيرًا ما يستمر لفترة طويلة لمنع المسعفين من الوصول إلى المصابين، وإذا وصلوا فإنّهم أحيانًا يتعرّضون للقصف. وقد كان ظهر يوم 11 تشرين الأوّل أكثر الساعات دموية للهلال الأحمر الفلسطيني، حيث استشهد 4 من كوادره خلال 30 دقيقة، 3 منهم في شمال القطاع وشهيد في غزة المدينة. وأكد الهلال الأحمر أنّ “الاحتلال قصف سيارات الإسعاف باستهداف مباشر، رغم تنسيقنا مع الصليب الأحمر الدولي”. وفي تفاصيل الاستهداف في شمال غزة، توجّهت 3 سيارات إسعاف حينها إلى منطقة المقبرة الشرقية تلبية لنداء استغاثة، ليتجدّد قصف الاحتلال فور وصولهم. ويروي الناجون أنّهم، رغم انسحابهم نحو شارع صلاح الدين بسبب القصف، فإنّ الطائرات الحربية قصفت أولى المركبات، ليستشهد المسعفون خليل الشريف ويسري المصري على الفور. بعدها استتبع الاحتلال قصفه باقي المركبات، فاستشهد المسعف أحمد دهمان، وفيما تمكّن عدد من المسعفين من الهرب من سيارات الإسعاف التي “قصفها الاحتلال، استُأنف قصفها خلال أقل من دقيقة للتأكد من قتل كل من فيها”، بحسب ما نقل مصدر طبي في غزة لـ “المفكرة” عن ناجين من عناصر الإسعاف.
وبعد المجزرة، انتشرت مشاهد المسعفين المفجوعين باستشهاد زملائهم، خصوصًا أنّه كان يفترض أنّ شعار الهلال الأحمر الدولي سيحميهم، وهو ما ضاعف الصدمة والألم للمسعفين المرهقين بعد أسبوع من الحرب المسعورة.
رغم الصمود الذي يبديه الطاقم الصحّي الفلسطيني، والتمسّك بالبقاء في المستشفيات حتى آخر لحظة قبل القصف الذي تهدّد به إسرائيل، فإنّ إجراءات الاحتلال لإحكام الحصار على شعب غزة تجعل مستشفيات القطاع من دون استثناء في حالة انهيار حقيقي. فانقطاع الكهرباء ونفاد الأدوية والمستلزمات الطبية والوقود يضعه أمام خطر الإيقاف القسري، ومجددًا: حكم إعدام على مرضاه وكلّ مصابي الحرب الحاليين والمحتملين. إلى جانب ذلك، تعتمد بلديات غزة على الوقود لأغراض حيوية مثل ضخّ المياه وجمع النفايات، ونفاده يهدد السكان بمختلف الأمراض خصوصًا مع انقطاع مياه الشرب فضلًا عن النقص في الغذاء والتجويع الحاصل.
في نهاية هذا التقرير لا بد أن نحاول الإجابة على سؤال الناجين من مجزرة المعمداني “من يضرب مستشفى؟” لأنّ لهم الحق بالسؤال، ولهم الحق بالحصول على جواب، ولأنّ هذا هو السؤال الذي يطرحه كل من يتابع أخبار غزة. إن الذي يضرب مستشفى، بل يسعى إلى ضرب كل المستشفيات، ويستهدف سيارات الإسعاف ويقتل المسعفين، هو جيش ينفذ حملة تطهير عرقي بمباركة عالمية بذريعة الدفاع عن النفس، ويخيّر الفلسطينيين بين التهجير أو الإبادة، فيما العالم بين صامت أو مشارك.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.