نتائج الاستفتاء، بين أسئلة المصداقيّة والمشروعيّة وموازين القوى السياسيّة


2022-09-28    |   

نتائج الاستفتاء، بين أسئلة المصداقيّة والمشروعيّة وموازين القوى السياسيّة

في ساعة متأخرة من ليلة الخامس والعشرين من جويلية 2022، خرج الرئيس في جولةٍ في شارع الحبيب بورقيبة لكي يحتفل بانتصاره مع “شعبه”. كانت هيئة الانتخابات قد أعلنت، بمجرّد غلق مكاتب الاقتراع على الساعة العاشرة ليلا، عن نسبة مشاركة ب27،5%، كانت كافية حسب الرئيس للتعبير عن “إرادة الشعب”. أمّا الأرقام الأكثر تداولا ليلتها، فكانت نتائج سبر الآراء الذي أجراه معهد سيغما، والذي فصّل ليس فقط نسب النعم أو لا، ولكن أيضا أسبابها، إضافة إلى تمييزه المقاطعين من المتغيبين. قرأ المعارضون النّسبَ ذاتها كهزيمةٍ سياسيّة لسعيّد، وانتصارٍٍ لخيار المقاطعة. لكنّ إعلان الهيئة “المستقلّة” في اليوم الموالي عن النتائج الأولّية، أثار موجةً عارمةً من الانتقادات والتشكيك، طغتْ على تحليل الرابحين والخاسرين. فقد ارتفعتْ نسبة المشاركة ثلاث نقاط كاملة لتبلغ 30،5%، من ضمنها  2،6% أوراق بيضاء وملغاة، في حين توزّعت الأصوات المصرّح بها بين 94،6% صوّتوا بـ”نعم” و5،4% بـ”لا”. كما جاءت تفاصيل الأرقام حسب الجهات متضاربةً ومتناقضة، لتعزّز الشكوك حول صدقيّة النتائج. شكوكٌ لم ينهِها رفض المحكمة الإدارية للطعون المقدّمة في النتائج من قبل أربعة أطراف مشاركة في الحملة. لم يخرجْ النقاش العامّ حول النتائج عن إطار الصراع السياسيّ، فاختلطتْ فيه الأسئلة، وخضعتْ أجوبة كلّ طرف لمواقفه السياسيّة. فلئن افتقر الاستفتاء إلى ضمانات النزاهة، وجاء ليتوّج مسارًا لا تتوفّر فيه الشروط الديمقراطيّة، فإنّ ذلك لا يعني القفز على تحليل النتائج بحجّة أنّها بالضرورة مزوّرة. كما أنّ القول بأن المشاركة كانت أضعف من أن تعيد للمسار وللدستور المشروعيّة التي يفتقر لها، لا يمنع من الإقرار أيضا أنّها كانت أكبر من التوقّعات، أو تحليلها سياسيّا. فأسئلة المصداقيّة والمشروعيّة وموازين القوى السياسيّة، وإن اختلطت أحيانا، فهي لا تتطابق مع بعضها البعض. 

أيّ مصداقيّة للأرقام؟

ليس مفاجئًا بالمرّة أن يقع التشكيك في مصداقيّة نتائج الاستفتاء واتهام الهيئة التي نظّمته بالتزوير. فذلك نتيجةٌ طبيعيّة لمسارٍ أحاديّ، فرضه الرئيس بإرادته المنفردة، وتحكّم في كلّ شروطه، وصولًا إلى تعويض الهيئة المستقلة للانتخابات بمجلسٍٍ جديد من تعيينه. فإذا كان المحدّد الأوّل لنجاح استحقاق انتخابي هي ثقة الفاعلين السياسيّين فيه واعتراف الجميع بنتائجه، فإنّ المرور بقوّة لفرض أمرٍ واقع وإجراء استفتاء على مقاس إرادة الرئيس المنفردة، لا يمكن أن يُنتج، بغضّ النظر عن الوقائع، إلاّ التشكيك والرفض.

لكنّ الأرقام التي أعلنتها الهيئة يوم 26 جويلية أعطت لاتهامات التزوير زخمًا غير متوقّعٍ. فبعد أن أعلنتْ الهيئة، مباشرةً بعد إقفال مكاتب الاقتراع في التراب الوطني، نسبة مشاركة ب27،54% في الداخل، عادتْ في اليوم الموالي لتعلن نسبةً عامّة بـ 30،5%. أي أنّ النسبة ارتفعت ارتفاعًا ملحوظًا، في الوقت الذي كان من المفترض أن تتقلّص بفعل احتساب دوائر الخارج، التي كانت المشاركة فيها أضعف بكثير من الداخل. ارتفع عدد المشاركين في الداخل بما يقارب 350 ألف ناخب، فمرّ من 2.458.985، حسب أرقام الهيئة في ندوتها الصحفية في 25 جويلية، إلى 2.808.593 حسب النتائج الأوّلية التي أصبحت نهائيّة بعد استيفاء الطعون، ليبلغ العدد الجملي للمشاركين، باحتساب ناخبي الخارج، 2.830.094. ما عزّز الشكوك، بالإضافة إلى الحجم الكبير للفارق، هو أنّ هذا الرقم يتطابق بدرجةٍ غريبة مع تصريح فاروق بوعسكر، رئيس الهيئة، يوم 18 جويلية، أي قبل أسبوع من الاقتراع، بأنّ الهيئة تتوقّع مشاركة 2.8 مليون ناخب في الاستفتاء، وهو عدد الذين استعملوا خدمة التثبّت من مكاتب اقتراعهم عبر آلية الرسائل القصيرة.

لكنّ أكثر ما أثار جدلًا ضمن النتائج الأوّلية للانتخابات، هي الجداول الرسميّة التي تضمّنت تفصيل نتائج الأصوات في الجهات. حيث سرعان ما ظهر عدم التطابق بين مجموع الأصوات المصرّح بها بنعم أو لا في كلّ جهة، والعدد الجملي للمشاركين في تلك الجهة. وقد كان مثال توزر الأكثر تداولًا، حيث كان مجموع الأصوات حسب الجدول المنشور في 26 جويلية، أكبر من عدد الناخبين المسجّلين فيها. تفاعلتْ الهيئة مع هذا الجدل بفسخ الجدول من صفحتها الرسميّة على فايسبوك، عازية الإشكال إلى “تسرّب أخطاءٍ مادّية”، تمثّلت في إلحاق جدولٍ غير محيّن ضمن مُلحقات قرار النتائج. لكنّ تفسير الهيئة لم يكن مُقنعًا بالمرّة، لأنّ فرضيّة عدم تحيين جدول مجموع الأصوات تؤدّي إلى أرقامٍ جزئيّة مرشحةٍ للارتفاع، وليس أرقامًا أكبر من مجموع الأصوات المُصرّح بها في عددٍ من الدوائر (مقابل أخرى أقلّ). 

إلاّ أنّ التثبّت من الأرقام يعطينا تفسيرًا بسيطًا ومقنعًا، كان الأجدر بالهيئة أن تُعلنه صراحة. وهو أنّ الجدول الذي تضمّن أرقام مجموع الناخبين والأصوات البيضاء والملغاة حسب الهيئات الفرعيّة تغيّر فيه توزيعها بين الجهات. فأرقام جندوبة أُسندت إلى بنزرت، وأرقام القصرين إلى سوسة وأرقام سوسة إلى قفصة، الخ. يكفي استبدال الجهات بعضها ببعض في هذا الجدول، بعد مقارنته مع جدول تفصيل الأصوات المصرّح بها بين “نعم” و “لا”، لكي تصبح الأرقام متناسقةً حسابيًّا. طريقة تعامل الهيئة اتّصاليًّا مع الموضوع، ثمّ اختيار كبش فداء في شخص مدير ديوان مجلس الهيئة، عزّز الشكوك في مصداقيّة الأرقام المطعون فيها أصلًا.

يبقى أنّه، ولئن كان تضارب الجداول قابلًا للتفسير ولا يعني في حدّ ذاته وجود تزوير، فإنّ ارتفاع عدد المشاركين ب350 ألف صوتًا لا يزالُ مدعاةً للشكّ. فإذا كانت النسبة المُعلن عنها في ليلة 25 جويلية (27،5%) قريبة من تقدير المشاركة المعلن من معهد سيغما بعد سبر آراء شمل عيّنة بـ 7676 شخص (25%)، فإنّ النسبة الثانية بعيدةٌ عن تقديرات سيغما، حتى باحتساب هامش الخطأ (بين 1 و3% حسب مديرها حسن الزرقوني). بالمقابل، جاءت النسبة الجديدة (30،5%) أقرب إلى تقديرات شبكة مراقبون المتخصّصة في ملاحظة الانتخابات (31،2%)، والناتجة عن عيّنة من 1000 مكتب اقتراع، بهامش خطأ قدّرته المنظمة ب0،9%. ولا يقتصر الفرق بين أرقام المشاركة حسب الهيئة وأرقام شبكة مراقبون على النسبة النهائيّة، وإنّما تكرّر منذ الساعات الأولى للاقتراع، حيث كانت تقديرات شبكة مراقبون طوال النهار أرفع. ولئن كانت تقديرات المشاركة التي تعلنها الهيئة يوم الاقتراع، حتى خلال الاستحقاقات الانتخابيّة الفارطة، غير دقيقة، إلاّ أنّ الفارق لم يكن يتجاوز عشرات الآلاف من الأصوات. أمّا فارق 350 ألف صوت، فيبقى صعب التفسير، ولا يمكن تفسيره إلا بفرضيّتين اثنتين: إمّا حصول تضخيمٍ لأرقامِ المشاركة بعد الإعلان عن النسبة الأوّلية، قد يكون الفارق مع تقديرات شبكة مراقبون قد شجّع عليه، أو، على أقلّ تقدير، قصورًا عملياتيًّا فادحًا للهيئة في تجميع المعطيات، ربّما نتج عن ضيق آجال تنظيم الاستفتاء ونقص تكوين الأعوان.

ضعف الشفافيّة يعزّز الشكوك

دفعتْ فوضى الأرقام، التي لم نعرفْ لها مثيلًا في الاستحقاقات الانتخابيّة الفارطة، الجمعيات المعنيّة إلى مطالبة الهيئة بتوخّي أكبر قدرٍ من الشفافية. وبرز في هذا الصدد مطلبان، الأوّل لمنظمة أنا يقظ، ويقضي بإعادة فرز الصناديق من طرف لجنة مستقلّة لا تشارك فيها الهيئة، التي قابلته بالسّخرية والاستهجان. أمّا الثاني، الذي اشتركتْ فيه معظم المنظمات، وهو نشر محاضر الفرز المتعلّقة بكلّ مكاتب الاقتراع للعموم، فاختارت الهيئة تجاهله. فبعد شهر ونصف من تاريخ الاستفتاء، لم تنشر الهيئة بعدُ بطاقات كشف النتائج الخاصّة بكلّ معتمديّة، كما كان يجري في العادة، ولا محاضر الفرز المتعلّقة بالمكاتب. يصعب إيجاد أعذار لذلك، خصوصًا وأنّ العمليّة أسهل بكثيرٍ في الاستفتاء، حيث لا يوجد سوى أربعة خيارات فقط (نعم، لا، ورقة بيضاء وورقة ملغاة)، بالمقارنة مع الانتخابات التشريعيّة وحتى الرئاسيّة التي تكون فيها الخيارات بالعشرات. كان الأجدر بمجلس الهيئة، لو كانت نواياه صادقةً وثقته في النتائج المعلنة مطلقةً، أن يتوخّى الشفافيّة الكاملة، لا سيّما بعد فضيحة الأرقام المتضاربة، وفي ظلّ الشكوك المشروعة حول استقلاليّة الهيئة ومصداقيّتها. 

هكذا، تقتصر الأرقام الوحيدة المتوفّرة على المستوى الجهوي، وهو ما يحدّ كثيرًا من إمكانيّات التحليل الانتخابيّ كما من فرصة التأكد من صدقيّة النتائج. وما يمكن أن نخلص إليه، بالمقارنة مع انتخابات  2019 التشريعيّة، بوصفها الأقرب في عدد المشاركين، هو أنّ الولايات التي ارتفعت فيها المشاركة في الاستفتاء بصفة ملحوظة (أي ارتفاع بأكثر من 10% من عدد المشاركين في التشريعيّة)، كانت الولايات التي يغلب عليها الطابع الريفي (باجة، منوبة، جندوبة، نابل 2). قد يفسّر ذلك بفرضياتٍ عديدة، بالإضافة إلى فرضيّة التزوير المباشر التي يصعب التحقّق منها، ومنها ارتفاع شعبيّة سعيّد فيها، أو التسهيلات اللوجستيّة في نقل الناخبين، أو دور المعتمدين والعُمد الذي يكون أهمّ بكثير في هذه المناطق، خصوصًا وأنّ سعيّد عيّن في الفترة الأخيرة عددًا كبيرًا من أنصاره في هذه المناصب. أمّا الجهات التي انخفضتْ فيها المشاركة بشكلٍ كبير، فكانت دوائر الخارج، ثمّ دوائر الجنوب، على الأرجح بسبب تظافر العامل السياسيّ، وهي شعبيّة حركة النهضة فيها، والعامل المناخي، بالنظر إلى حرارة الصيف المرتفعة فيها. يبقى أنّ المقارنة على المستوى الجهوي تبقى قاصرةً على إعطاء استنتاجاتٍ واضحة أو فضح تزويرٍ واضح، في غياب المعطيات المفصّلة حسب المراكز والمعتمديّات.

كما تميّز الاستفتاء بضعف عدد الملاحظين والمُراقبين، بالمقارنة مع الاستحقاقات الفارطة. لا يقتصر الأمر على نقص الملاحظين الأجانب، الذين رفض الرئيس صراحة حضورهم بمناسبة تنصيب مجلس الهيئة المعيّن. فهؤلاء لم يكن عددهم كبيرًا، حتى خلال الاستحقاقات الفارطة. في السابق، كانت الأحزاب الكبرى تنتدب عددًا هامًّا من المراقبين، وكانت منظمات المجتمع المدني تجنّد هي الأخرى آلافًا من الملاحظين، يغطّون معظم مكاتب الاقتراع. في انتخابات 2014 مثلا، بلغ عدد الملاحظين المحليّين المعتمدين أكثر من 28 ألفا، بالإضافة إلى ممثلي الأطراف المترشّحة، الذين تجاوز عددهم في كلّ من الرئاسية وفي التشريعيّة 70 ألفًا. فحضورُ الملاحظين والمراقبين، ليس فقط طيلة عمليّة الاقتراع وإنّما أيضًا خلال الفرز، يجعل فرص التزوير ضعيفةً جدّا.

أمّا في استفتاء الرئيس، فقد كان عدد المراقبين الممثّلين للأطراف المشاركة في الحملة ضعيفًا جدّا، نتيجة مقاطعة الأحزاب الكبرى. فقد أعلنت شبكة مراقبون، انطلاقًا من العيّنة التي غطّتها، أنّ 91% من مكاتب الاقتراع كانت خاليّة من أيّ ممثّلٍ للمشاركين، و6% فقط حضر فيها ممثّل للأطراف الداعية إلى التصويت بـ”لا”. أمّا الملاحظون المعتمدون من المجتمع المدني، فكان عددهم محدودًا بالمقارنة مع الاستحقاقات السابقة. إذ لم تستطِع شبكة مراقبون، وهي أكثر المنظمات تواجدًا في المكاتب، توفير أكثر من 2000 ملاحظ، لم يغطّوا سوى 1000 مكتب اقتراع فقط من أصل قرابة 11600 مكتب. فقد فرض خيارُ فتح مكاتب الاقتراع من السادسة صباحًا حتى العاشرة مساءً على منظمات الرقابة الانتخابيّة توفير ملاحظيْن اثنين في كلّ مكتب. غياب الملاحظين عن معظم مكاتب الاقتراع، وامتناع الهيئة عن نشر محاضر الفرز، بالإضافة إلى كامل السياق الذي تقرّر فيه الاستفتاء وتمّ تنظيمه، جميعها عوامل تدفع للشكّ في صدقيّة النتائج، على الرّغم من تقارب النسب المعلنة مع نتائج سبر الآراء، الذي يُضعف احتمال التزوير واسع النطاق.

لم يحضر ممثلو الأطراف المعارضة إلا في 6% من مكاتب الاقتراع

مشروعيّةٌ تزداد اهتراءً

في ظلّ مقاطعة أبرز القوى السياسيّة المعارضة، لم يكن الرهان الأساسيّ للاستفتاء في النّسب التي ستتحصّل عليها كلّ إجابة، بقدر ما كان نسبة المشاركة. ورغم أنّ النتيجة كانت مشاركة أقلّ من ثلث الناخبين، فإنّ مناصري الرئيس أصرّوا على أنّ الاستفتاء قد نجح وأنّ المشاركة كانت محترمة. عزا الأنصار، وعلى رأسهم هيئة الانتخابات، انخفاض النسبة إلى خيار التسجيل الآلي للناخبين، الذي ارتفع بسببه الجسم الانتخابي إلى أكثر من 9،2 مليون ناخب وناخبة. واكتفُوا بالمقارنة مع عدد المشاركين في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة، ليستنتجُوا أنّ المشاركة كانت قريبة مما جرتْ عليه العادة. 

لكنّ هذه القراءة لا تبدو مقنعةً، لأسبابٍ عديدة. أوّلًا، حتى إذا احتسبنا عدد المشاركين وليس نِسب المشاركة، سنجدُ أيضًا أنّ المشاركة في استفتاء 2022  كانت الأقلّ في استحقاقٍ انتخابي وطني منذ 2011، في حين كان عدد من يحقّ لهم التصويت الأعلى. ثانيًا، ليس صحيحًا أنّ نسب المشاركة هي في انخفاضٍ مستمرّ منذ 2011، وأنّ الاستفتاء خضع لهذا النسق الطبيعي. بل أنّ أعلى مشاركة، إذا ما استثنينا انتخابات 23 أكتوبر 2011 التأسيسيّة، كانت في آخر استحقاق انتخابي وطني، وهو الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، حيث بلغت ما يقارب 3،9 مليون صوتًا. حتّى معدّل عدد المشاركين في 2019، أي باحتساب الرئاسيّة بدورتيْها والتشريعيّة، كان أعلى من معدّل 2014. ثالثًا، وهذا الأهمّ، لا يبدو اعتماد الانتخابات التشريعيّة الأخيرة كمعيار للمقارنة مع نسبة المشاركة في الاستفتاء مبرّرًا. فآخر استحقاق، بالمعيار الكرونولوجي، كان الدور الثاني للانتخابات الرئاسيّة. وهو أيضا الأقرب إلى فلسفة الاستفتاء، بما أنّ الخيار اقتصر على مرشّحيْن، أحدهما سعيّد. كما أنّ ضعف المشاركة في التشريعية الأخيرة كان في جزءٍ منه يعود إلى الرزنامة التي حصرتْه بين دورتيْ الانتخابات الرئاسيّة، في أقلّ من شهر. والأهمّ، أنّ الاستفتاء على الدستور لا يقارن بالاستحقاقات الانتخابيّة الدوريّة. إذ يتعلّق الأمر بالنصّ الأعلى في الدولة، والمنظّم للسلطة وللحقوق، والذي يفترض أن يدوم لعقود. فالمقارنة الأقرب في هذا الاتجاه، تكون مع الانتخابات التأسيسيّة لسنة 2011، التي شارك فيها أكثر من 4،3 مليون ناخب. فمشروعيّة دستور 2014 متأتّية من هذه الانتخابات، ومن التوافق الواسع حوله داخل المجلس الوطني التأسيسي، ومن المشاركة المجتمعيّة الواسعة في النقاش حوله. أمّا دستور سعيّد، فلم يقمْ فقط على مسارٍ انقلابي وعلى مرورٍ بقوّة بإرادةٍ منفردة من الرئيس، وإنّما لم يشفع له الاستفتاء بمشاركةٍ قويّة تمنحه غطاءً شعبيّا واضحًا. إذ لم ينلْ الدستور سوى موافقة 28% من الجسم الانتخابي، وهي نسبة تعني، في الديمقراطيات التي تنصّ على عتبة دنيا في الاستفتاء، عدم اعتماد النتائج. وهي بالأخصّ، لا تكفي أبدًا لغسل عيوب اللامشروعيّة التي انبنى عليها المسار بأكمله.

مشروعيّة الاستفتاء تزداد ضعفا، حين نعلم أنّ المحرّك الأساسي للتصويت لم يكنْ النقاش حول الدستور. وذلك نتيجة طبيعيّة للرزنامة الانتخابيّة التي لم تسمح أبدا بمناقشته، ولاعتماد المساندين منطق الابتزاز السياسي بدل نقاش المضامين. وقد أكّد سبر الآراء الذي أجرتْه سيغما كونساي يوم الاستفتاء هذا الانطباع، حيث سُئِل المصوّتون بنعم عن الدافع الأساسيّ لذلك، فتراوحتْ 75% من الإجابات بين “إصلاح البلاد وتحسين الوضع”، و”دعم رئيس الجمهورية ومشروعه”، و”طيّ صفحة الماضي”، و”معاداة النهضة ورئيسها”. أمّا “الاقتناع بالدستور المقترح”، فلم يحزْ أكثر من 13% من الإجابات، من دون أن يتأكّد أن الاقتناع بمضامين الدستور كان مستنيرا، في غياب نقاش عامّ حوله. لم يكن فقط الاستفتاء في شكل مبايعة شخصيّة للرئيس، ولكنّه كان للكثيرين فرصةً للقطع مع المنظومة الحاكمة قبلهُ، التي لا يزالون يحمّلونها المسؤوليّة عن تردّي أوضاعهم، رغم مرور سنةٍ من الحُكم المطلق للرئيس.

المعارضات أيضا لم تنتصرْ

يبقى أنّ أهمّ أرقام سبر آراء سيغما كونساي، هو المتعلّق بالمُقاطعين. فقد جاء فيه أنّ 21% من الجسم الانتخابي اختار المقاطعة الواعية، أي المبنيّة على موقف سياسيّ، مقابل 54% اختاروا عدم المشاركة لأسبابٍ أخْرى. ذلك يعني أنّ نسبة المقاطعين، إذا ما أضفنا إليها المصوّتين ب”لا”، تصبح مساويةً لنسبة المصوّتين ب”نعم” من الجسم الانتخابي، مما يؤكد حالة الاستقطاب وتوازن القوى الشعبيّة بين مناصري الرئيس من جهة، ومعارضيه من جهة أخرى، مع لامبالاة أكثر من نصف الشعب بهذا الصراع.

اعتبرت المعارضات، الممثلة بالأساس في أطراف ثلاثة قاطعت الاستفتاء، وهي جبهة الخلاص، والحزب الدستوري الحرّ، وخماسي الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية واليساريّة، كلّ من جهته، هذه النتيجة انتصارًا لها. بل وصلتْ إلى اعتبار أنّها تمثّل ثلاثة أرباع الجسم الانتخابي، الذين لم يصوّتوا بنعم. ولئن كان من الدور الطبيعي للمعارضة القدحُ في مشروعيّة الدستور والمسار بأكمله، والتأكيد على أنّه لا يمثّل الإرادة الشعبيّة، إلاّ أنّ ذلك لا يعني انتصارها ونجاح حملات المقاطعة. فهذا الجمهور الانتخابي المُقاطِع، وإن كان ينفي فكرة الإجماع الشعبي على مسار 25 جويلية، فإنّه لا ينفي حالة الحنق الشعبي على الطبقة السياسيّة، بدرجاتٍ مختلفة. بل أنّ المقاطعة النشيطة قد تكون قد ساهمت، بصفة عكسيّة، في الترفيع في نسب المشاركة. وهو ما ينطبق من باب أولى وأحرى على فرضيّة مشاركة الأحزاب المعارضة ودعوتها للتصويت بـ”لا”، التي لا تزال بعض القراءات تؤكّد أنّها كانت قادرةً على إسقاط الدستور. فبالإضافة إلى الحجّة المبدئيّة التي تفرض عدم الاعتراف بالمسار، وغياب ضمانات النزاهة والشفافيّة على المسار، لا تبدو هذه الفكرة مقنعةً، حتّى من وجهة نظر النجاعة العمليّة. فانخراط الأحزاب في الحملة، وبغضّ النظر عن صعوبة تعبئة الجماهير الانتخابية للحزب الدستوري الحرّ والنهضة في اتجاه خيار واحد، كان سيدفع على الأرجح الناس أكثر فأكثر إلى التصويت بنعم، نقمةً على “الطبقة السياسيّة” التي يحمّلونها كلّ الشرور. فإذا كان سعيّد فشل في إعطاء الدستور المشروعيّة الشعبيّة التي يبحث عنها، فإنّ ذلك لا يعني أبدًا انتصار المعارضات، ولا قدرتها على تغيير موازين القوى في الأمد القصير. فالمساعي القائمة لتوحيد المعارضات، والتي يبقى من المستبعد جدًّا أن تثمر، قد تساهم في تعزيز شعبيّة سعيّد عوض إضعافها. فالمعارضات مدعوّة قبل كلّ شيء إلى تقييم نفسها، والقيام بمراجعات ومصارحة الرأي العامّ بها، وإبعاد الوجوه الأكثر استفزازا. أمّا التحجّح بأولوية استحقاق مقاومة الانقلاب على كلّ ذلك، فلا يخدم سوى السلطة الغاصبة.

فشل سعيّد في إضفاء المشروعيّة على دستوره لا يعني انتصار المعارضات

لقد أكّد الاستفتاءُ توازن الضعف الذي يحكمُ الحياة السياسيّة. لكنّه توازنٌ يبقى في مصلحة الرئيس، الذي يستفيد من ضعف المعارضات ولا شعبيّتها، في حين لا تزال هي غير قادرة على الاستثمار في فشله وأخطائه. لم يكن الاستفتاء فقط مبايعة للرئيس، وإنما كان بمثابة تصويت عقابي، لم يوجّه كما في العادة لمن في السلطة، بل كان ضدّ الطبقة السياسيّة المعارضة. لكنّ التحليل السياسيّ، وإن كان ضروريّا لقراءة موازين القوى ووضع استراتيجيات العمل، لا يتناقض بالمرّة مع التأكيد على فشل الدستور في نيل المشروعيّة الشعبيّة اللازمة، وفي إعطاء صورة استحقاقٍ ديمقراطي نزيه. فكان الاستفتاء، في المحصّلة، تتويجًا طبيعيًّا لمسارٍ غير ديمقراطي حكمتهُ إرادة الفرد، المستقوي ليس فقط بأجهزته الصلبة، وإنّما أيضا بمعارضيه.

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني