هوية الميناء تنتصر: البحر للجميع


2022-02-23    |   

هوية الميناء تنتصر: البحر للجميع
شاطئ الميناء

أخيراً تنفّست مدينة الميناء الصعداء، بعد أن طوت صفحة العقار الوهمي 1403 المتفرّع عن العقار 220 بساتين الميناء البالغة مساحته 30 ألف متر مربع بإعادته إلى الدولة وذلك من خلال الحكم الصادر عن قاضي الضم والفرز في الشمال نزيه عكاري بتاريخ 15 شباط 2022 الجاري. 

شكّل الحكم انتصاراً لهوية الميناء “مدينة البحر والأفق” التي تستقبل زائريها بمجسّم الشراع كبطاقة هوية، وكذلك تثبيتاً لحق أبناء المدينة في بحرهم، فهم لطالما امتهنوا “اقتصاد البحر” واعتاشوا منه على متن قواربهم. 

كما فتح الباب واسعاً أمام الاعتراف بصفة الادعاء لتحالف من المدافعين عن الأملاك العامة البحرية الذين نجحت جهودهم وإصرارهم في تحرير 30 ألف متر مربع في الميناء، الأمر الذي قد يشكل فاتحةً لإزالة الاعتداءات المتمادية على الملك العام في لبنان التي تُقدّر بـ 5 ملايين متر مربع دون دفع أي بدل للدولة اللبنانية.  

“هل يعقل وجود عقار داخل البحر؟”

يخرج زائر الميناء بانطباع واضح عن حالة الرضى لدى ناسها تجاه التطوّرات القضائية، وإقفال ملف العقار الوهمي الذي يشكل اعتداءً على حق المواطنين في الأملاك العامة. يقدّم الحاج أبو العبد مالك عربة لبيع الترمس والذرة ما يشبه المرافعة النموذجية حيال وجوب المحافظة على الأملاك البحرية في لبنان، متسائلاً “هل يعقل وجود عقار داخل البحر؟ ففي كل البلاد البحر ملكٌ عام”. وينظر بإيجابية إلى موقف القضاء الذي صحّح المسار، فهو “كان من شأنه فتح الباب أمام إقامة مشاريع سياحية، تحجب البحر عن مرأى الناس، كما كانت ستحرم أبناء الميناء من الاستفادة من بحرهم”. كما يشير إلى أنّ “المئات من أبناء الميناء يعتاشون من العربات التي تبيع الأطعمة والعصائر على طول الكورنيش”، وأنّه “لا يمكن تجاهل أحقيتهم في الاستفادة من بحرهم، لصالح إعطائه للمتموّلين على غرار ما جرى في بحر القلمون، وباقي الشاطئ اللبناني الذي تحوّل خلال الحرب إلى منتجعات بحرية”. 

يذهب مصطفى (17 عاماً)، من أبناء حارة الجديدة، في الاتجاه نفسه فيكرّر عبارة “البحر إلنا”، وينطلق من تجربة خاصّة ليعطي نموذجاً عن علاقة ابن الميناء بالبحر، فبعد أن صُرف من عمله في إحدى مؤسّسات طرابلس، اتّجه نحو صيد السمك من خلال الغطس إلى عمق يتراوح بين 15 و20 متراً. يعود عليه بيع السمك بدخل بسيط: 200 ألف ليرة يومياً تقريباً. يؤمّن له ذلك مصروفه الشخصي، ويساعد عائلته بعد أن تقاعد والده عن عمله كسائق تاكسي.

يعتبر مصطفى واحداً من عشرات لا بل مئات من أبناء الميناء الذين ينتشرون على طول الكورنيش، ينتظرون الصيد. فأبناء الميناء لا يملكون جميعهم فلوكات (قوارب صيد صغيرة) تمكّنهم من الذهاب إلى عمق البحر أو بلوغ الزيرات أي الجزر الواقعة قبالة الميناء. وبالتالي، يبقى شاطئ البحر مجالهم الوحيد لتحصيل رزقهم. 

موقع العقار الوهمي في الميناء

الكورنيش استجمام الفقراء 

إذا ما عدنا إلى الشاطئ، يشكّل كورنيش الميناء متنفّساً أخيراً لعامّة الناس من كافة المناطق الشمالية. يعبّر نزيه صيداوي (شاب ثلاثيني وأب لطفلين) عن سعادته لتكريس حق أبناء الميناء في شاطئهم وبحرهم، فهو يتحدث عن علاقة عضوية بين أهل المدينة وبحرهم، تنشأ من نعومة أظافرهم. لذلك، “لا تجد بين أبناء الميناء من لا يمارس الغطس، أو الصيد”، كما أنّك لا تجد بينهم من لا ينزل إلى الكورنيش والبحر بصورة شبه يومية. ويضيف “تعززت العلاقة بيننا وبين البحر في ظلّ الأزمة الاقتصادية، وبالتالي لا يمكن الاستغناء عن جزء أساسي من بحر الميناء الذي يمكن أن يكرّس الاعتداء على باقي الأجزاء منه”. ويقول: “نحن عائلة مؤلفة من 4 أفراد، لا يمكننا الذهاب إلى المنتجعات السياحية، بسبب الرسوم المرتفعة، لذلك فإننا نحضر بعض الأطعمة، ونتّجه إلى الكورنيش من أجل التنزه بحرية”. 

ويتحدث الشاب زاهر البكري عن ضرورة المحافظة على حق أبناء الميناء في  الولوج إلى الشاطئ والبحر، قائلاً: “نحن في الميناء شعب فقير، ولا نمتلك إلّا الكورنيش البحري، ولسنا ممن يمكنهم تملّك الشاليهات”. ويعلّق على احتمالية وضع اليد على جزء من بحر الميناء لاستثماره وإقامة منشآت سياحية، “هذه الخطوة ستكون على حساب أبناء الميناء، لأنها لن تكون للجميع، وإنما ستكون لأبناء الطبقة الغنية”. كما “سيشكل ذلك اعتداءً على الملك العام، وستتكرّر تجربة القلمون والهري حيث تستقبل المنتجعات المرتاحين مادياً”. كما سيحرم أبناء المدينة من المنافع الجماعية من السباحة إلى الصيد، و”سيكون كافياً لحجب رؤية البحر عن أهل المدينة البحرية”.

انتصار للوحدة 

أعطت الخواتيم السعيدة للملف القضائي دفعاً إضافياً للمدافعين عن الأملاك العامة البحرية، والداعين لإزالة الاعتداءات عنها. حيث تكلّلت بالنجاح جهود كلّ من بلدية الميناء التي تقدّمت بالدعوى القضائية في 2016، والجهات الداعمة لها من الحملة المدنية للحفاظ على شاطئ الميناء، الخط الأخضر، والمفكرة القانونية، وباقي تشكيلات المجتمع المدني التي اعتصمت مراراً عند الواجهة البحرية للميناء. 

في المواقف، يعيش المجلس البلدي في الميناء حالة من الفراغ، بعد استقالة أكثرية الأعضاء. تلفت أوساط البلدية لـ المفكرة القانونية إلى “أهمية القرار القضائي بإعادة العقار الوهمي 1403، بساتين الميناء، إلى أملاك الدولة”، “كما أنّه يحول دون تشويه الكورنيش الذي يعتبر حقاً عاماً للدولة”. وتذكّر بأنّ اكتشاف عملية الاحتيال للسيطرة على جزء من بحر المدينة حصل في 2016. وتعود بالذاكرة إلى افتضاح قضية العقار الوهمي “عندما حاول “المالكون الجدد” بيع العقار وتقدّم الشاري بطلب ارتفاق وتخطيط لدى دائرة الهندسة في البلدية، ساد جو من الاستغراب داخل البلدية لأنّ “العقار يقع داخل البحر”. بعد ذلك قامت الدائرة نفسها بإعداد تقرير مفصّل، وطلبت التحقيق في الموضوع، لأنّ خرائط البلدية تبيّن أنّ العقار أملاك عامة بحرية”. 

فتح موقف البلدية الباب واسعاً أمام دخول المجتمع المدني على خط حماية شاطئ الميناء. وأدى ذلك إلى انطلاق الحملة المدنية للدفاع عن شاطئ الميناء. يعود د. سامر ونوس من الحملة في حديثه لـ “المفكرة” إلى جذور الملف: “بعد أن تسرّب من البلدية خبر العقار الوهمي، بدأ تجمّع الناشطين للوقوف في وجه مخالفة القانون ونهب الأملاك العامة”. وتعاونت الحملة المدنية مع جمعيتي المفكرة القانونية والخط الأخضر.

شكّل ذلك التحرّك خروجاً عن الخط المرسوم مسبقاً من السلطة التي تقوم على تحالف السياسة والمال حسب د. أنوس الذي يتطرّق إلى خوض “معركة الصفة للادعاء أمام القضاء للدفاع عن الملك العام”. وفي موازاة المسار القضائي، بدأت التحرّكات الميدانية والاعتصامات في إطار تشكيل الرأي العام المدافع عن الأملاك العامة البحرية والسعي لتكريس “وحدة الشاطئ اللبناني وحق المواطن بالولوج إليه”. 

يشدّد أنوس على ضرورة اليقظة للحفاظ على الملك العام لأن المطامع في شاطئ الميناء ليست جديدة، فهي لا تقتصر على محاولة وضع اليد على العقار الوهمي في 2016، بل سبق ذلك بعقود محاولة ردم البحر عند “مرفأ حئران” أحد المرافئ الطبيعية في المدينة، لإقامة مشروع خاص. وكذلك محاولات تأسيس شركة طرابلس القابضة من أجل ردم ملايين الأمتار المربعة قبالة شاطئ الميناء، ومشروع Tripoli sea land الذي طُرح في 2013 حيث طلب المستثمرون استثناءات لاستغلال 87 ألف متر مربع ضمن الأملاك العامة البحرية، وتوقفت المشاريع جميعها بفعل الضغط الشعبي. 

وبمناسبة صدور الحكم، عقد في الميناء وعلى بعد بضعة مئات الأمتار من موقع “العقار الوهمي”، مؤتمر صحافي للإعلان عن وصول القضية إلى خواتيمها بنجاح وتبعات الحكم وتداعياته. شارك في المؤتمر حفنة من المعنيين من أهل الميناء والشمال ومن الناشطين، نظّمته المفكرة القانونية والخط الأخضر بالتعاون مع الحملة المدنية للدفاع عن شاطئ الميناء.

إلى ذلك، تتحدث الناشطة ناريمان الشمعة عن خصوصية الحكم الذي أعاد العقار للدولة، فهو على خلاف محاولات الاعتداء الأخرى على شاطئ الميناء، استند المدّعون بملكيته على قرار قضائي وصحيفة عقارية، بالإضافة إلى ترسيمه وإعطائه الرقم العقاري 1403. كما تشير إلى أنّ “كورنيش الميناء لم يكن موجوداً أصلاً عند إجراء أعمال الضم والفرز في الميناء في ستينيات القرن الماضي، وكان البحر يغطي المنطقة بأكملها، وذلك كافياً لتكذيب الادعاءات”.   

من جهته، يشير المهندس علي درويش، من جمعية الخط الأخضر، لـ “المفكرة” إلى أن هذا القرار القضائي الصادر في معرض العقار الوهمي في الميناء، يكرس حق الشعب اللبناني وحق التجمعات الشعبية على اختلاف مسمياتها في الادعاء لحماية المصلحة العامة والحق العام والأملاك العامة. فيما ينبّه الناشط عبيدة التكريتي إلى خطورة ضعف سلطة الدولة، وأثره في فتح الشهية للاعتداء على الأملاك العامة، واضعاً الاعتداء على الأملاك البحرية في الميناء ضمن مشهد عام يتضمن مخالفات واسعة في المطمر وغيرها من المشاريع الناتجة عن التزاوج بين السلطة والمال.   

مجسّم الشراع في الميناء

الصفة للادعاء

ومن بين النجاحات التي حققها التحالف المدني الحقوقي للحفاظ على شاطئ الميناء، إقرار “الصفة” للمواطنين للادعاء أمام القضاء للمحافظة على الأملاك العامة. ويلفت المدير التنفيذي للمفكرة القانونية المحامي نزار صاغية، والوكيل القانوني لأنوس والخط الأخضر، إلى سابقة قضائية من حيث الاعتراف بصفة المواطن للدفاع عن حقوق الدولة عندما يتخلّف ممثلوها عن واجباتهم، مطالباً بمحاسبة وزراء الأشغال الذين تخلفوا عن حماية الملك العام. ويشيد من ناحية أخرى بموقف وزير النقل الأسبق عمر مسقاوي الذي رفض إسقاط صفة الملك العام عن العقار البحري في الميناء، مشدداً على التأثير الإيجابي لثورة 17 تشرين في القضية لـ “استرداد أول مال منهوب، وتغير موقف وزير النقل حينها ميشال نجار” وكذلك لبدء المساءلة وتالياً المحاسبة.

ويشدد على أهمية الحفاظ على كورنيش الميناء، واستعادة ملك عام كانتصار لكافة شرائح الشعب اللبناني. 

ويتطرّق صاغية إلى “تضليل” تعرّض له القاضي نزيه عكاري، وفق توصيفه (توصيف عكاري) الذي أشار إلى ذلك في متن نص القرار، واصفاً ذلك بالاحتيال الموصوف على القضاء. ويكشف صاغية عن “العمل للتقدّم بشكوى رسمية ضد مرتكبي جرم الاحتيال”. 

وكان صاغية قال في كلمته في المؤتمر إنّ الحكم لم يؤدّ فقط إلى استرداد ملك عام بل أيضاً تواصل الشاطئ واستمرارية المدينة للأجيال المقبلة.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، محاكم إدارية ، محاكم مدنية ، حركات اجتماعية ، قرارات قضائية ، أملاك عامة ، لبنان ، حراكات اجتماعية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني