هجمة الدّمى


2023-10-25    |   

هجمة الدّمى

خلال الفصل الأخير، كان لبنان على موعد مع لحظة حقيقة: نشر تقرير التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. وإذ تضمّن التقرير معلومات بالغة الأهمية بشأن أسباب الخسائر الفادحة وهي تعادل أضعاف الناتج الوطني السنوي الحالي، أعرض في المقابل، بفعل قلّة المعلومات، عن إثبات هوية الجهات التي أثرتْ من خلال وضع يدها على قيمة الودائع بطرقٍ ملتوية. وبدل أن يشكّل “التقرير” منطلقًا لحراك واسع لاستكمال التحقيق وصولًا إلى تحديد المسؤوليات الجزائية عن الكارثة المالية والاقتصادية التي ما فتئتْ ترهق كواهل اللبنانيين منذ سنوات عديدة، انطلق في موازاة نشره، ضجيج غير مسبوق. ضجيج سرعان ما هيْمن على الخطاب العامّ وصولًا إلى حجب الاهتمام بالتدقيق الجنائي ونتائجه والأهم تتمّاته الواجبة. هذا الضجيج تمثل في الأساس في اختلاق رهاب إزاء المثليين والأقليات الجنسية، بعدما تمّ تصوير “المثلية” على أنّها خطر داهم يستهدف قيم المجتمع التي تمّ اختزالها بالقيم الدينيّة والعائليّة. 

بالطبع، رهاب المثلية ليس جديدًا. وبالطبع، خطاب الكراهية المناقض للمنطق والعلم ضدّ المثليين ليس جديدًا. الجديد هو تحوّله إلى خطاب رسميّ تولّى التسويق له عدد من الوزراء والنوّاب والقضاة والسلطات البلدية، في سمفونية سارع إلى مباركتها عدد من الزعامات السياسية والمرجعيات الدينية والشخصيات المصرفية والعصابات المكوّنة في هذا الحيّ أو ذاك. والجديد أيضًا هو تحوّل هذا الخطاب في فترة ليست بقصيرة إلى خطابٍ طاغٍ من شأنه أن يحجب مجمل المسائل الأخرى مهما كانت مهمّة. 

وهكذا، توالتْ المشاهد أمام اللبنانيين خلال الفصل الأخير: ها أمين عام حزب الله حسن نصرالله نفسه يدعو في سلسلة من خطابات عاشوراء “المكلّفين” إلى مكافحة الخطر الداهم الذي تمثله ظاهرة المثلية التي ليست من منظوره إلّا هجمة غربية. وها رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل يعلن عدم جواز أن يتغلّب الخلق على نظام الخالق. وها الحكومة تلتئم للمرة الأولى في تاريخها في بكركي بحضور البطريرك الماروني بشارة الراعي للبحث عن أيّ تدرّج للألوان في المناهج التربوية لحذفه قبل أن تقع الواقعة. وسرعان ما شقّ لقاء الدّيمان مسالكه في شرايين الوزارات، إذ حذف وزير التربية عباس الحلبي لعبة “السّلم والحيّة” من المناهج المدرسيّة الصيفيّة، وباشر وزير الثقافة محمد مرتضى حربًا بلا هوادة ضدّ عرض فيلم “باربي” أو التعامل مع المثليّة على أنّها أمر طبيعي. وذهب هذا الوزير حدّ إعلان مرجعية ما خلص إليه الديمان والالتزام بما أسماه، نقلًا عن البطريرك، “نظام الخالق” وما يرتّبه من قيم إيمانيّة. وقد وصلتْ حماسة انخراطه في هذه الحرب حدّ مخاطبة نائب دعا إلى إسقاط تجريم المثلية، بصيغة المؤنث ونعته بنائب الشذوذ. وفي مرحلة لاحقة، اندفع إلى التصفيق للهجوم المرعب الذي  شنّه جنود الربّ على ملهى “أم” الكائن في منطقة مار مخائيل ورواده، بعدما شبّه سلوكهم بسلوك الملاك الرئيس مار مخائيل في حربه ضدّ الشيطان. 

وفي موازاة ذلك، وإذ التزم كبار المسؤولين صمتًا مبينًا إزاء التدقيق الجنائي، كان الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة المُثقل بمذكّرات التوقيف الدولية ونتائج التدقيق الجنائي، يغادر منصبه وسط زفّة ووداعٍ حاشد. وكان القضاء يتوقّف عن التحقيق في قضيته بنتيجة لعبة أصول المحاكمات المدنية بصورة دائمة، بدل مضاعفة الجهود في هذا المضمار انطلاقًا من نتائج التدقيق الجنائي واستكمالًا لها. 

فكأنّما لبنان الرسميّ عقد العزم على حجب المخاطر الحقيقية بمخاطر وهميّة عمد إلى تضخيمها. ولهذه الغاية، بدَا المسؤولون المنخرطُون في هذه المساعي وكأنّهم لا يجدون حرجًا في التخلّي عن الحدّ الأدنى من الرصانة الواجبة ولو في الشكل في تقييم الوقائع أو التعاطي مع الشؤون التي أؤتُمنوا عليها كما لم يجدوا حرجًا في القفز فوق الصلاحيّات أو الأصول أو الإجراءات التي يفترض بهم التقيّد بها، طالما أنّ كلّ ما يفعلونه يندرج في الدفاع عن “نظام الخالق” وهو هدف سامٍ يبرّر كلّ شيء. وإذ بدوا للوهلة الأولى في معرض التحوّل إلى مشايخ أو كهنة ينطقون باسم الخالق في وجه الخليقة جمعاء، فإنّ الإسفاف الذي انتهجوه في حربهم تلك، جعلهم أقرب إلى مهرّجين أو دمى يقفزون فوق الواقع وينطقون باللامنطق والخرافات، منهم إلى مشايخ أو كهنة. 

وبمعزل عمّا حقّقه هذا التوجّه من نجاحات مثل حذف لعبة “السلم والحيّة” أو إخفاقات مثل حصول فيلم “باربي” على إجازة عرض (وهو الأمر الذي صوّره البعض على أنه انتصار للدمية “باربي” على وزير الثقافة)، يبقى أنّ المَربح الأكبر الذي حققه والذي لا يختلف عليه اثنان هو تحويل الانتباه العامّ عن الجرائم المالية والبيئية وسائر جرائم النظام الحاكم (وهي الجرائم التي تورّطت فيها أغلب القوى السياسية المشاركة في الحكم وسقط في شركها غالبية الشعب اللبناني ضحايا) في اتجاه حصره لفترة غير قصيرة في “أفعال” توصف بأنّها أخطر الجرائم من دون أن يكون لها بالواقع أيّ ضحيّة. 

وبذلك، يتبدّى أنّ لعبة الدمى الرسمية إنّما شكّلت خطوة إضافية في نهج نسف نظام العدالة وتحصين نظام الإفلات من العقاب. إذ بعدما نجحت القوى السياسية في تعطيل القضاء في التحقيق في مجمل القضايا الهامّة (المرفأ أو الجرائم الماليّة) بل في إرساء ممارسات من شأنها تعطيل القضاء في أي قضية قد تفتح مستقبلًا، ها هي تتقدّم بقوّة “دمى” ملأت فجأة كلّ المسارح خطوة إضافية في اتّجاه حرف الانتباه عن الجرائم التي أفلتت من العقاب والأهم في اتجاه إغراق الواقع والمنطق في مستنقع من الخيال والخرافات والأوهام والحقائق المزيّفة. فليس كافيًا أن يتعطّل نظام المساءلة والمحاسبة في الدولة (وهذا أمر حصل وأنجز بشكل شبه تامّ)، الأهم أن يتعطّل نظام العقل والمنطق والربط بين السبب والنتيجة، فيستحكّم كلّ ذي قوة من دون أي ضابط. 

بفعل هذا اللامنطق، لا يكون النظام بعين المواطن سلطةً مارقة أفلتتْ من العقاب بعدما خانتْه ودمّرت حاضره ومستقبله وفق ما قد نستشفّه ضمنا من التدقيق الجنائي، إنّما ملاذٌ وحصن يلجأ إليه لحمايته من مخاطر وجوديّة. وتمامًا كما حصل بعد حرب 1975-1990 حيث دُعيت أجيالٌ من الناس للتوحّد وراء زعمائهم لطيّ صفحة الحرب وبناء مستقبل زاهر، ها الدمى تطلب من أجيال أخرى من الناس التوحّد مجدّدًا وراء زعمائهم لحماية المجتمع ضد مخاطرّ غالبها وهميّة تتهدّده. وإذ تصوّر الدمى المجنّدة أنّنا في معرض صون ثقافة نتناقلُها من جيل إلى جيل، نكون في الواقع في معرض صون ثقافة اللامسؤولية والإفلات من العقاب، صون الثقافة التي دمّرتنا وتدمّرنا جيلًا بعد جيل.    

لقراءة العدد 70 بصيغة PDF

انشر المقال



متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني