وتستمرّ “المبارزة” بين المحكمة العليا ومجلس النواب: أي دور ل “ديوان المحاسبة” في ورش إعمار بنغازي ودرنة؟


2024-02-14    |   

وتستمرّ “المبارزة” بين المحكمة العليا ومجلس النواب: أي دور ل “ديوان المحاسبة” في ورش إعمار بنغازي ودرنة؟

لا يُخفى على المتابع للشأن الليبي حالة الاحتقان السياسي والانقسام الحاصل بين مؤسسات الدولة. آخر تجليّات هذا الانقسام تمثّل في التّنازع الحادّ بين المحكمة العليا ومجلس النواب، والذي بلغ ذروته بعدما ألغتْ الدّائرة الدّستورية في هذه المحكمة عددًا من تشريعات مجلس النواب ومنها التشريعات المتصلة بتشكيل المجلس الأعلى للقضاء وإنشاء المحكمة الدستورية. وقد سارع مجلس النّواب في الردّ على هذه القرارات من خلال إصدار تشريعات جديدة عن ذات المواضيع، مما جعل الأزمة القضائية والتشريعيّة تدور في دائرة مغلقة من دون أيّ أفق للحلّ. وهو ما تناولناه في مقال سابق. وفي تاريخ 17/1/2024، أصدرت الدائرة الدستورية للمحكمة العليا القرار رقم  9/70 القاضي بعدم دستورية القانون رقم 3 لسنة 2023 الذي سحب اختصاص مراجعة العقود من ديوان المحاسبة ومنحه إلى هيئة الرقابة. ومؤدى هذا القرار تاليا هو إعادة الاختصاص إلى ديوان المحاسبة. وبعد صدور الحكم مباشرةً، أصدر مكتب رئاسة مجلس النواب بتاريخ 23/1/2024 رسالة وجهها إلى المجلس الأعلى للقضاء ذكر فيه أن مجلس النواب يحترم الفصل بين السلطات وأنه لم يتدخل في عمل السلطة القضائية، إلا أن السلطة القضائية باتخاذها الانتقائية في نظر الطعون التي تجاوزت الألف منذ 2011 يعدّ تدخلا في العمل السياسي وإثارة للرأي العام من دون مراعاة للمصلحة العامة. وأضاف مكتب رئاسة مجلس النواب أن المجلس ماضٍ قدما في تفعيل المحكمة الدستورية العليا تجنّبا لهذه التجاذبات مطالبا بإيقاف النظر في الطعون بالنظر إلى متطلبات المرحلة الحالية.

“المبارزة” المديدة بين المحكمة العليا ومجلس النواب

هذا التفاعل السّريع مع الطّعن الدّستوري يؤكّد على أن النّزاع مستمرّ وأن هدوء المرحلة الماضية كان بمثابة هدنة مؤقّتة وأنّ مجلس النواب لن يترك أيّ طعن دستوري من دون أن يردّ عليه بتشريع أو بمحاولة تعطيله، كما يؤكد من جهة أخرى أن الدائرة الدستورية للمحكمة العليا ستستمر في تحدّي مجلس النواب من خلال إبطال التشريعات التي تهمه بشكل خاص من دون أن تبيّن معاييرها للنظر في طعون دون أخرى. والملفت في رسالة مكتب رئاسة مجلس النواب أنّها موجّهة إلى المجلس الأعلى للقضاء الذي لا يملك أيّ سلطة على المحكمة العليا التي تعدّ أعلى الهرم القضائي في ليبيا وتتمتع باستقلالية كاملة وأنها ذكرتها بصفة المحكمة العليا سابقا في إشارة واضحة إلى تسميتها الجديدة بمحكمة النقض بعد إنشاء المحكمة الدستورية العليا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مجلس النواب كان قد أصدر القانون رقم 5/2023  بشأن إنشاء المحكمة الدستورية الذي سلب اختصاص النظر في دستورية القوانين من المحكمة العليا، إلا أن هذه المحكمة سارعت إلى إبطال هذا القانون بناء على طعن قدمه رئيس مجلس الدولة (طعن د. 5-70 بتاريخ 31-5-2023).

ولم يتوقّف التجاذب عند هذا الحدّ، بحيث عاد مجلس النواب وأصدر قراراً بتعيين أعضاء في المحكمة الدستوريّة. وقد جاء هذا التعيين مخالفا لبيان مشترك صدر سابقا عن مجلس النواب ومجلس الدولة أكدا فيه على أنه تقديرا للمرحلة الحساسة الحالية ورغبة منهما في إنجاز الاستحقاق الدستوري (العملية الانتخابية) فقد اتفقا على عدم استحداث قانون المحكمة الدستورية حتى لايتعارض القانون مع مخرجات القاعدة الدستورية. ويبدو أن هذا الاتفاق قد ذهب ادراج الرياح بعد تغيير رئاسة مجلس الدولة وعدم قبول رئاسة مجلس النواب بهذا التغيير، فتراجعت عن اتفاقها واستمرت في مشروع المحكمة الدستورية وصولا إلى تعيين أعضائها. وهو ما وصفه النائب عصام الجهاني ‏في حينه بالفوضوي وغير الشرعي وغير القانوني مشيرا إلى أن مجلس النواب عقد جلسة سرية أصدر فيها هذا القرار من دون أن يُعلن عنها حيث أنه كان في عطلة رسمية بمناسبة العيد. واستمرّ التنازع في التصاعد حيث قام رئيس مجلس النواب بنفسه رفقة أخرين برفع دعوى أمام الدائرة المدنية بمحكمة جنوب بنغازي الابتدائية مطالبا بإبطال الطعن الدستوري رقم 5/70 الصادر من الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا. والغريب أنّ المحكمة استجابت لطلبات الخصوم وأصدرت حكمها في القضية رقم 788/ 2023 بانعدام الحكم الصادر في الطعن الدستوري رقم 5/70 والخاصّ بإلغاء المحكمة الدستورية. ولم يقفْ رئيس المحكمة العليا متفرّجا على المشهد بل قام بتكليف محامٍ باستئناف هذا الحكم. وحتى الساعة، لم تنظر محكمة الاستئناف في الطعن بحجة أن ملف القضية غير موجود في قلم كتاب المحكمة بعدما طلبه المجلس الأعلى للقضاء وهذا أمر نادر الحدوث إن لم يكن مستحيلا. واستمر المدّ والجزر بين الطرفين، على نحو ينطبق عليه وصف “المبارزة” التي تشكل في عمقها جريمة امتناع عن تنفيذ أحكام قضائية واجبة التنفيذ.

مبارزة حول صلاحيات “ديوان المحاسبة”

ولكن، بمعزل عن المبارزة الحاصلة بين مجلس النواب والمحكمة العليا، ماذا بشأن القرار الدّستوريّ الأخير الذي أبطل انتزاع  اختصاص ديوان المحاسبة في إعمال الرقابة الإدارية؟

للإجابة على هذا السؤال، يجدر التذكير بأن ديوان المحاسبة يعدّ من المؤسسات السياديّة المستقلة في الدولة والمدسترة بالمادة 24 من الإعلان الدستوري المؤقت. وهو تأسس بالقرار رقم 119 لسنة 2011 عن طريق دمج الأجهزة الرقابية المتمثلة في جهازي التفتيش والرقابة الشعبية والمراجعة المالية في الديوان. كما تم من خلال هذا القرار إعادة العمل بالقانون رقم 11 لسنة 1996 بشأن إعادة تنظيم الرقابة الشعبية  من جديد وإلغاء قانوني الأجهزة الرقابية رقمي (2، 3) لسنة 2007. وبتاريخ 1/8/2013 أصدر المؤتمر الوطني العام (وهو مجلس النواب سابقا) القانون رقم (19) لسنة 2013 بإعادة تنظيم ديوان المحاسبة، الذي فصل عنه اختصاصات الرقابة الإدارية والمظالم والتحقيق وأنشئ لها هيئة جديدة نظّمها بموجب القانون رقم 20 لسنة 2013. وبتاريخ 4/10/2013 صدر القانون رقم 24 لسنة 2013 بتعديل القانون رقم 19 لسنة 2013، وبموجبه تمّ سحب اختصاص المراجعة المسبقة على المستخلصات الناتجة عن العقود التي تخضع للرقابة قبل التعاقد. واستمرّ ديوان المحاسبة في تأدية مهامه وإصدار تقاريره السنوية حتى بعد إنشاء ديوان موازٍ له في شرق ليبيا، علما أن رئيس الديوان خالد شكك يتميز بثباته بمركزه منذ 2011 (لا يجاريه في ذلك إلا رئيس مصرف ليبيا المركزي) لعدة اعتبارات سياسية لا مجال للحديث عنها في هذا المقال. وقد برزتْ تحفّظات حيال استمرار رئيس الديوان في منصبه وتحديدا بعد ترشّحه للانتخابات كرئيس للدولة بحجّة أنّه فقد حياده وموضوعيّته، وبخاصّة أنّه يمثّل تياراً سياسياً يعدّ خصماً لرئيس مجلس النواب. وربما تكون هذه الأسباب مجتمعة هي التي دفعت مجلس النواب إلى تقليص صلاحيات ديوان المحاسبة مقابل تعزيز صلاحيات هيئة الرقابة على عقود التوريد والمقاولات والالتزام وغيرها من العقود التي تكون الحكومة ومصالحها والهيئات والمؤسسات خاضعة فيها لرقابة الهيئة.

 وقد علق رئيس ديوان المحاسبة على صدور القانون بأنه  «سينفذ ما يتفق عليه مجلسا النواب والدولة حول اختصاصات الديوان»، متمسكا في الوقت نفسه باستمرار الديوان في ممارسة مهامه وفقا للدستور،  في إشارة مباشرة لصدور القانون من مجلس النواب من دون استشارة مجلس الدولة وفقا لأحكام الاتفاق السياسي الذي ألزم مجلس النواب بالتشاور مع مجلس الدولة في التشريعات الأساسية والمتعلقة بالمرحلة الانتقالية. فضلا عن ذلك، وجهتْ حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس كتاباً للجهات العامّة مستندةً فيه إلى فتوى إدارة القانون، بشأن الاختصاص الحصري لديوان المحاسبة بالمراجعة الماليّة وفرض الرقابة المصاحبة والتعامل مع موظّفي الديوان دون غيره في توجيه غير مباشر إلى تجاهل القانون الجديد، الأمر الذي أعقبه اعتراض هيئة الرقابة الإدارية على الكتاب والتمسك باختصاصاتها الجديدة. ويرى البعض أنّ توقيت صدور القانون مرتبطٌ مع بدء لجان الإعمار في بنغازي ما يعكس محاولة لابعاد ديوان المحاسبة عن مراقبة العقود السابقة واللاحقة مما يعطي مرونة أكثر في التعاقد وهو ما جعل البعض يعزز مخاوفه من شبهات الفساد في ظلّ العمل بعيدا عن رقابة ديوان المحاسبة. وتتعزز هذه الشكوك في ظلّ انعدام الشفافية والوضوح في عمليات التعاقد  في لجنة إعمار بنغازي وبعد ذلك في لجنة إعمار درنة، وهما يتبعان بشكل مباشر للحكومة الموازية التابعة لمجلس النواب، التي يمكن وصفها بعمليات تعاقد غامضة خاصة وانها مرتبطة ببعض الشركات المحسوبة على أطراف سياسية فاعلة.

خاتمة

ختاما، فإنه على الرغم من الاستقرار الهش وتوقف النزاع المسلح الذي تلحظه العين سريعا في ليبيا، إلا أن الصراع السياسي ما يزال على أوجه ولو خلف الكواليس بين أطراف تبحث عن فرصة لموضع قدم أو لحصة من الكعكة. وللأسف فإن تبعات هذه الصراع باتت تتهدد أبواب المؤسسة القضائية التي صمدت في وجه محاولات تقسيمها وتفتيتها لفترة طويلة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم دستورية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، مقالات ، ليبيا ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني