ميقاتي يُبدع في مخالفة الدستور: عدم نشر القانون على الرغم من إصداره


2023-12-28    |   

ميقاتي يُبدع في مخالفة الدستور: عدم نشر القانون على الرغم من إصداره

في تطوّر بارز، أعلنت المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء في بيان لها صدر بتاريخ 27 كانون الأول 2023 أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أعطى توجيهاته بعدم نشر ثلاثة قوانين وافق مجلس الوزراء على إصدارها بجلسته المنعقدة في 19 كانون الأول الجاري بوصفه الجهة التي تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة، وذلك “ليتسنى اعادة عرض القرار المتصل بإصدارها مجدداً على أول جلسة لمجلس الوزراء للبحث في الخيارات الدستورية المُتاحة بشأنها”.

وبغضّ النظر عن خلفية هذا القرار والمصالح التي تقف وراء عدم نشر هذه القوانين (قانون تحرير الإيجارات غير السكنية، القانون المختصّ بصندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة، وقانون تعديل بعض أحكام قوانين تتعلق بالهيئة التعليمية في المدارس الخاصة وبتنظيم الموازنة المدرسية) في الجريدة الرسمية كي تصبح نافذة، لا بدّ من إبداء الملاحظات التاليّة على هذه الخطوة المستغربة التي أعلن عنها رئيس حكومة تصريف الأعمال من تلقاء نفسه.

تمنح المادة 57 من الدستور رئيس الجمهورية صلاحية ردّ القانون إلى مجلس النواب لإعادة النظر فيه خلال مهلة الإصدار أي خلال شهر من تاريخ إحالة القانون إلى الحكومة، ما يعني أنّ الموقف الدّستوري السليم الذي كان من المفترض اتّخاذه من قبل مجلس الوزراء هو عدم إصدار تلك القوانين وردها إلى مجلس النواب عبر صدور مرسوم عن مجلس الوزراء بذلك كونه الجهة التي تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية بالوكالة.

لكن مجلس الوزراء اتخذ القرار بإصدار تلك القوانين ما يعني أن الخطوة اللاحقة كانت تفترض نشر هذه القوانين في الجريدة الرسمية لكن ذلك لم يحدث عملا بتوجيهات رئيس الحكومة الذي يكون في هذه الحالة قرر عمليا تعليق قرار مجلس الوزراء، علما أنّ لا صلاحية إطلاقا له في هذا المجال وإلا يتحول رئيس الحكومة إلى سلطة تسلسلية يحقّ لها توجيه الأوامر الإدارية إلى مجلس الوزراء ما يشكل مخالفة للنظام الدستوري في لبنان.

ويخالف “قرار” رئيس الحكومة أيضا القانون رقم 646 الصادر في 2 حزيران 1997 كونه ينص في مادته الأولى على التالي: “تطبيقا لأحكام المادة 51 ولأحكام الفقرة الأولى من المادة 56 والمادة 57 من الدستور، تنشر جميع القوانين في الجريدة الرسمية، خلال مهلة أقصاها خمسة عشر يوما من تاريخ إصدارها”، ما يعني أن تعليق نشر القانون إلى أجل غير مسمّى هي مخالفة مباشرة للموجب القانوني بنشر القوانين في الجريدة الرسمية خلال خمسة عشر يوما من تاريخ إصدارها. فقد وافق مجلس الوزراء على إصدار هذه القوانين في 19 من الشهر الجاري ما يوجب نشرها قبل انصرام المهلة التي يفرضها القانون رقم 646 ولا يحق لرئيس الحكومة بأيّ شكل من الأشكال مخالفة هذا الأمر كون صلاحية الإصدار تعود لرئيس الجمهورية، واستطرادا اليوم إلى مجلس الوزراء، ولا تعود له شخصيا حتى لو كان الدستور ينصّ على توقيع رئيس الحكومة على إصدار القوانين إلى جانب توقيع رئيس الجمهورية. فالتبعية الإدارية لمصلحة الجريدة الرسمية لرئاسة الحكومة لا يجب أن تعني إطلاقا منح رئيس مجلس الوزراء القدرة على تعطيل العمل بأحكام دستورية.

النقطة الثانية التي يجب التنبه لها هو أن “قرار” رئيس الحكومة بمنع نشر هذه القوانين لا يعني أن هذه القوانين لن تصبح نافذة. فالمادة 57 من الدستور كما جرى تعديلها سنة 1990 تنص على أن القانون الذي لا يتم إصداره أو رده خلال مهلة الإصدار “يصبح نافذا حكما ووجب نشره” وهو الأمر الذي حصل أكثر من مرة عندما تم نشر قوانين لم يوقعها رئيس الجمهورية أو يردها ضمن المهل الدستورية، لا بل حصل أيضا سنة 2014 عند خلو رئاسة الجمهورية بحيث تم نشر القوانين في الجريدة الرسمية التي لم يصدرها مجلس الوزراء أو يردها خلال المهلة الدستورية.

وبما أن رئيس مجلس النواب أحال القوانين إلى الحكومة بتاريخ 18 كانون الأول 2023 فإن ذلك يعني سريان مهلة الإصدار، واستنكاف رئيس الحكومة عن توقيع مرسوم الإصدار لن يؤدي سوى إلى تأخير النفاذ الحكمي للقانون ونشره في الجريدة الرسمية عند انصرام المهلة الدستورية إلا إذا افترضنا أن رئيس الحكومة سيصر على عدم نشر القانون حتى بعض انقضاء المهلة الدستورية، ما يشكل خرقا فاضحا للدستور ويسلط الضوء مجددا على تبعية الجريدة الرسمية إلى رئاسة الحكومة التي ستفقد في هذه الحالة طابعها الإداري كي تصبح سلاحا سياسيا لتعطيل الدستور وتحقيق مصالح مشبوهة.

لكن المعضلة التي يطرحها “قرار” رئيس الحكومة الاعتباطي لا تقف هنا. فإصدار القانون يتم في المبدأ عندما يوقعه رئيس الجمهورية ومن ثم يتم نشره عادة في الجريدة الرسمية. فإذا ما وضعنا جانبا المسألة القانونية المتعلقة بمدى اشتراط نشر القانون لنفاذه وفقا للنظام القانوني القائم في لبنان، يتبين أن موقف رئيس الحكومة يثير إشكالية جديدة إذ في ظل شغور رئاسة الجمهورية ومن أجل إصدار القانون يتوجب صدور قرار عن مجلس الوزراء بذلك أولا، ومن ثم صدور مرسوم بإصدار القانون ثانيا على أن يحمل توقيع رئيس مجلس الوزراء.

فرئيس الحكومة يوقع القانون قبل رئيس الجمهورية عند وجود هذا الأخير ومن ثم يرفعه إلى رئيس الجمهورية كي يقرر إصداره أو رده إلى مجلس النواب. بينما الواقع اليوم يختلف بشكل كبير كون مجلس الوزراء الذي يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية يقرر إصدار القانون أولا ومن ثم يتولى رئيس الحكومة التوقيع على مرسوم الإصدار. فرئيس الحكومة في ظل وجود رئيس للجمهورية لا يملك ليس فقط صلاحية رفض توقيع القانون لكنه أيضا يوقعه من دون معرفته بالقرار النهائي الذي سيتخذه رئيس الجمهورية برد القانون أو إصداره، بينما في الحالة الراهنة يوجد قرار صريح اتخذه مجلس الوزراء بإصدار القانون قام رئيس الحكومة بتعليقه. فإذا كان رئيس الحكومة لا يملك مثل تلك الصلاحية عند وجود رئيس الجمهورية فمن الأولى أنه لا يملكها عند ممارسة مجلس الوزراء لصلاحيات رئيس الجمهورية بالوكالة.

فرئيس حكومة تصريف الأعمال بطلبه تعليق نشر القوانين كي ينظر فيها مجلس الوزراء مجددا يكون عمليا قد ردّ قرار مجلس الوزراء وهي صلاحية تعود لرئيس الجمهورية عملا بالمادة 56 من الدستور التي تسمح له حصرا برد قرارات مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ اتخاذها.

علاوة على مخالفة رئيس الحكومة للدستور برده لقرار مجلس الوزراء كون تلك الصلاحية تعود لرئيس الجمهورية وهي لم تنتقل له، فإن رئيس الحكومة قام بالحقيقة ليس برد قرار مجلس الوزراء بل قرار رئيس الجمهورية الذي يمارس صلاحياته وكالة مجلس الوزراء. فقرار إصدار القانون هو قرار يعود حصرا لرئيس الجمهورية، وبرده هذا القرار يكون رئيس الحكومة قد ردّ قرار إصدار القانون، وهي صلاحية لا يملكها هذا الأخير إطلاقا في حال كان رئيس الجمهورية موجودا. فالذي لا يحق له رد قرارات رئيس الجمهورية من الأولى ألا يحق له أيضا ردّ قرارات الوكيل، ومصدر اللغط الذي سمح له بذلك هو ما أشرنا إليه سابقا بأن رئيس الحكومة اليوم بات يوقع مرسوم الإصدار بعد قرار مجلس الوزراء، بينما في الظروف العادية هو يوقع القانون قبل رئيس الجمهورية ما يجعل المشكلة بحكم المنتفية.

نقطة أخيرة لا بد من إثارتها وهي من الأمور الغير مسبوقة في لبنان تتعلق بجواز سحب مرسوم الإصدار. فقد طرح الفقه خلال الجمهورية الثالثة في فرنسا (1875-1940) هذه الإشكالية. فإصدار القانون يتم بمرسوم حتى لو اختلف من حيث الصياغة الشكلية عن المراسيم العادية، والمرسوم كما هو معلوم يدخل في عداد الأعمال الإدارية، ما يعني منطقيا جواز سحب مرسوم الإصدار أسوة بسائر الأعمال الإدارية التي يجوز سحبها ضمن شروط معينة.

فقد اعتبر “غاستون جاز” أن مرسوم الإصدار في حال كان مشوبا بعيب دستوري يمكن سحبه كإصدار قانون مثلا لم يوافق عليه البرلمان أو تم اقراره وفقا لصيغة مختلفة في مجلسي الشيوخ والنواب. أما مرسوم الإصدار الصحيح (promulgation régulière) فلا يمكن إطلاقا سحبه لأنه يختم العملية التشريعية التي انطلقت في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب، وانتهت بإقرار القانون بالصيغة ذاتها في البرلمان. فقدرة رئيس الجمهورية على سحب مرسوم الإصدار المتخذ بشكل صحيح يعني منحه “صلاحية سياسية رهيبة” تخوله تعليق نفاذ القوانين وتهديد استقرار الأوضاع القانونية للمواطنين[1]. وهذا هو الموقف نفسه الذي يعلنه العلامة “ليون دوغي”[2].  

لكن سحب مرسوم الإصدار يستوجب وجود هذا المرسوم في أول الأمر، بينما موقف رئيس الحكومة كونه بات اليوم الجهة الوحيدة التي توقع على مرسوم الإصدار يمنع وجود المرسوم أصلا، هذا في حال افترضنا أن مرسوم الإصدار مشوب بعيب قانوني معين. لكن قرار مجلس الوزراء بإصدار هذه القوانين هو قرار صحيح من الناحية الدستورية وبالتالي لا يمكن سحبه. فموقف رئيس الحكومة يطرح مجددا مسألة قيمة قرارات مجلس الوزراء بعد التعديلات الدستورية التي عرفها لبنان سنة 1990 عملا باتفاق الطائف. فقرار مجلس الوزراء يحتاج في لبنان كي يصبح نافذا إلى صدور مرسوم بذلك، وإذا كان الدستور يفرض على رئيس الجمهورية مهلة خمسة عشر يوما من أجل إصدار المراسيم وإلا تصبح نافذة من دون توقيعه، فإن هكذا مهلة لا توجد بخصوص رئيس مجلس الوزراء أو حتى الوزراء.

خلاصة القول، يشكل تمنع رئيس الحكومة عن توقيع القوانين وإعطائه توجيهات للجريدة الرسمية بعدم نشر عدد معين من القوانين خرقا خطيرا جدا للدستور، علما انها ليس المرة الأولى التي يفعل ذلك إذ سبق أن امتنعت الجريدة الرسمية عن نشر مرسوم قبول استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الذي وقعه الرئيس ميشال عون قبيل انتهاء ولايته. فبهذا القرار الاعتباطي لا يعبر رئيس الحكومة عن دفاعه عن مصالح اقتصادية معينة فقط، بل هو يصادر صلاحيات مجلس الوزراء ويمنح نفسه القدرة على تعليق نفاذ القوانين ويسجل سابقة غير معهودة في تاريخ المخالفات الدستورية التي بات يشهدها لبنان بشكل متزايد.    


[1] « D’ailleurs, si la promulgation pouvait être retirée, le Président de la république jouirait d’un pouvoir politique formidable. L’effet de ce retrait serait en effet de suspendre la loi pour l’avenir en faisant disparaître l’un de ses éléments essentiels. Ce pouvoir de suspendre les lois n’existe manifestement pas au profit du chef de l’Exécutif » (Gaston Jèze, la promulgation des lois, Revue de droit public et de science politique en France et à l’étranger, Tome XXXV, Janvier-Février-Mars 1918, Paris, p. 393).   

[2] « Si la promulgation a été régulièrement  faite, incontestablement, elle ne peut pas être  rapportée. Le président de la République doit promulguer la loi, il exerce à cet égard, une compétence liée.  Il ne peut pas ne pas  la promulguer quand le même texte a été voté par les deux chambres. A fortiori, ne peut-il pas  rapporter une promulgation régulière » (Léon Duguit, Traité de droit constitutionnel, Tome 4, Paris, 1924, p. 637).

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني