وزير الإعلام يستبيح المرفق العام والحرية النقابية: “أون وأوف” البث في مواجهة مُوظفّين خسروا كلّ شيء


2023-08-12    |   

وزير الإعلام يستبيح المرفق العام والحرية النقابية: “أون وأوف” البث في مواجهة مُوظفّين خسروا كلّ شيء

“40 عاما قضيتها في تلفزيون لبنان، وأنشأت عائلة من خيره، وبالتأكيد لا أريد أن تنطفئ شاشته، ولكن الوضع أصبح لا يحتمل. 40 عاما وراتبي 4 ملايين فقط، يترتب عليّ شهريا مبلغ يقارب المئة دولار تكاليف موتور الكهرباء. كيف يمكننا السكوت عن وضعنا المزري؟” يقول رئيس قسم التصوير في تلفزيون لبنان موريس طوبيا للمفكرة ليضيف: “لسنا هواة إضراب، وليس لدينا مطالب، بل حقوق، شبعنا من الوعود، ولم نلمس حتى الساعة أي شيء”. ويتساءل: “لماذا يحاولون شقّ وحدة الموظفين؟ لكنهم لم ولن ينجحوا بذلك، لأننا جميعنا نريد الاستمرارية بعملنا وأساسا لن نسمح بإقفال هذه الشاشة التي ما زالت الشاشات الأخرى تقتات من أرشيفها وتتغنى بالزمن الجميل الذي وثقته شاشة تلفزيون لبنان”.

تختصر شهادة طوبيا ليس فقط واقع حال مستخدمي التلفزيون الذين يحيون بأقلّ من الكفاف اليوم، وإنما حقيقة تأثير معركة “الأون والأوف” للبث التلفزيوني التي خاضها وزير الإعلام زياد المكاري وطريقته في مواجهة إضراب هؤلاء ونقابتهم، ومعها المسّ بالحراك النقابي لموظفي القطاع العام وفعاليته. إذ وبعدما فاجأ المكاري الرأي العامّ وأسرة التلفزيون (ما عدا الإداريين) بقراره صباح أمس الجمعة 11 آب 2023 بوقف بث تلفزيون لبنان بذريعة الكلفة التشغيليّة التي “تكبّد خزينة الدولة نفقات غير منظورة كالمازوت (20 ألف ليتر شهرياً)”، عاد مساء اليوم عينه وأمر بتشغيل البث “بعدما استحصل على عريضة موقعة من 78 موظفا على الأقل” وفق ما أكده مستشاره المحامي بطرس فرنجية للمفكرة، أعلنوا فيها تعليق الإضراب حرصا منهم على ديمومة عمل المؤسسة واستمرارّيتها.

وكان وزير الإعلام قد أعلن عن تأمين جزء من مستحقات الموظفين المتمثلة ب دفع 4 مساعدات اجتماعية عن رواتب أشهر أيار وحزيران وتموز، أي 12 راتبا. وأخذ الموظفون في عريضتهم التي تعلق إضرابهم هذه الخطوة بعين الاعتبار ليبنوا عليها مضيفين “على أن يتابع الوزير المكاري الإجراءات اللازمة للحصول على باقي المستحقات”.

وعليه، بدا أن ما حصل أمس من وقف لبث تلفزيون لبنان كان مجرد مناورة من قبل وزير الإعلام، مناورة اعتمدت على الجزرة (12 معاش كمساعدات اجتماعية وليس زيادة رواتب فعلية) والعصا (تجميد البث تجاوزا لصلاحياته التي تسمح له القيام بما يلزم لضمان استمرار المرفق العام وليس تعطيله) وهي العصا التي أثارت الرعب بين الموظفين من خسارة وظائفهم، خصوصا أن المعلومات الأولية التي تسربت عن خطوة المكاري قالت بإقفال النلفزيون، وهو ما استدعى إصداره بياناً توضيحيا يقول بتجميد البث وليس إقفال الشاشة الرسمية. وهدفت المناورة بالنتيجة إلى كسر قرار النقابة بمواصلة الإضراب فضلا عن إضعافها وتقسيمها على نحو يضعف قدرتها على قيادة مواجهات مستقبلية دفاعا عن حقوق موظفي التلفزيون. وهذا ما كانت لمّحت إليه أوساط رئاسة حكومة تصريف الأعمال للمفكرة حيث أشارت إلى أن خطوة الوزير تهدف إلى “حضّ النقابة على إيجاد حلّ للمشكلة لا سيما في ظلّ إصرار الموظفين والنقابة على موقفهم”، 

وتأتي شهادة كاتيا شقير، مراسلة ومذيعة في التلفزيون منذ 18 عاما، لتوضّح حيثيات تعليق بعض الموظفين الإضراب، إذ تقول “أتفهم تراجع بعض الزملاء عن الإضراب والسبب إما خوفا على وظائفهم أو لثقتهم في ما يقوله الوزير، مع العلم أننا أيضا نثق بكلامه ولكن نريد نتيجة”. وتضيف: “كل أسبوع يقولون لنا ستقبضون المستحقّات الأسبوع المقبل وننتظر ولا يحصل، وقررنا الاستمرار بالإضراب حتى الحصول على ما يتمّ وعدنا به”. وتشير شقير إلى أن هناك “صعوبة في تأمين دوام كامل، للتكلفة الباهظة للنقل، مع ذلك فأنا أغطّي الخبر وأكتبه وأذيعه، ولست وحدي أقوم بمهام عدة، جميعنا نقوم بذلك خلال فترة دوامنا كي لا نضطرّ أن نأتي كل الأسبوع”. لا تريد كاتيا أن يقفل التلفزيون ولا أن يتوقّف البث: “هذا مكان عملي، وأنا مستعدة أن أعمل ليل نهار، ولكن أريد حقي كي أستطيع الاستمرار”. واعتبرت أن الاضراب، وهو حق مشروع، أعطى نتيجة وسرّع بالمعاملة، ولكن نريد أن نلمس مستحقاتنا لمس اليد حتى نصدق، حينها نعود إلى العمل.

وجاءت مواجهة وزير الإعلام بهذه الطريقة لموظفي التلفزيون الرسمي بعد إعلان نقابة مستخدمي المؤسسة الإضراب منذ 3 آب الجاري، بعد سلسلة خطوات تحذيرية، ومنها وقفتهم في 20 حزيران الماضي أمام المحطة ليطلقوا مطالبهم التي تمكنهم من الاستمرار بالحدّ الأدنى من متطلبات العيش. ولخّص هؤلاء مستحقاتهم ب “تنفيذ مرسوم غلاء المعيشة فورا، تسديد المساعدة الاجتماعية وفروقات المنح المدرسية وتنفيذ جميع بنود دفتر شروط مناقصة عقد التأمين”، ليعودوا إلى الإضراب المفتوح بعد مماطلة السلطة ووعودها التي طالما ذهبت هباء. وهو إضراب أعلنت النقابة الاستمرار به حتى بعد إعلان المكاري تأمين المساعدات الإجتماعية على 3 أشهر، وذلك لنيل كامل السلة المطلبية التي أعلنها الموظفون.       

وتعليقا على إعادة البث، رأت النقيبة ميرنا شدياق بالقول أن “وزير الإعلام الذي أوقف بث تلفزيون لبنان بقرار صباح أمس، عاد وأصدر قرارا ليلا في اليوم عينه بإعادة البث عبر برامج إعادة وما زال البث ببرامج قديمة اليوم السّبت أيضاً لغاية الساعة”. وأشارت إلى أنه ليس لديها “أي علم بهذه العريضة ولم أرها، ولا بقرار 78 موظفا بالعودة إلى العمل، مؤكدة استمرار النقابة بالإضراب”. فما هي حيثيات ما حصل؟

الشاشة الرسمية بين On وOff وزارية

استفاق اللبنانيون اليوم 11 آب 2023 على وقف بثّ تلفزيون لبنان الرسميّ إثر قرار اتّخذه وزير الإعلام زياد المكاري، وأبلغه “شفهيا” (كما أكدت نقيبة موظفي التلفزيون ميرنا الشدياق) للمسؤولين في إدارة التلفزيون. وقد برّر الوزير قراره بالكلفة التشغيليّة. وأثار القرار موجة استنكار من الرأي العامّ لما تحتلّه هذه المؤسسة العامة من مكانة في وجدان اللبنانيين من جهة، ولكونها دليلا إضافيا على انهيار المرافق العامة. ويأتي قرار المكاري بعد 9 أيام على إضراب موظفي التلفزيون (الخميس 3 آب) بعدما سئموا من وعود الحكومة بدفع مستحقّاتهم المتأخّرة والمساعدات الاجتماعية التي أقرّتها منذ العام 2021، أسوة بموظفي القطاع العام.

ومن الجليّ أن وزير الإعلام الذي برر قراره بوقف البث التلفزيوني بالحرص على المال العام، يريد رمي الكرة في ملعب الموظّفين المضربين وتحميلهم مسؤولية تعطيل التلفزيون وهدر المال العام من جهة، وزعزعة التضامن بين صفوفهم، وخصوصًا بعدما جرى تأكيد تأمين مستحقات هؤلاء من المساعدات الإجتماعية عن الأشهر الثلاث الأخيرة (آيار وحزيران وتموز) والبالغة 4 رواتب إضافية مع كل راتب، وهو ما اعتبرت نقابة الموظفين أنها لم تبلّغ به من قبل.

وإثر توقف البث التلفزيوني، والأخذ والردّ، قدّم نائب رئيسة نقابة الموظفين حسن هاشم وعضو النقابة حسين حجازي استقالتهما من بين 12 عضوا يشكلون أعضاء مجلس النقابة. وعزا هاشم استقالته إلى “التباين” في الرأي بينه وبين باقي المجلس. وقال للمفكرة: “البثّ هو خطّ أحمر عندي، لا أستطيع قبول توقف الشاشة ولا يجب أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه”. كما أشار إلى أنه اقترح على النقابة تعليق الإضراب، بعد تحويل قسم من الرواتب إلى حسابات الموظفين، إلا أنه جوبه بالرفض. وتحدث هاشم عمّا أسماه تفرّدا في اتخاذ القرارات: “اجتمعوا وقرروا ولم يأخذوا برأيي، حتى أني لم أتبلّغ موعد الاجتماع”. ويضيف: “يريدون أخذ الملفّ إلى القضاء المستعجل، فلماذا يريدون أن نشن حربا على الوزير؟، وكأن القضية أصبحت تكسير روس”. من جهته، يقول حجازي أنه لم يعد يرى “أي فائدة من استمرار الإضراب، خصوصا بعد التأكد من تأمين الرواتب للأشهر الثلاثة الأخيرة. وقال: أنا خيرت بين النقابة والتلفزيون فاخترت التلفزيون”.

واستغربت النقيبة الشدياق أن يأتي قرار وزير الإعلام بتعليق البث في حين يتمّ الحديث عن تأمين جزء من هذه المستحقات، لتصف الأمر ب “الخطوة المفاجئة ومجهولة الهدف”. وتبعا لذلك، أصدرت نقابة موظفي تلفزيون لبنان بياناً توجّهت فيه الى المكاري بالقول: “يا معالي الوزير، نحن لسنا هواة إضراب والمشكلة ليست معك شخصياً، إنما تكمن في عدم الحصول على حقوقنا منذ أكثر من عامين، أما تصويرها على أنها صراع بين المدراء فهذا أمر مجافٍ للحقيقة”. وإذ شدّدت النقابة على أن “محرّكها الوحيد هي حماية حقوق الموظفين”، أكدت على “الاستمرار بالإضراب إلى حين تحصيل كامل المستحقات التي تتلخص ب “تنفيذ مرسوم غلاء المعيشة فورا، تسديد المساعدة الاجتماعية وفروقات المنح المدرسية وتنفيذ جميع بنود دفتر شروط مناقصة عقد التأمين”. وثمّنت النقابة في بيانها “الوحدة واللحمة التي أظهرها الموظفون من أجل صون حقوقهم وحماية شاشتهم”.

وحقوق الموظفين؟


وفي هذا السياق، أكّد مصدر في إدارة التلفزيون أن الوزير المكاري سيذهب إلى مجلس الوزراء في أول جلسة حاملا ملفّ التلفزيون، لاتخاذ القرار النهائي بخصوص مستحقات الموظفين. مع العلم أن مجلس الوزراء قرّر في جلسة الإثنين الماضي في 7 آب تأجيل البتّ في بنود مدرجة في الجلسة، ليضعها على جدول أول جلسة مقبلة ومنها طلب وزارة الإعلام الموافقة على صرف مستحقات وديون متوجبة على تلفزيون لبنان، بقيمة 16 مليار و844 مليون ليرة.

ما يحصل في تلفزيون لبنان ليس جديدا، حيث أن تراكم المشاكل أدى إلى غيابه بشكل شبه كلي عن المشهد الإعلامي. ففي أيار الماضي، أعلنت النقابة تنفيذ الإضراب التحذيري عبر وقف كل أعمال الإنتاج بما فيها البرامج المباشرة، ونشرات الأخبار باستثناء تغطية نشاط المقرات الرئاسية الرسمية الثلاثة ونشرة الأخبار المسائية فقط.

وكان الموظفون اعتصموا في 20 حزيران الماضي أمام مقر التلفزيون بدعوة من النقابة، وحددوا مطالبهم.
ويضيف مصدر إداري في التلفزيون أن المكاري “قام بما عليه أن يقوم به، فيما النقابة متعنتة إذا لم تحصل على كامل المستحقات في جيبتها لن تفك الإضراب”، معتبراً “أن غالبية الموظفين يرفضون تعنت وممارسات النقابة، وهم يريدون العودة إلى العمل”، وفق ما يرى. هذا الكلام تنفيه النقيبة الشدياق جملة وتفصيلا، لتقول: “حرصنا منذ بداية الإضراب على عدم إطفاء هذه الشاشة، وعلى بث برامج من الأرشيف وموسيقى كلاسيكية، لأننا أولاد هذه المؤسسة. لا نرضى أن تصل الأمور فيها إلى هذا الوضع”. وأضافت “اليوم كل موظف في هذه المؤسسة حزين لأنه ولا يوم حتى في أسوأ الأزمات كان تلفزيون لبنان موجودا. هو ذاكرة لبنان والعالم العربي”، معتبرة أن “أيّ مسؤول في لبنان لن يقبل أن تتوقف شاشة الوطن”، لتؤكد أن الموظفين “يطالبون بمستحقات قديمة منذ ال2021. فراتب الموظف في التلفزيون يتراوح بين مليون و500 ألف و5 ملايين، فكيف يريدون منّا الاستمرار؟ وأي عدالة هذه؟ ومنذ بداية الأزمة لم يتقاضَ الموظف أي زيادة على راتبه أسوة بموظفي القطاع العام أو الخاص”.

يذكر أنها المرة الثانية التي تتوقف فيها شاشة تلفزيون، حيث سبق وقررت الحكومة اللبنانية برئاسة الرئيس الراحل رفيق الحريري في 23 شباط 2001، بناء على اقتراح وزير الإعلام غازي العريضي آنذاك، إغلاق التلفزيون لمدة 3 أشهر تحت وطأة الديون وتسريح الموظفين وصرف تعويضات لهم، وبدء إعادة هيكلة الجهاز لوقف التبديد وخسائر المحطة التي بلغت 33 مليون دولار سنويا في ذلك الوقت. ووصف القرار في حينه أنه سياسي بامتياز نتيجة التجاذبات التي كانت حاصلة بين أركان السلطة.
 وفي اتصال للمفكرة مع رئيس الإتحاد العمالي العام بشارة الأسمر الذي يواكب وضع الموظفين وتحركاتهم، أكد “بداية حلحلة الوضع المالي إن من حيث قبض بعض المستحقات ودخولها في حساب تلفزيون لبنان وصولاً إلى السّلف المعدّة والتي ستطرح على أول جلسة لمجلس الوزراء لإقرارها، مشيراً إلى أن جزءا من مستحقات الموظفين أصبحت جاهزة للتنفيذ بفضل سعي من وزير الإعلام.

مواقف داعمة


 من جهته، أكد الحزب الشيوعي اللبناني أن “وقف البث ليس إلاّ دليلا على سياسات تدمير المؤسسات العامة وقرار السلطة السياسية حلّ القطاع العام والإطاحة بموظّفيه وحقوقهم”. ورأى أنّ هذه الخطوة “توحي باتجاه خصخصة التلفزيون أو إقفاله في سياق نهج الخصخصة وبيع أصول الدولة على يد هذه السلطة الحاكمة”، معتيراً أن “من تخلى عن دوره الاجتماعي والوطني في الصحة والتعليم والأمن، لن يتردّد في تدمير الإعلام الرسمي وتشريد العاملين فيه”. وأضاف الحزب الشيوعي في بيانه “أن زجّ قضية موظفي تلفزيون لبنان تحديدا والقطاع العام عموما بسياق الانقسامات السياسية والمذهبية سيؤدي حتما الى سحق الموظفين وعدم حصولهم على حقوقهم، لذلك نؤكد على دعمنا لمطالب الموظفين المحقة بدءاً بمساواتهم بسائر موظفي القطاع العام بعد وعود متتالية من السلطة السياسية، بقيت حبرا على ورق، وذلك ليس إلا دليلا على تخلي الدولة عن مؤسساتها وواجباتها”.
من جهته، أعلن تجمع نقابة الصحافة البديلة استمرار دعمه لمطالب موظفي تلفزيون لبنان، مستنكرا محاولات الضغط عليهم للتراجع عن إضرابهم المشروع، ليؤكد تكثيف تواصله مع النقابة المعنية والوسائل الإعلامية المهتمة بهذه القضية؛ مشددا على أن التضامن والعمل النقابي هما سبيل تحصيل حقوق عمال الإعلام.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مؤسسات عامة ، مؤسسات إعلامية ، نقابات ، لبنان ، مقالات ، حقوق العمال والنقابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني