الصورة المستخدمة مأخوذة من حساب "سانا بالعربية" التقطتها أقمار شركة Maxar وترصد الدمار الهائل في غزة
ليستْ الحرب الأولى التي تشنّها إسرائيل ضدّ غزّة أو التي يسقط فيها آلاف القتلى والجرحى. لكنّها الأكثر خطورةً في ظلّ الإعلان عن مخطّطات لتدمير غزّة وتهجير أهلها، بل مباشرة أعمال حربية أوّلها فرض حصار شامل عليها لا يمكن فهمه إلّا من منظار هذه المخطّطات. وفي حين تزداد المخاوف من “نكبة” جديدة مشابهة لنكبة 1948، سارعتْ المقرّرة الخاصّة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلّة فرانشيسكا ألبانيز إلى إعطاء التوصيف القانونيّ الصّحيح لاحتمال حصول نكبة جديدة وهو التطهير العرقيّ، داعيةً الدول الكبرى إلى تحمّل مسؤولياتها في وقف حصوله. هذا التخوّف بلغ أوجه مع إنذار الجيش الإسرائيلي ليل الجمعة (13 أكتوبر) ساكني النصف الشمالي من غزة (أكثر من مليون ومائة ألف ساكن) بوجوب ترك منازلهم وأحيائِهم للتوجّه إلى جنوبها تمهيدًا لهجوم برّي. ولكنّه بات أيضًا يجد أساسًا له في خطاب كبار المسؤولين الإسرائيليين، أبرزهم الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوغ الذي ذهب إلى حدّ إباحة قتل المدنيين وإنزال عقوبة جماعية بهم تبعًا لتحميل شعب غزة (أمّة كاملة كما أسماه) مسؤوليّة الأعمال التي قامتْ بها “حماس” بفعل عدم انتفاضته ضدّها. هذا فضلًا عن سلسلة من المواقف صدرتْ عن مسؤولين حاليين أو سابقين مثل وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غلانت الذي أكّد على فرض الحصار التام على غزّة وذهب إلى حدّ وصف سكّانها بـ “الحيوانات البشرية”، أو أيضًا ما جاء على لسان مسؤول سابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية بشأن وجود مخطط لبناء مدن جديدة لسكّان غزة في سيناء بعد تهجيرهم منها على غرار ما حصل بعد تهجير ملايين السوريين إلى تركيا وفق قوله. وقد تُرجم كل ذلك في حصار شامل وقطع إمدادات الوقود والغذاء والماء والدواء وصل إلى حدّ التجويع وفي قتل متمادٍ ومتواصل بمتوسط 19 قتيلًا كل ساعة ثلثهم على الأقل أطفال فضلًا عن قصف سيارات الإسعاف وإنذار مديري مستشفيات عدّة بوجوب إخلائها من مرضاها.
ورغم خطورة هذه الأفعال والتّصريحات، لا تزال مواقف أغلب دول الشّمال السياسي وبخاصّة في الاتّحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية مؤيّدة للعملية العسكريّة تحت مسمّى حقّ إسرائيل في الدّفاع عن نفسِها تبعًا للهجمات التي شنّتها “حماس” يوم 7 أكتوبر. وفيما ساد خطابٌ في هذه الدول قوامُه وجوب إدانة “حماس” بصورة قاطعة من دون إيلاء أيّ اعتبار للسّياق الذي حصلتْ فيه هجماتها وضمنًا واقع الاحتلال والفصل العنصري والحصار شبه الأبدي لعدم جواز تبرير جرائم الحرب في أيّ ظرف، غضّت هذه الدول الطرف عن جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل متجاهلة مواقف مُتلاحقة صدرتْ عن مسؤولين أمميين ومنظّمات دولية عدّة ومؤخرًا مسؤولين حكوميين أوروبيين وبخاصّة في إسبانيا. وكأنّها تعتبر أنّ بإمكان إسرائيل أن تبرّر جرائم الحرب المرتكبة منها بفعل ظرف معيّن (الأفعال التي قامت بها “حماس” في 7 أكتوبر في غلاف غزة)، وذلك بخلاف “حماس” التي ليس لها أن تبرّر جرائمها تحت أيّ ظرف. أو كأنّها تعتبر أنّ “حقّ الدفاع” لإسرائيل يعلُو القانون الدولي. وقد تفاقم هذا الخطاب بفعل لجوء السلطات العامّة والوسائل الإعلامية إلى قمع أيّ رأي مخالف له بطرق مختلفة تتراوح من الصرف من العمل إلى تطبيق القوانين الجزائية ومنها قانون مكافحة الإرهاب، كل ذلك على نقيض مبادئ حرية التعبير.
تعليقًا على التطوّر السريع لوقائع الحرب والجريمة في غزّة، يهمّ “المفكّرة القانونية” إبداء المواقف الآتية:
نثني على مطلب المقرّرة الخاصّة للأمم المتّحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلّة فرانشيسكا ألبانيز بوجوب وقف فوريّ لإطلاق النّار والحصار الشّامل على غزّة بما يمكّن الناجين فيها من الوصول إلى حاجاتهم الأساسية، إذ أنّ أوّل الأولويات اليوم هو الحؤول دون ارتكاب جريمة إبادة وتطهير عرقيّ جديدة، ودون ارتكاب جريمة من شأنها أن تؤجّج الصراع لتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي في كلّ أبعاده وأن تقوّض أيضًا فأيضًا آمال المنطقة والبشرية ببناء عالم آمن وعادل. ومن المهمّ هنا بمكان التّذكير بأنّ جرائم الإبادة والتطهير العرقي الحاصلة على قدم وساق في غزة هي تحديدًا من نوع الجرائم التي تعهّد العالم عدم تكرارها في أعقاب الحرب العالمية الثانية وأنّ المادة 8 من اتفاقية “منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها” تفرض على الدول التدخّل لمنع حصول الإبادة، بما يجعل أي دعم أو تسهيل لها بمثابة اشتراكٍ فيها.
إنّه من واجب جميع الدول، وبخاصّة الدول الكبرى والنافذة والمانحة، تحمّل مسؤوليّتها في معالجة العوامل البنيويّة الفاقعة للصراع المذكور، وأهمّها استمرار الاحتلال والفصل العنصريّ والاستيطان في الضفة وحصار غزّة في موازاة نكران شبه تامّ لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. إذ أنّ من شأن التعايش مع هذا الواقع والتطبيع معه من دون أيّ مسعى لمعالجته أن يحوّل الشعب الفلسطيني إلى ضحيّة أبديّة بتواطؤ دوليّ بما يتعارض مع أسس القانون الدولي وأن يفاقم من الصراع والحروب التي ستنشأ حتمًا عنه.
مع تسليمنا أنّه يتعيّن على قوى المقاومة الفلسطينية الالتزام بأحكام القانون الدوليّ الذي يقرّ الحقّ في المقاومة كحقّ طبيعيّ، فإننا في الآن نفسه نرفض تمامًا التوجّهات الآتية سواء صدرت عن السلطات العامّة أو وسائل الإعلام الكبرى: (1) أن تتواصل محاولات شيطنة قوى المقاومة على نحو يؤدّي عمليًا إلى إنكار حقّها واحدة بعد الأخرى بالوجود بعد توصيفها بالإرهاب، و(2) أن تستخدم الأفعال المنسوبة إلى “حماس” لتبرير جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية ضدّ الشعب الفلسطيني برمّته تحت مسمّى الدفاع عن النفس، وهي جرائم من شأنها أن تفاقم واقعه وأن تزيد من تأجُّج آتون الصراع في مختلف أبعاده، و(3) أن يتمّ التعامل مع المدنيين الفلسطينيين على أنّهم أقلّ شأنًا من سائر البشر وصولًا حدّ توصيفهم بالحيوانات البشرية بما يتعارض تمامًا مع مبدأ عدم التمييز. فمن شأن توجّهات كهذه أن تحوّل القانون الدوليّ إلى مُجرّد أداةٍ لحماية الاستعمار ضدّ المستعمر والاحتلال ضدّ المحتلّ والغاصب ضدّ المغتصب أو أيضًا نظام الفصل العنصري ضدّ الشعوب التي تمارَس العنصرية عليها. كما من شأنها أن تحوّله بالنتيجة إلى أداة هيمنة أكثر ممّا هي أداة لبناء السلام العالمي المبني على أسس العدالة، على نحو يجرّده تمامًا من سبب وجوده. فكأنّما دولًا كبرى تسخّر بعض المفاهيم والمقاربات المغلوطة من أجل إعادة قولبة القانون الدولي على قياس واقع القوّة بعدما فشل هذا القانون في صنع واقع ينسجم مع أحكامه. وبالطبع ليس لهذا الأمر أن يحصل من دون تجهيل تاريخ الصراعات وسياقاتها مع كل ما يستتبع ذلك من ازدراء لمعاناة شعوب من الضحايا يتعايش العالم مع بقائها كذلك.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.