هل لبنان في حالة حرب؟


2024-01-11    |   

هل لبنان في حالة حرب؟
صورة مأخوذة من دراسة "مركز حماية البيئة في الجامعة الاميركية" حول الأثر الاجتماعي والبيئي لذخائر الفسفور الابيض.

تطرح الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان منذ الثامن من تشرين الأول 2023 مسألة بالغة الخطورة نظرا لتداعياتها القانونية تتعلق بمعرفة ما إذا كان لبنان في حالة حرب من الناحية الدستورية. فالنزاع المسلح الممتد على طول الحدود اللبنانية الجنوبية واشتداد وتيرة العمليات العسكرية لناحية عنفها واتساعها يضع لبنان أمام واقع بديهي لا يمكن إنكاره ألا وهو وجود حالة حرب حقيقية مكتملة الأوصاف. لكن هذه الحقيقة المشاهدة بالعيان لا تعني تلقائيا أنها أصبحت أيضا حقيقة دستورية كون إعلان الحرب يخضع لأصول قانونية محددة لا بد من دراستها: فما هي الشروط التي ترعى إعلان الحرب في لبنان علما أن معالجة هذه الإشكالية ستتم انطلاقا من القانون والتجربة الدستورية اللبنانية بمعزل عن أحكام القانون الدولي التي ترعى الحرب.

جاء الدستور اللبناني عندما تم إقراره عام 1926 خاليا من أيّ نص حول الآلية الواجب اتباعها من أجل إعلان الحرب. ولا شك أن هذا الأمر كان منطقيّا خلال الانتداب الفرنسي عندما كانت علاقات لبنان الخارجية بيد السلطات الفرنسية إذ لا يعقل أن تقوم دولة غير مكتملة السيادة وخاضعة لوصاية خارجية بإعلان الحرب ضد دولة أجنبية.

وقد طرح هذا الموضوع بعد استقلال لبنان إذ أن “إعلان الأمم المتحدة” الصادر عن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا والصين بتاريخ الأول من كانون الثاني 1942 اشترط من أجل الانضمام إليه إعلان الحرب ضد دول المحور. لذلك أصبح إعلان الحرب على ألمانيا واليابان شرطا أساسيا من أجل الانضمام إلى ما بات يعرف اليوم بمنظمة الأمم المتحدة.

وقد ناقش مجلس النواب اللبناني مسألة إعلان الحرب في جلسة بتاريخ 27 شباط 1945 لا سيما وأن الدستور اللبناني لا يحدد ما هي السلطة المختصة بذلك. فالحرب مسألة إجرائية تتعلق بالعلاقات الدولية والدستور ينيط صلاحيات المفاوضات الدولية وعقد المعاهدات بالسلطة التنفيذية ما قد يعني أن إعلان الحرب هو من اختصاص الحكومة. لكن النظام البرلماني المنبثق من التجربة الفرنسية كان اعتبر أن الحرب مسألة مصيرية تتعلق بحياة الأمّة ولا يمكن منح هكذا صلاحية خطيرة إلى شخص واحد (الملك أو رئيس الجمهورية) بل لا بد من تدخل البرلمان بوصفه ممثلا عن الشعب من أجل اتخاذ هكذا قرار. وعليه، كرّست المادة التاسعة من القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 16 تموز 1875 هذا المبدأ إذ نصّت على أن رئيس الجمهورية لا يمكنه إعلان الحرب إلا بعد موافقة البرلمان[1]، ما يعني أن إعلان الحرب هو من اختصاص السلطة التنفيذية لكنها لا تستطيع اتخاذ هكذا خطوة من دون مناقشة الأمر أمام ممثلي الشعب وحصولها على موافقتهم.

وقد ظهر هذا الأمر في البيان الذي ألقاه رئيس مجلس الوزراء عبد الحميد كرامي أمام النواب في الجلسة ذاتها إذ أعلن التالي: “ولما كنا دولة مستقلة ذات سيادة تامّة وتصرّف حر بمقدراتنا وشؤوننا.  فلهذه الأسباب كلها قرر مجلس الوزراء أن يتقدم من مجلسكم الكريم باقتراح إعلان لبنان الحرب على ألمانية واليابان اعتباراً من منتصف ليل 27 شباط سنة 1945 حتى إذا صدر هذا القرار عن المجلس بادرت الحكومة إلى استصدار مرسوم به في الحال. وطبعاً إذا قرر مجلسكم الكريم اعلان الحرب فإن الحكومة ستتخذ كل التدابير لدى ممثلي الدول الحليفة”.

وقد تنبه النائب حبيب أبي شهلا إلى هذه المسألة الدستورية فقال التالي:” ما هي الصيغة القانونية التي يجب أن يتخذها هذا الاقتراح. في جميع دساتير الأمم توجد نصوص تحدد السلطات التي بمقدورها أن تعلن الحرب وجميع دساتير العالم متفقة على إعطاء رئيس الدولة سواء أكان ملكاً أم رئيس جمهورية، الحق بإعلان الحرب. ويزيد بعضها بموافقة مجلس النواب. ولكن لسوء الحظ لدينا دستور قديم لا إشارة فيه لإعلان الحرب فليس هناك أية كلمة تشير إلى إعلان الحرب، أو السلطة التي تعلن الحرب. فيجب علينا إذن الرجوع إلى النصوص العامة التي تحتم بأن المجلس النيابي هو مصدر السلطات ويتمتع بجميع الصلاحيات إلا التي يعطيها الدستور لسلطات أخرى فحق إعلان الحرب يصدر عن المجلس فهو الذي يقرر وتأتي الحكومة وتنفذ القرار بمرسوم”.

وبالفعل سيوافق مجلس النواب على قرار إعلان الحرب ومن ثم سيقوم رئيس الجمهورية بشارة الخوري بإصدار المرسوم رقم 2705 بتاريخ 27 شباط 1945 الذي اتخذ “بناء على قرار مجلس النواب في جلسته المنعقدة بعد ظهر يوم 27 شباط 1945” والذي نصت مادته الأولى على التالي: “تعتبر الجمهورية اللبنانية في حالة حرب مع ألمانيا واليابان ابتداء من منتصف ليل 27 شباط سنة 1945”.

وقد وافق لاحقا إدمون رباط على هذا التفسير الذي اتبعه لبنان سنة 1945 فكتب حول إعلان الحرب وعقد السلم أنه “من البديهي في هذه الحالة أن تعود هذه الصلاحية التي قد يتوقف على نتائجها مصير الاستقلال والكيان، إلى مجلس النواب، باعتباره ممثلا سيادة الشعب وإرادته”[2].

وعندما جرى تعديل الدستور سنة 1990 عملا بوثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) تمّت معالجة هذه المسألة بشكل غير مباشر ومن دون التنبه لها، إذ نصت الفقرة الأخيرة من المادة 65 من الدستور أن “الحرب والسلم” هما من بين المواضيع الأساسية التي تتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء. وهكذا تكون هذه المادة قد تطرقت لأول مرة لكن بشكل مبهم لمسألة الحرب لكن من دون أن تشير صراحة هل أن هذا النص يتعلق بإعلان الحرب أيضا أو أنه يشمل قيادة الحرب فقط دون إعلانها[3]. كما أن النص لا يذكر صلاحيات مجلس النواب: فهل هذا النص الجديد يعني أن الحرب واعلانها باتا من الصلاحيات الحصرية لمجلس الوزراء أم أن التقليد السابق بخصوص ضرورة الحصول على الموافقة المسبقة للبرلمان لا يزال ساريا؟

فقيادة الحرب صلاحية لا تتطلب موافقة مجلس النواب لأنها تتعلق بالقرارات العملية المتصلة بالجيش والاستراتيجية العسكرية التي تحتاج إلى اتخاذ قرارات سريعة أو سرّية ما يعني أنها تدخل في صلب اختصاص السلطة التنفيذية، علما أن المادة 49 من الدستور أعلنت أن رئيس الجمهورية هو “القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء”. في حين أن إعلان الحرب هي مسألة سياسية بامتياز ما يبرّر ضرورة الحصول على الموافقة المسبقة للبرلمان، وهو الشرط الذي نفترض أنه لا يزال ضروريا في لبنان عملا بالتجربة السابقة. 

من الملاحظ أن إعلان الحرب لا يطرح مشكلة خاصة عندما يتعلق الأمر بحرب هجومية يتم شنّها ضد دولة أخرى بعد إبلاغ هذه الأخيرة الإعلان الرسمي للحرب. لكن المعضلة تكمن في حال تعرضت الدولة للهجوم إذ في هذه الحالة تصبح الدولة في حالة دفاع عن النفس ما يعني أن إعلان الحرب لا يعتبر ضروريا والحصول على الموافقة المسبقة للبرلمان يصبح من الأمور النافلة. فواجب الدفاع عن الدولة يحتم على السلطة التنفيذية قيادة الحرب عبر اتخاذ مباشرة كل الخطوات الضرورية لتحقيق هذا الهدف من دون انتظار موافقة مجلس النواب على إعلان الحرب[4]. وقد ظهر هذا الأمر جليا خلال الحرب العالمية الأولى عندما سلم سفير ألمانيا في باريس بتاريخ 3 آب 1914 الحكومة الفرنسية إعلانا للحرب ما حتم على هذه الأخيرة اتخاذ كل التدابير المختصة بالحرب مباشرة ومن دون الحصول على موافقة البرلمان المسبقة.

وفي حال وضعنا جانبا أن إعلان الحرب بشكل رسمي لم يعد اليوم من الأمور المألوفة لا سيما بعد دخول ميثاق الأمم المتحدة حيز التنفيذ كون الحرب كوسيلة لحل النزاعات لم تعد مشروعة في القانون الدولي، وفي حال لم نعالج إشكالية كون النزاع المسلح الحالي اندلع بين طرف لبناني لا يمثل قانونا الدولة اللبنانية واسرائيل، يتبين أن لبنان هو في حالة حرب بالمعنى الدستوري كونه مضطرا إلى الدفاع عن أرضه وشعبه وسيادته بوجه العدوان الاسرائيلي مع تسجيل مفارقة عدم اتخاذ الحكومة اللبنانية أي اجراءات دفاعية حقيقية أو توجيه أوامر صريحة للجيش والقوى المسلحة بهذا الشأن. فلبنان هو واقعيا ودستوريا في حالة حرب من دون الحاجة إلى إعلان هذه الأخيرة أو الحصول على الموافقة المسبقة لمجلس النواب، لكن الدولة تتصرف وكأن الحرب لا تعنيها ما يعكس مجددا حالة الانفصام التي تعيشها هذه الأخيرة في ظل سيطرة النظام السياسي الحالي والذي يقوم على الفصل بين المؤسسات الدستورية والسلطة الفعلية الموجودة لدى الزعماء وأحزابهم الطائفية المسيطرة على المجتمع. فالحرب المندلعة اليوم في الجنوب هي أفضل تعبير عن مأساة وهزلية المنطق الدستوري في دولة مثل لبنان.


[1] « Le Président de la République ne peut déclarer la guerre sans l’assentiment préalable des deux chambres ».

[2]  إدمون ربّاط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 701.

[3] « En ce qui concerne la guerre, il ne faut pas confondre le droit de conduire la guerre avec le droit de déclarer la guerre » (Maurice Hauriou, Précis élémentaire de droit constitutionnel, Recueil Sirey, Paris, 1930, p. 143).

[4]“Il va de soi que si la France était ainsi victime d’un acte d’hostilité, elle n’aurait qu’à se défendre; le gouvernement n’aurait qu’à mobiliser, et la demande d’autorisation du parlement serait chose superflue” (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel, Tome 4, Paris, 1924, p.804).

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، تشريعات وقوانين ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني