موزاييك أف أم تتعرّض للقمع والإعلام التونسي يواجه


2022-03-23    |   

موزاييك أف أم تتعرّض للقمع والإعلام التونسي يواجه
رسم: عثمان السلمي

“هناك دائما روايتان لكل حادث: رواية صادقة، ورواية الحكومة”

الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي

تزامنا مع تواصل أشغال اليوم الثاني من فعاليات المنتدى العالمي للصحافة الذي ينعقد في تونس أيّام 17 و18 و19 مارس 2022، كان الصحفي التونسي ومراسل إذاعة موزاييك أف أم بالقيروان، خليفة القاسمي قيد الاستنطاق من قبل الوحدة الوطنية للأبحاث في جرائم الإرهاب للحرس الوطني بالعوينة طيلة 9 ساعات. وإذ هدف الاستنطاق، بحسب ما جاء في البيانات الصادرة عن النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وإذاعة موزاييك والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، للضغط عليه للكشف عن مصادره بعد نشره خبرا حول تفكيك خلية إرهابية بالقيروان، تمسّك الصحفي بحقّه في حماية مصادره وعدم الكشف عنها، استنادا لما يمنحه له المرسوم 115 المنظم للمهنة الصحفية. وقد انتهى الاستنطاق بقرار من مساعد وكيل الجمهورية بمحكمة تونس 1 بالاحتفاظ بالقاسمي لمدة 5 أيام على ذمة البحث.

هذه الحادثة، لم تكن منفردة. حيث تعيش الصحافة التونسيّة على وقع هرسلة وانتهاكات متكرّرة ومحاولات للتطويع خصوصا في الوسائل الإعلام العمومية. واقع يسير شيئا فشيئا نحو التأزّم والمواجهة بين رئيس السلطات الثلاث والسلطة الرابعة مع تلويح هذه الأخيرة بإضراب عام للتصدي لممارسات السلطة وعدوانيّتها تجاه أحد أهمّ مكتسبات ما بعد 14 جانفي 2011؛ حريّة الرأي والتعبير.

المرسوم 115 في نظر السلطة: حبر على ورق

على إثر خبر تمّ نشره على موقع الإذاعة الخاصة موزاييك أف أم (تمّ محوه لاحقًا بضغط أمني بحسب بيان الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري) وجد الصحفي خليفة القاسمي العامل مع الإذاعة المذكورة في ولاية القيروان، نفسه مطلوبا للمثول أمام الوحدة الوطنية للأبحاث في جرائم الإرهاب للحرس الوطني بالعوينة بصفته ذي شبهة. الاستنطاق تمحور حول مطالبة خليفة القاسمي بالإفصاح عن مصادره، لكنّ إصرار هذا الأخير على التمسّك بحقّه كصحفي بحماية مصادره وعدم الكشف عنها وفق ما يكفله له الفصل 11 من المرسوم 115 المتعلّق بحريّة الصحافة والطباعة والنشر[1]، جعل وكيل الجمهورية يأذن بالاحتفاظ به 5 أيام على ذمّة التحقيق على معنى الفصل 24 من القانون عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال. الأبحاث الأمنية لم تقتصر على الصحفي خليفة القاسمي، بل تمّ استدعاء رئيس تحرير قسم الأخبار في إذاعة موزاييك حسين الدبابي والاستماع إليه قبل إبقائه في حالة سراح إضافة إلى الصحفية أمل مناعي التي تولّت نشر الخبر والتي تمّ إبقاؤها هي الأخرى في حالة سراح إلى حين المثول مجدّدا أمام الوحدة الوطنية للأبحاث في جرائم الإرهاب للحرس الوطني يوم الثلاثاء 22 مارس 2022.

هذه الحادثة لم تخالف فقط ما نصّ عليه الفصل 11 من المرسوم 115 المتعلّق بحريّة الصحافة والطباعة والنشر بل وناقضت الفصل 37 من القانون عدد 26 لسنة 2015 المتعلّق بمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال. ففي جين يجرّم هذا الفصل من يمتنع عن إشعار السلط ذات النظر حالا بما أمكن له الاطلاع عليه من أفعال وما بلغ إليه من معلومات أو إرشادات حول ارتكاب إحدى الجرائم الإرهابية أو احتمال ارتكابها، فإنه استثنى بصورة صريحة فئات معينة ومنها الصحافيين وفقا لأحكام المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر. ولا يُعاقب الصحافي في هذه الحالة إلا في حال كان من شأن إشعار السلط أن يؤدي إلى تفادي ارتكاب جرائم إرهابية في المستقبل، وهو استثناء لا ينطبق في قضية القاسمي.

الكلّ يقرع نواقيس الخطر

أثارت هذه الحادثة حالة استنكار واسعة في صفوف مهنيّي القطاع وهيكلهم النقابيّ وطيف واسع من منظّمات المجتمع المدني، خصوصا وأنّها تزامنت مع احتضان تونس للدورة الثانية من المنتدى العالمي للصحافة الذي شهد أول التحرّكات الاحتجاجيّة في مقرّ انعقاده في مدينة الثقافة في العاصمة تونس. إذ نفذّ عدد من الصحفيين والصحفيات يوم السبت 19 مارس 2022 وقفة احتجاجية في مدينة الثقافة خلال اختتام فعاليات المنتدى، مطالبين بوضع حدّ لترهيب الصحفيين وملاحقتهم بالاعتماد على قوانين لا تمتّ للمهنة بصلة. كما نظّم صحفيّو وصحافيّات ولايات القيروان وسيدي بوزيد وسوسة وممثلين عن الاتحاد الجهوي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ونشطاء المجتمع المدني، وقفة مساندة للصحفي خليفة القاسمي أمام الحكمة الابتدائية بالقيروان يوم الإثنين 21 مارس 2022.

أمّا على صعيد البلاغات، فقد أدانت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيّين بشدّة عملية إيقاف الصحفي خليفة القاسمي مطالبة بالافراج الفوري عنه ومعتبرة في ذات السياق أنّ هذه الخطوة هي فصل جديد يسجّل في عهد منظومة حكم ما بعد 25 جويلية في ضرب حرية الصحافة في تونس وترهيب الصحفيين. لم تتوقّف موجة الإدانات عند هذا الحدّ، حيث وقعّت 31 منظّمة وجمعية من بينها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيّين وجمعية المفكرة القانونية-فرع تونس وغيرهم، بيانا مشتركا عبّرت فيه عن تضامنها المطلق مع الصحفي خليفة القاسمي وزملائه المتابعين في نفس الملف مبدية خشيتها من أن تكون هذه المتابعة استهدافا مباشرا لإذاعة موزاييك أف أم ولحرية الإعلام في تونس.  هذا وأشار الموقّعون إلى أن السنوات الماضية كشفت أنه كلما تمت إحالة صحفيين وفق قانون الإرهاب، فإن ذلك يتم وفق تعليمات سياسية يراد بها تكميم الصحفيين وترهيبهم وتوجيه رسائل مباشرة للصحفيين ولوسائل الإعلام والفاعلين في قطاع الإعلام بضرورة احترام الخطوط الحمراء التي رسمتها السلطة والتملص من دورهم الحقيقي في كشف الحقائق وإطلاع الجمهور عليها. هذا وأعربت المنظمات والجمعيات عن استعدادها التام والمبدئي لدعم كل التحركات الممكنة دفاعا عن حرية التعبير والصحافة كأهم مكسب لثورة التونسيين، بحسب نصّ البيان، والعمل سويا على مواجهة كل من يريد التضييق والالتفاف عليها تحت أي مبررات كانت.

بدورها، اعتبرتْ إذاعة موزاييك التي ينتمي إليها الصحفي الموقوف وزملاؤه المتابعون، في بيانها الذي أصدرته عقب استدعاء منظوريها، أن ما حدث يأتي في إطار استهداف واضح لإذاعة موزاييك وصحفيّيها وضربا لخطها التحريري خاصة وأن الخبر نفسه تمّ تداوله في عديد المواقع ووسائل إعلام أخرى.

ردود الأفعال، لم تقتصر على الهياكل النقابية ومنظّمات المجتمع المدني، حيث أصدرت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري بيانا في 22 مارس 2022، أكّدت خلاله أنّ عمليّة الإيقاف تأتي في إطار الضغط على الصحفي من أجل كشف سرية مصادره خارج إطار قانون الصحافة الحامية، نافية إمكانية وجود معطيات أخرى لا علاقة لها بالعمل الصحفي من شأنها تبرير هذا التصرف. وقد اعتبرت الهيئة ما حدث مؤشرا على انزلاق خطير في مجال الحقوق والحريات وتهديدا واضحا لحرية التعبير والصحافة في تونس، مستنكرة في الآن ذاته التدخّل السافر بحسب تعبيرها في صلاحياتها، في إشارة إلى التدخّل الأمني لحذف مقال منشور على موقع الإذاعة. هذا وشدّدت “الهايكا” على أنّ مراقبة المضامين التابعة للقنوات التلفزية والإذاعية هي من الاختصاصات الحصرية للهيئة التعديلية، داعية الصحفيات والصحفيين إلى التمسّك باستقلاليتهم وعدم الرضوخ لأي ضغط أو ابتزاز من أي جهة كانت.

الإعلام العمومي يرفض التحوّل إلى إعلام حكومي

لم يقتصر تعسّف السلطة على القطاع الخاصّ في مجال الإعلام، بل كان القطاع العمومي بدوره خلال الأسبوعين الماضيين من شهر مارس ساحة أخرى للمواجهة ومثالا صارخا على محاولات جرّ السلطة الرابعة لبيت الطاعة. فبعد اجتماع المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين يوم 9 مارس الجاري على خلفيّة تمادي انتهاكات المكلّفة بتسيير مؤسسة التلفزة الوطنية عواطف الدالي على صعيد الانحراف بالخطّ التحريريّ وتبنّي مبدأ الإضراب العامّ في المؤسسة مع تفويض المكتب التنفيذي بالتشاور والتنسيق مع فرع النقابة بالتلفزة وكل الأطراف المعنية لتحديد موعده وتراتيبه، شهد مقرّ التلفزة الوطنية يوم 11 مارس 2022، وقفة احتجاجيّة لمنظوري هذا المرفق العمومي، رافعين شعارات واضحة ترفض سياسة تركيع الصحافيين والعودة إلى مربّع الدعاية ومصادرة حقهم في العمل النقابي وتعدديّة الرؤى والطرح الإعلامي صلب المؤسّسة.

الوقفة الاحتجاجيّة التي قابلتها السلطة بالتجاهل، تطوّرت لاحقا إلى خطوة تصعيديّة تمثّلت في دخول صحفيّات وصحفيّي التلفزة الوطنية في اعتصام مفتوح بداية من مساء يوم الاثنين 21 مارس 2022 من أجل الدفاع عن استقلالية الخط التحريري للمؤسسة. انتفاضة القطاع الاعلام العمومي، لم تقتصر على التلفزة، إذ التحقت الإذاعة الوطنية بعد أن قرّر فرعا النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بالمركز وبالشمال الغربي، دعوة كافة الصحفيّات والصحفيّين من مختلف الأسلاك بالإذاعة التونسية إلى حمل الشارة الحمراء بداية من تاريخ 21 مارس 2022 كخطوة أولى احتجاجا على سياسة اللامبالاة التي تنتهجها الحكومة في تعاملها مع مطالبها المتمثّلة أساسا في سدّ الشغور في خطة الرئيس المدير العام للإذاعة التونسية والقطع نهائيا مع حالة الارتباك وعدم الاستقرار على مستوى رئاسة المؤسسة المستمرّة منذ قرابة 4 سنوات. كما دعا الفرعان إلى تحديد استراتيجية شاملة لإنقاذ مؤسسة الإذاعة التونسية ورسم أولويات عمل الإدارة المقبلة مع الضمان الكامل لحيادية خطها التحريري، إضافة إلى التدقيق في الوضعيّة الإدارية والتوازنات المالية لمؤسسة الإذاعة التونسية منذ سنة 2011 وتحديد المسؤوليات ومحاسبة كل من ثبُت تورّطه في شبهات فساد من “تقصير” أو سوء تصرّف.

يبدو مختلف المتدخلّين في القطاع الإعلامي العمومي والخاص من مهنيّين وهياكل نقابية ومنظّمات مدنية واعين بأنّ معركة الدفاع عن استقلالية هذا القطاع لا مناصّ منها في ظلّ فلسفة حكم منظومة ما بعد 25 جويلية التي لا ترى في الإعلام سوى بوق لخطابها أو منبرا لتشريع وتفسير سياساتها. وعي تشكّل مبكّرا مع مسارعة رئيس الجمهوريّة إلى استعداء الصحافة والإعلاميين منذ الأيّام الأولى من إعلانه التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021، وتصميمه على إنجاح ما يُعرف ب”الاستشارة الوطنية” التي بلغت نسبة المشاركة فيها بعد انتهاء آجالها بالكاد 5%. استشارة سُخّرت لها بلاتوهات التلفزة الوطنية ووصلت إلى حدّ تدخّل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري يوم 17 مارس الجاري عبر توجيه لفت نظر إلى مؤسسة التلفزة التونسية بعد توظيف برنامج ديني للدعاية السياسية والربط والتشبيه بين الشورى في مفهومها الديني والاستشارة الوطنية الإلكترونية في مفهومها السياسي.


[1]   تكون مصادر الصحفي عند قيامه بمهامه ومصادر كل الأشخاص الذين يساهمون في إعداد المادة الإعلامية محمية، ولا يمكن الاعتداء على سرية هذه المصادر سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة إلا إذا كان ذلك مبرّرا بدافع ملح من دوافع أمن الدولة أو الدفاع الوطني وخاضعا لرقابة القضاء.
ويعتبر اعتداء على سرية المصادر جميع التحريات وأعمال البحث والتفتيش والتنصت على المراسلات أو على الاتصالات التي قد تتولاها السلطة العامة تجاه الصحفي للكشف عن مصادره أو تجاه جميع الأشخاص التي تربطهم به علاقة خاصة.
لا يجوز تعريض الصحفي لأي ضغط من جانب أي سلطة كما لا يجوز مطالبة أي صحفي أو أي شخص يساهم في إعداد المادة الإعلامية بإفشاء مصادر معلوماته إلا بإذن من القاضي العدلي المختص وبشرط أن تكون تلك المعلومات متعلقة بجرائم تشكل خطرا جسيما على السلامة الجسدية للغير وأن يكون الحصول عليها ضروريا لتفادي ارتكاب هذه الجرائم وأن تكون من فئة المعلومات التي لا يمكن الحصول عليها بأي طريقة أخرى.
انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، سلطات إدارية ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني