200 ألف طفل يعانون سوء التغذية: ماذا يأكل الأطفال في لبنان؟


2022-03-21    |   

200 ألف طفل يعانون سوء التغذية: ماذا يأكل الأطفال في لبنان؟
أطفال يلهون في طرابلس قرب نهر أبو علي. التقطت الصورة في 13-12-1976 (المصدر: صفحة نقد بنّاء على فيسبوك)

تسأل ممثلة منظمة الأمم المتحدة للطفولة بالإنابة – “اليونسيف” في لبنان، إيتي هيغينز في مقدّمة تقرير المنظمة “التغذية في أوقات الأزمات”: “ماذا، متى، وكيف يأكل الأطفال قبل عمر السنتين في لبنان؟” باعتبار أنّ ما يتناوله الأطفال في هذا العمر هو أهم ما قد يحصلون عليه في أي مرحلة عمرية أخرى في حياتهم. وتجيب: باختصار “لا يحصل آلاف الرّضع وصغار الأطفال في لبنان على التغذية التي يحتاجونها للبقاء على قيد الحياة والنمو”، وإذا ما توسّعنا نحن في الإجابة، نجد معطيات صادمة ومؤلمة جداً.

ففي ظلّ تنامي الأزمة الاقتصادية التي تخنق العائلات وتغرقها في براثن العوز، اختزلت بعض العائلات الوجبات الغذائية لتوفّر ثمنها، وتكتفي بوجبة واحدة في اليوم. وهناك من تخلّى عن تناول اللّحوم والدجاج والسّمك والألبان والأجبان وحتى الخضار، وصارت موائدهم لا تحتوي غير الخبز وبعض البقول كالعدس والبرغل. ومن يعجز عن تأمين الحليب لطفله، يتحايل عليه بالماء والسّكر أو الماء مع الأرز المطحون.

هذه الصورة المقلقة حول انعدام الأمن الغذائي عند الأطفال ظهرت جلياً في نتائج المسح الذي نفّذته وزارة الصّحة العامة في لبنان في العام الماضي بدعم من اليونيسف، وشمل أطفالاً دون الخامسة من عمرهم ونساءً في سن الإنجاب. فبحسب المسح الذي نشرت نتائجه في تقرير “التغذية في أوقات الأزمات”: “تسعة من كلّ عشرة أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و23 شهراً لا يتلقون الحد الأدنى من النظم الغذائية اللازمة لصحتهم ونموّهم وتطوّرهم”. كما يشير إلى أنّ “نحو 200 ألف طفل دون الخامسة في لبنان يعانون أحد أشكال سوء التغذية مثل: فقر الدم، نقص النمو (التقزّم)، مرض الهزال (انخفاض الوزن بالنسبة للطول). وتتوقع منظمة الأمم المتحدة للأطفال “اليونيسف” في تقرير نشرته في شباط الماضي حول نتائج المسح ذاته “ارتفاع هذه الأعداد بشكل كبير في ظل عدم ظهور أي بوادر حلول للأزمات المتشعبة في لبنان”.

كيف أثرت الأزمة على ما يأكله الأطفال؟

لم تتخيّل سحر أن يكون حرمان أولادها مثل الأخطبوط تصل ذراعه لتشمل أقلّ حقوقهم واحتياجاتهم. بدأ حرمانهم من شراء الثياب والألعاب و”المشتريات” (الكلمة العامية للسكاكر) و”المشاوير” منذ سنتين. ووصل اليوم إلى حدّ حرمانهم من الأكل. تنزل إلى السوق لتشتري قوت العائلة. فتجد المال بين يديها “لا يكفي لشراء حبة بندورة وحبة حامض”، كما تقول بحرقة. تبحث بعجز، فتجد “الغلاء يضرب كل أصناف الأطعمة”. تعود إلى منزلها خالية الوفاض، وهي تفكر: “ماذا سأطهو اليوم لأطفالي”؟ ينتظرها ابنها جعفر (سنتان) عند الباب ويسألها كما في كل مرة: “جبتيلي شوكولا وبطاطا مثل ما وعدتيني؟” فلا ترد. تطلّ ابنتها نور (6 سنوات) فتجدها لا تحمل أكياساً من الخضار والفواكه والدجاج كما حلمت. فتعرف أن طعام اليوم سيكون أيضاً: “مجدرة حمراء”. تحبس سحر دموعها بصعوبة وتقول لهما: “السكاكر مضرّة بالأسنان أما المجدرة فتساعدكما لتكبرا وتصبحا أقوياء”. تعرف هذه السيدة جيدا أنها “تكذب”، لأن “الأولاد يحتاجون إلى تناول اللحوم والدجاج والخضار والفواكه والحليب… لكنني لأ أملك ثمنهم، فماذا أفعل؟ هل أسرق لأطعمهم”؟ تسأل. بالكاد تستطيع هذه السيدة تأمين ثمن الخبز والماء والبقول والزيت وجرّة الغاز… “زوجي سائق أجرة وما يجنيه يوزع بين أجرة منزل والمصاريف الشهرية ولا يبقى لتأمين الغذاء إلا ما ندر”.

عتاب أم لأربعة أولاد، أصغرهم في الثالثة من عمره، وأكبرهم في الثانية عشر. يعمل زوجها في فرز الخردة مقابل أجر زهيد يقارب مليون ونصف المليون في الشهر. بعد دفع الفواتير الشهرية، تجد بين يديها مبلغاً لا يكفي لتأمين أدنى احتياجات العائلة من الغذاء. تمر أيام ينام أطفالها الأربعة جائعين من دون أن يدخل إلى أمعائهم الخاوية غير الخبز والماء. والأحوال ليست أفضل بكثير في باقي الأيام. فهي تكتفي بتحضير وجبة واحدة في اليوم، وتقدّمها لأطفالها مساء عندما يعود زوجها من العمل. هل يعني ذلك أنه منذ الصباح الباكر حتى ساعات المساء المتأخرة لا يأكل الأطفال شيئاً؟ “نعم كان يحصل ذلك، إلى أن علمت زوجة أخي أن أولادي يبكون جوعاً، فصارت ترسل إلينا طبقاً صغيراً مما تحضّره من طعام ليسدّ الأولاد جوعهم”، تحكي عتاب بغصّة.

أما رائدة، فاختزلت الوجبات الغذائية اليومية من ثلاث إلى اثنتين. وتخلّت عن كثير من أصناف الطعام. فالدجاج واللحوم والأسماك لم تدخل منزلها منذ سنة، و”ابنتي التي لم تبلغ العامين من عمرها تشتهيها وتطلبها كثيراً، لكن ما باليد حيلة”، كما تقول. ماذا تطهو رائدة لابنتها؟ “طعامنا يرتكز على الحبوب مثل المجدرة والبرغل مع بندورة أو البرغل مع حمص”. تكرر الأصناف نفسها طيلة الشهر، فراتب زوجها “تقضمه أجرة المنزل”، على حد تعبيرها، ولا يبقى منه إلّا القليل. لا تحتوي مائدة رائدة على أيّ من أنواع الخضار والفاكهة ولا مشتقات الألبان والأجبان. وحدها البطاطا المقلية “أزيّن المائدة عندما أفكر في تنويع الطعام!”                                                                                                                                                                

سوء التغذية الحاد وضعف النمو

تنعكس هذه التغييرات في الأنماط الغذائية للعائلات سوء تغذية حاداً عند الأطفال وضعفاً شديداً في النمو وهو ما برز جلياً في المسح الذي نفّذته وزارة الصحة مؤخراً في إطار الإستراتيجية التغذوية التي تقودها “اليونسيف” ومنظمة العمل ضد الجوع. شمل المسح 3550 طفلاً دون الخامسة و9200 امرأة في سنّ الإنجاب، وأجري في الربع الثالث من العام 2021. فقد تبيّن أنّ 1.8% من عموم الأطفال على المستوى الوطني يعانون سوء التغذية الحاد و7% يعانون من ضعف النمو الشديد. وترتفع نسبة الإصابة بسوء التغذية إلى “5% لدى النساء الحوامل والمرضعات”. وتلفت اختصاصية التغذية زينب ياسين في هذا الإطار إلى أنّ “الأمهات اللواتي يعانين سوء التغذية الحاد خلال فترة الحمل والرضاعة يتأثر أطفالهم بشكل كبير وينتقل سوء التغذية إليهم كالعدوى”.

تعرّف ياسين سوء التغذية الحاد بأنّه “نقص في العناصر الأساسية التي يحتاجها الجسم من الفيتامينات والمعادن والمغذيات”. ويعدّ من المشاكل الخطيرة المنتشرة عالمياً، لا سيما في البلدان الفقيرة. إذ “يقف وراء وفاة 45% من الأطفال حول العالم”، بحسب تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية في حزيران عام 2021 بعنوان “تغذية الرضع وصغار السن”.

ينتج عن سوء التغذية الحاد عند الأطفال ما يسمى بالتقزّم، بما معناه “ضعف النمو الشديد، فيبدون أقصر مما يفترض أن يكونوا عليه في أعمارهم”. بحسب المسح، “ينتشر التقزم لدى الأطفال في لبنان بمعدل 7%، وترتفع معدلاته أكثر في صفوف السوريين فتبلغ 25%، علماً أنّها كانت لا تتجاوز 17% عام 2013”. وتكمن خطورة التقزّم في نتائجه الوخيمة على صحة الأطفال البدنية والنفسية وقدراتهم المعرفية. “فهو يتسبب بضعف المناعة وما ينتح عنه من بطء في عملية الشفاء من الأمراض والجروح والتعرض أكثر للأمراض المعدية. بالإضافة إلى صعوبة في التركيز وبالتالي ضعف قدرتهم على التعلم وعلى الإنتاج والمساهمة في المجتمع لاحقا. ويمكن أن يسبب الاكتئاب والقلق في بعض الأحيان”، كما تشرح ياسين.

فقر الدم

إلى جانب التقزّم، تظهر أشكال سوء التغذية الحاد من خلال معدلات فقر الدم الصادمة، والتي “تصل إلى 41% عند الأطفال و42% عند النساء في سن الإنجاب”، وفق المسح. يحصل فقر الدم، كما تفسر ياسين، “جراء نظام غذائي سيء، وغير متوازن، وخال من الفيتامينات خاصة الحديد وفيتامين B12”.

في معرض تعليقها على نتائج المسح، تنبّه “اليونسيف” من “أثر فقر الدم على الصحة العامة، وآثاره المستدامة والعميقة على القدرة المعرفية للأطفال وصحة جهاز المناعة لديهم. وهذا ما يعرضهم أكثر للإصابة بكوفيد-19 وأمراض أخرى”. أما على صعيد النساء الحوامل، “فقر الدم يجعلهن ضعيفات أثناء الحمل والولادة، كما يؤدي إلى ولادة مبكرة أو ولادة أجنة ميتة أو ذات وزن منخفض وإلى هزال بنية الأطفال وضعف نموهم”.

لذا، تنصح ياسين “المرأة الحامل بتناول الأطعمة الغنية بالحديد، وحمض الفوليك “folic acid”، وفيتامين B12 والتي تتوفر في اللحوم، والحليب ومشتقاته، والفواكه، والخضار الورقية، والحبوب الكاملة كالقمح”… فهل تعمل النساء الحوامل بنصيحتها؟ تجيب بسمة، الحامل في شهرها الثالث، “اللحوم والفواكه نسيناها منذ فترة طويلة، ونركز على أكل الرز والبطاطا”. منذ بداية حملها، عرفت بسمة أنها تعاني فقر الدم وطلب منها الطبيب شراء مكملات الغذائية خاصة الحديد. فسألت عن سعرها و”تبين أنها تساوي نصف راتب زوجي، فلم أشتريها”، تقول.

ماذا يتناول الأطفال بين عمر 6 و23 شهراً؟

يجيب المسح عن ذلك: “أكثر من 94% من الأطفال بين عمر 6 و23 شهراً يخفقون في الحصول على الحد الأدنى من مقومات الوجبات الغذائية التي تلائم صحتهم ونموهم وتطورهم”. ويشرح أنّ “60% من الحالات التي رصدناها لا تحتوي الوجبات الغذائية للأطفال فيها على ما يكفي من البروتينات وفيتامين A. و80% لا يحصلون على وجبات غذائية منتظمة. فيما 70% من الوجبات تفنقر إلى التنوع”. وهذا التردّي في طبيعة ما يأكله الأطفال في سنين عمرهم المبكرة “له آثار شديدة على نمو الدماغ ويسبب مخاطر تهدد بقاءهم على قيد الحياة”، تحذّر “اليونسيف”.

النظام الغذائي الخاص بالأطفال في هذا العمر، بحسب ياسين، “يتركز على الرضاعة أو الحليب البديل إضافة إلى غذاء مكمل غني بالحديد والعناصر الغذائية الأخرى. وهنا نقصد بشكل رئيسي الخضار والفواكه والحبوب المطحونة كالأرز والشوفان، ثم نزيد تدريجياً مع التقدّم في العمر الألبان والأجبان والبيض والدجاج”… وتشدد على أنّ “هذا الغذاء لا يلغي ضرورة الاستمرار في شرب الحليب حتى سنّ العامين”. لكن، بحسب تقرير “اليونسيف” إنّ “70% من الأطفال لا يحصلون على الرضاعة الطبيعية، رغم أنّها تفيد في مقاومة العدوى وتقليل خطر السمنة على المدى البعيد، وتعد بمثابة اللقاح الأول الذي يحمي من أمراض الطفولة الشائعة”. ومع غياب الرضاعة الطبيعية، يجد الأهالي صعوبة في شراء الحليب. تمارس زينة، مثلاً، سياسة التقشف في إطعام ابنها لتكفيها علبة الحليب التي تحصل عليها من إحدى الجمعيات طوال الشهر. “فثمن الواحدة منها 200 و15 ألفا، وزوجي كهربجي إن لم يتصل به زبون لا نأكل”. المشكلة أن طفلها (8 أشهر)، لا ينام من دون شرب قنينة من الحليب، “فأتحايل عليه وأملؤها ماء وسكر أو ماء وأرز مطحون”.

صحيح أنّ الرضاعة الطبيعية أفضل و”أوفر” على الأمهات من شراء الحليب، إلّا أنّ حليب الأم يتأثر بغذائها الذي يكون في كثير من الأحيان سيئاً وغير متوازن. تشكر أحلام ربها أنّها تدرّ الحليب لصغيرها (أربعة أشهر) لأنّها عاجزة عن شراء الحليب المناسب له والملائم لعمره. وتعمل بنصيحة جيرانها، فتأكل البقدونس وتشرب الكثير من الماء حتى تستمر في الرضاعة وإلّا “يموت ابني من الجوع”، كما تقول. لكن هذه السيدة تتناول وجبة طعام واحدة، وفي كثير من الأحيان تتألف من البطاطا فقط. فكيف تغذي طفلها إذا كانت هي نفسها لا تحصل على الغذاء الذي تحتاجه؟

هكذا تعايد السلطة في لبنان أطفال هذه البلاد في عيدهم من خلال حرمانهم من أدنى حقوقهم وهو الحق في الغذاء المتوازن. ومع استهتار أصحاب القرار لا سيما في قطاعات الصحة والغذاء والزراعة والحماية الاجتماعية والرعاية… سنكون أمام مزيد من الأطفال المصابين بسوء التغذية والمعرّضين بالتالي للأمراض.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، الحق في الصحة ، حقوق الطفل ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني