14 شهراً وعباس يستجدي علاجه.. قلب المظلوم قتله الظلم


2021-10-29    |   

14 شهراً وعباس يستجدي علاجه.. قلب المظلوم قتله الظلم
عباس مظلوم مقعداً

رحل عباس مظلوم وارتفع عدد ضحايا تفجير المرفأ إلى أكثر من 220 ضحية، رحل تاركاً زوجة وخمسة أطفال، فكأنّ عدّاد موت كارثة تفجير مرفأ بيروت يأبى التوقّف، وكأنّ في استمرار هذا الموت رسالة. فبينما ينشغل عدد من الزعماء السياسيين ورجال الدين في إصدار فتاوى لعرقلة مسار التحقيق، لم يكلّف أحد منهم نفسه عناء البحث في أطر مساعدة الجرحى وعائلاتهم، لا بل لم تخجل أيّ من المؤسّسات الصحيّة العامّة والخاصّة المعنيّة من عرقلة ملفّاتهم واستغلالهم. كلّ هذا على مرأى ومسمع من الوزراء والمدراء العامين المعنيّين. 

بعد إبراهيم حرب وآرليت قطّاع وغيرهم، قضى عبّاس مظلوم الشاب الكادح الآتي من عين الجوزة القرية الصغيرة قرب بريتال، معيل أسرته وأهله، بعد أن أنهك قلبه عذاب إصابته نتيجة التفجير وإحساسه بالعجز عن الاستمرار في دوره كسند لعائلته. أصيب عبّاس بنوبة قلبية أو بتعبير أحد أصدقائه: “فقع قلبه”، كيف لا وقد عانى ما عاناه من وجعٍ وألمٍ وظلمٍ وقهرٍ. فقد أمضى عباس سنة وثلاثة أشهر مشلول الحركة بعد إصابته في ظهره، مستلقياً على فراش، يحتاج إلى شخصين لحمله ونقله من مكان إلى آخر، بعد أن كان شاباً كامل النشاط والطاقة يكدح ليلاً نهاراً كي لا ينقص عائلته شيء. سنة وثلاثة أشهر شهد عباس ظلم مؤسسات الدولة بحقه كجريح ومعوّق، وظلم مستشفيات عدّة رفضت استقباله لاستكمال علاجه على نفقة الضمان الاجتماعي. في “دولة الظلم” لم ينظر في حاله أحد، تُرك كما تُرك جميع الجرحى يتخبّطون لتأمين نفقات العلاج ومعيشة عائلاتهم. 

رحل تاركاً زوجة وخمسة أطفال 

“كل الليل كنت فايقة عليه عم يسعل، اتفقّدو كلّ شوي، الصبح عم فيّقو ما فاق”، تخرج الكلمات من فم ولاء زوجة عباس مكسورة متعبة حيناً وغاضبة أحياناً أخرى. تسكت عبر الهاتف لدقائق وتبكي قبل أن تنفجر غاضبة: “يا الله يا الله عالظلم يا الله” ثم تسكن من شدّة الإرهاق “راح الغالي راح الغالي”. تروي أنّه لغاية ساعات الفجر الأولى من صبيحة الأربعاء كان عبّاس حيّاً يرزق، وكانت تستيقظ على سعاله تتفقّده وتطمئنّ عنه، وعند الثامنة صباحاً حاولت إيقاظه فوجدته ميتاً، “وقف قلبه من القهر، وقف قلبه من الوجع” تقول ولاء محمّلةً سبب وفاته إلى المسؤولين عن تفجير المرفأ، “من لمّا صار التفجير وهو بالتخت ما عم يتحرّك كيف ما بدو يتأثّر جسمه”.  

تتحدث ولاء عن معاناتها وعباس من إهمال وظلم مؤسّسات الدولة لها طيلة عام وثلاثة أشهر، “ما بيكفّي لي عملوا فينا، ما حدا سأل عنا أبداً”، أيّ من مؤسّسات الدولة لم ينظر بحالة عباس وعائلته، لم يعامل كجريح تفجير، بل عومل مثله مثل أي جريحٍ. وزارة الصحّة لا تغطّي علاجه لأنّه مضمون، ووزارة الشؤون الاجتماعية عاجزة سوى عن تأمين بطاقة (معوّق) تخوّل حاملها الدخول إلى المستشفى للعلاج، أمّا المستشفيات فرفض بعضها استقباله بحجّة أنّ الضمان يدفع مستحقاتها على سعر صرف 1500 ليرة.

تمكّن عبّاس وأخيراً من الخضوع لعملية جراحية قبل حوالي شهر في ظهره في مستشفى بخعازي بعدما رفضت مستشفى الجامعة الأميركية استقباله على نفقة الضمان الاجتماعي. حينها طلب طبيبه حسين درويش من أحد أصدقائه الأطباء في مستشفى بخعازي إدخاله على اسمه، وبحسب أرملة مظلوم فقد طلبت منهم المستشفى مبلغ 4500 دولار لإجراء العملية رغم تقديمهم أوراق الضمان وأخذهم موافقة. لذلك اضطرّت العائلته إلى وضع إعلان على الشبكات الاجتماعية لتجميع المبلغ. وعند إجراء معاملات الخروج، رفضت إدارة المستشفى تخليص معاملاتهم ومنحهم فاتورة تمكّنهم من استعادة ما دفعوه من الضمان. 

وفي اتصالٍ مع الطبيب حسين درويش أفاد أنّه يشرف على علاج عباس منذ حوالي شهرين، وكان عباس قد بدأ يعاني من انحناء في ظهره “يعود إلى نوعية الأسياخ أو الروابط الحديدية التي زرعت في ظهره بعد التفجير مباشرة، وهي أسياخ مخصّصة للكسور في الأرجل ولا يمكن استعمالها لكسر الظهر”، يشرح الطبيب. ويضيف “كان ظهره عم يحني لقدام، هو المفروض يضل ضهره مستقيم”. ويتابع أنّ عباس لم يقم بمراجعته بعد إجراء العملية “عباس اختفى من بعد العملية كان لازم نشوفوا”. وعن سبب الوفاة أوضح د. درويش أنّ الجميع معرّض للإصابة بجلطة قلبية، لكنّ المقعدين أمثال عباس يصبحون أكثر عرضة للجلطات بسبب قلّة الحركة. 

تضيف ولاء أنّه بعد خروجه من المستشفى قبل حوالي شهر، أصرّ على مغادرة بيروت والانتقال للعيش في القرية بالقرب من أطفاله وأهله. “كان مبسوط كثير إنّه راجع عالضيعة بس ما لحق يتهنّى”. تقول ولاء إنّه طيلة سنة وثلاثة أشهر لم يتمكّن من رؤية أولاده الخمسة الذين باتوا يقيمون مع جدّتهم في البقاع سوى مراتٍ معدودة.

رب عمل خير من الدولة وأحزابها

مقابل ظلم وتقصير المؤسسات الرسمية والخاصة، لم يتخلّ داني خير الله ربّ عمل عباس منذ أكثر من 15 عاماً، عن زوجها وعائلته التي ما زالت إلى اليوم تستفيد من راتبه الشخصي بالإضافة إلى جميع مخصصاته. 

وبحسب زوجة عباس عمد خير الله إلى رفع راتبه أسوة ببقية زملائه في العمل، واليوم ينتظر خير الله انتهاء العزاء لتسجيل أرملة عباس كموظّفة في مؤسّسته بدلاً عن زوجها وهكذا تستمر العائلة بالاستفادة من الضمان والراتب على حد سواء. ويعتبر خير الله في اتصال مع “المفكرة” أنّ ما أصاب عباس كان يمكن أن يصيبه أو أي موظف آخر في المطعم، “أنا كان صرلي ربع ساعة تارك المطعم يعني نجيت من كارثة”. من جهة ثانية سيبحث خير الله كيفية رفع دعوى قضائية لتحصيل حق عباس والسبل المتاحة لاعتباره من ضحايا تفجير المرفأ وعدم التفريط بحقه وحق أولاده.

يقول داني إنّ عباس عانى من أقصى درجات الظلم منذ التفجير، حيث أصيب أكثر من مرة بالتهابات استوجبت نقله إلى المستشفى “كنا كل مرة بدو يفوت مستشفى نعمل ألف اتصال ما حدا يقبل يفوتوا على حساب الضمان والزلمي عم يموت”.

مبادرة عمل وصداقة 

وكان عباس قبل وفاته يستعدّ للإشراف على برنامج طبخ بمبادرة من الممثل اللبناني بديع أبو شقرا، الذي يوضح في اتصال مع “المفكرة” إنّ البرنامج كان يفترض أن يكون عبر حسابه على إنستغرام يستضيف شخصيات معرفة ويكون عباس مشرفاً عليه ويبدي النصائح ويقدّم المشورة. “كان برنامج طبخ أونلاين كرمال عباس يقدر يشتغل من بيته ويطلّع مصاري بعرق جبينه”. ويأسف أبو شقرا بشدّة لأنّ رغبة عباس لم تتحقق قبل وفاته، كما يأسف لما مرّ به عباس وعائلته “نحن عايشين بدولة حتى المؤسسات فيها بطلت موجودة، والمواطنين متروكين”. 

زميل عباس السابق في العمل وصديقه، الممثل عبدو شاهين وصفّ موت عبّاس خير توصيف: “عباس مات فقع”، معرباً عن حزنه وغضبه لموته. ويروي أن صداقته وعباس تمتد لسنوات “عباس كان يشتغل شيف، بيعمل أكل إيطالي كثير طيب، وكان صاحب الشغل ياخذوا معه وين ما يفتح”. وكان عباس يقطن في منزلٍ متواضعٍ في منطقة حي السلم، “شخص مسالم، طيب القلب عفيف النفس لا يطلب مساعدة من أحد” على حد قول شاهين. 

زار  شاهين عباس في المستشفى بعد التفجير وكان دائم التواصل معه عبر الهاتف، ويكشف أنّه كان يعبّر عن خوفه وقلقه على مصير عائلته وأولاده على الرغم من أنّه “ما كان بيعرف إنه ما عاد في يتحرك مثل السابق وكان عندو أمل يرجع يمشي”. 

وبحسب شاهين، أصبح عباس بعد التفجير ناقماً على كل الطبقة الحاكمة وجميع الأحزاب بخاصة أنّ أحداً لم يقدّم له أدنى مساعدة، “ما حدا اطلّع فيه، دم ضحايا تفجير المرفأ مش للاستثمار السياسي، كرمال هيك ما حدا بيتبنّاه، دم بلا عازة مش مثل دم ضحايا الطيّونة”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مؤسسات عامة ، أحزاب سياسية ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، الحق في الصحة والتعليم ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني