من يوميات سكان لبنان في طوابير الخبز


2022-08-01    |   

من يوميات سكان لبنان في طوابير الخبز
طابور أمام أحد الأفران

هذه المقالة هي توليفة من أخبار وتصريحات جمعها مندوبو ومندوبات المفكرة القانونية في المناطق

يقف علي عواضة وهو موظف في إحدى إدارات الدولة (أب لـ 3 أولاد) في طابور الخبز أمام أحد أفران منطقة الشياح منذ الخامسة فجراً لغاية السابعة صباحاً ليؤمن ربطة خبز واحدة لا تكفي عائلته لـ 3 وجبات. وبعد طابور الخبز “أذهب إلى عملي” يقول لـ “المفكرة القانونية”. راتب علي، كما أقرانه من موظفي القطاع الرسمي، وحتى الخاص، لا يكفي لشراء الخبز من السوق السوداء بـ 30 ألف ليرة لربطة يتم التلاعب بوزنها وعدد أرغفتها، حيث لا يتجاوز عدد أرغفة بعض أكياس الخبز 5 أرغفة من الحجم الصغير، لا تكفي عائلة علي المؤلفة من 3 أولاد إضافة إلى الأم والأب “يعني كل واحد بيطلع له رغيف صغير  بالنهار”.

في الهرمل، يغصّ سامر وهو يقول “نمت مبارح أنا وابني جوعانين”. قضى الرجل نصف نهاره وهو يدور في مدينة الهرمل، التي يسكنها مع قضائها نحو مئة ألف مواطن، ولا يوجد فيها فرن خبز كبير يؤمن احتياجات المنطقة المتروكة على بعد 150 كيلومتراً من العاصمة بيروت “نحن آخر شي بيوصلّنا خبز ع الهرمل، متل كلّ شي، من البنزين إيام الطوابير، إلى المازوت، إلى السلع كافة التي ترتفع أسعارها عن المناطق الأخرى بسبب التذرّع بكلفة النقل”، يقول سامر. يتزامن حديث سامر مع إقفال الفرن الوحيد الموجود على أطراف الهرمل في منطقة البويضة على الحدود مع سوريا، بسبب الادّعاء عليه بتهمة تهريب الخبز إلى سوريا، بينما يعود بعض المواطنين اللبنانيين ببعض الخبز السوري من الناحية الثانية للحدود، في مشهد “عصي على الفهم” كما يصفه سامر: “بيهرّبوا الخبز ع سوريا وفي ناس بتجيب خبز من سوريا”، يقول ليطالب بضبط تهريب الطحين إلى سوريا لصالح مافيات التهريب في طول البلاد وعرضها “روحوا شوفوا شوالات (أكياس) الطحين المدعوم في لبنان بالدكاكين السورية وأفرانها”.  

طبعاً التهريب موجود منذ سنوات، كما يقول صاحب أحد الأفران في صيدا، ولكن المشكلة الأساسية هي في ادعاء المطاحن عدم تسليمها القمح المدعوم “كان عندي الشهر الماضي قسائم بنحو 40 طن طحين ومع ذلك لم أتمكّن من الحصول على طحين مدعوم”، وفق ما يؤكد لـ “المفكرة”.

المطاحن بدورها تتذرّع بعدم تسلّمها القمح المدعوم وتلقي اللوم على الجهات الرسمية وعدم صرف الاعتمادات المخصّصة للدعم من مصرف لبنان، فيما يلقي وزير الاقتصاد أمين سلام جزءاً كبيراً من المسؤولية على من يسمّيهم “بعض تجّار الزور الذين يستغلون الأزمة والظروف”، مؤكداً حاجة لبنان إلى 36 ألف طن شهرياً لإنتاج الخبز العربي، مشيراً إلى أنّ الدولة “تدعم القطاع كي يطعم الشعب اللبناني لا ليخزّن القمح أو ليحتكره أو يهرّبه من الباب الخلفي” . فإذا كان وزير الاقتصاد يشكو من احتكار القمح والطحين وتخزينه، فمن هي الجهة المسؤولة عن المراقبة والمداهمة والتفتيش، والحرص على عدم حرمان المواطن العادي وفقراء هذه البلاد من لقمة الخبز؟

طوابير تمهيداً لرفع الدعم؟

يقول رئيس جمعية حماية المستهلك الدكتور زهير برو إنّ سياسة الدعم الخاطئة التي اعتمدتها السلطة هي المسؤولة عن الحال التي بلغها لبنان وقاطنوه “تمّ صرف ما بين 20 إلى 22 مليار دولار حتى الآن لدعم العديد من السلع، ومن بينها القمح، لكنه دعمٌ ذهب للتجار والمحتكرين، وليس لذوي الدخل المحدود والفقراء والمحتاجين”. وتذكّر نائبة رئيس جمعية المستهلك الدكتورة ندى نعمة بمطالب الجمعية لناحية إعادة النظر في سياسة الدعم وتحويلها من دعم التجار والمحتكرين لصالح المستهلكين من ذوي الدخل المحدود والفقراء، عبر خطة تشرف عليها وزارة الشؤون الاجتماعية: “لكنهم لا يريدون الاستماع لممثلي المستهلك، فاستبعدونا من الاجتماعات والتنسيق، ولم يأخذوا برأينا أو حتى الاستماع إلينا”. وتشير د.ة نعمة إلى التطوّر الكبير الذي طرأ على الأفران التي أصبح معظمها أشبه بسوبر ماركت وبسلسلة محلات في مختلف المناطق، لتبيع أصناف الخبز والكعك والمعجنات والحلويات وليس الخبز العربي المدعوم فقط. وترى أنّ هذا التوسّع في الأعمال بني في جزء منه على الإفادة من الطحين المدعوم لصالح صناعة أنواع مختلفة من الخبز والخبز الافرنجي والمعجّنات على أنواعها وكذلك الحلويات وبيعها بأسعار مرتفعة، بذريعة أنّ طحينها ليس مدعوماً “يعني صرف الكثير من المال العام واحتياط مصرف لبنان لدعم كبار التجار وليس المستهلكين”. وتلفت د.ة نعمة إلى قيام بعض المطاحن والأفران بتخزين القمح والطحين تحسّباً لرفع الدعم المتوقّع عنهما في المستقبل لبيعه بأسعار عالية وتحقيق أرباح خيالية “وضع طوابير الخبز اليوم يشبه طوابير البنزين والمازوت التي مهّدت لرفع الدعم عن الوقود”.

ولكن هل ما زال القمح مدعوماً؟ تسأل سعاد، ابنة زحلة في البقاع. تريد سعاد من سؤالها هذا أن تؤكّد أنّ سعر ربطة الخبز اليوم يوازي 30 إلى 40 ألف ليرة “صار لي شهرين بشتري ربطة الخبز العربي بـ 23 ألف إلى 30 ألف ليرة، عن أي دعم يتحدثون؟” تقول لـ “المفكرة”. لا تملك سعاد الوقت للانتظار في طوابير الخبز وأفرانها “عندي شغل وأمي مريضة برجع لإعتني فيها”. لذا تشتري الخبز من دكّان الحي بـ 23 إلى 30 ألف ليرة للربطة “بقلّي البائع إنّه عم يدبّر لي اياها سوق سودا، وأنا ما عندي خيار لأنّه الخبز العربي طري وبتقدر تاكل منه الماما”.    

تمييز ونقمة ضدّ السوريين

حال أم علي (الضاحية الجنوبية) ليس كحال سعاد، كما تقول لـ “المفكرة” “عندي خمس اولاد وأنا وأبوهم منصير سبعة”. يبدأ نهار أم علي يومياً بالوقوف في طابور الخبز “بروح عالفرن الساعة 6 الصبح فبيقولوا لي ما في خبز، ارجعي ع التسعة، برجع بلاقي الناس فوق بعضها”. تحمّل أم علي، كما بعض اللبنانيين جزءاً من الأزمة للاجئين السوريين “السوري بيوقف بالصف هو وزوجته وأولاده مهما بلغ عددهم، يأخذ كل منهم ربطة ثم ينتقلون إلى فرن آخر، كل النهار بيلمّوا خبز”. ما تقوله أم علي عكسته وسائل التواصل الاجتماعي على لسان العديد من اللبنانيين إلى درجة عمد بعض الأفران إلى تخصيص صف للسوريين الموجودين في لبنان وآخر للبنانيين “بيبيعوا اللبناني خبز أول ما يوصل ونحن بيوقفونا بالطابور”، يقول محمود لـ” المفكرة” وهو يقف في صف طويل مخصّص للرجال السوريين، وبجانبه صف آخر للنساء السوريات. ويؤكّد محمود أنّ منظمي الطابور يمرّرون الخبز للبنانيين من خارج الطابور، أما السوري فعليه أن يقف لساعات ويسمع كلاماً عنصرياً بحقه مثل: “عم تسرقوا لقمتنا من تمّنا”، أو “كم ربطة صرت آخد اليوم، وبكم ستبيعها في السوق السودا؟” وغيرها من العبارات المهينة مع نفور ظاهر. وسجلت وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من حادثة اعتداء بالضرب والعصي على لاجئين سوريين أمام الأفران. وأرسل أحد الأساتذة الجامعيين على مجموعة واتسآب خاصة بهؤلاء رسالة تقول “السوريين عم يبيعوا ربطة الخبز على الموتوسيكل بخمسين ألف ليرة، وكل سوري يذهب مع زوجاته (في إشارة إلى تعدد الزوجات عند السوريين) وأولاده وعددهم نحو 10 أولاد، ويقفون جميعهم في الصف ويحصلون على عشر ربطات خبز على الأقل، ومن ثم يقصدون فرناً آخر وهكذا دواليك ليبيعوا الخبز في السوق السوداء”.  

هذه الممارسات التمييزية ضد اللاجئين السوريين لا يمكن تعميمها على كل الأفران والمناطق، وهو ما أفاد به “المفكرة” أشخاص من التابعية السورية “منوقف بنفس الصف مع اللبنانيي وكل شخص بيطلع له ربطة وبينطروا متلنا متلهم، من دون أي تمييز”.  

ولكن تخصيص السوريين بصف خاص منفصل عن اللبنانيين لم يصل إلى احتفاء صفحة Radio Pax Bekaa الذي وجه تحية لإدارة فرع أفران “وودن بيكري” في زحلة تحت عبارة “للجرأة عنوان”. وسمّت الصفحة اسم مدير فرع زحلة بالاسم كونه، تعاون “مع مجموعة من شباب زحلة اصطفوا أمام أبوابها وأبوا تسليم الخبز إلاّ للبنانيين فقط”، وفق ما يفيد المنشور ليوجه التحية “لهؤلاء الشباب على اندفاعهم لتلبية لقمة أبناء بلدهم أولاً”.

أمام فرن شمسين في خلدة

“في مسؤول بيقبل مرته أو أمه توقف ساعات بالطابور للحصول على رغيف خبز؟”

تقول مواطنة لبنانية “مجروحة”، كما أحبّت أن تسمّي نفسها، اشترت الخبز الأسمر وبعض الكعك من أحد أفران الحازمية، بعد أن فشلت في الحصول على ربطة من الخبز الابيض لـ “المفكرة”:  “ليس مقبولاً كل هذا الذلّ الذي نعيشه. نشعر بالاهانة يومياً. ننتقل كل فترة من طابور إلى طابور، نصف أيامنا نقضيها بانتظار الحصول على أقل قدر ممكن من الحاجيات الاساسية والضرورية، لو بقي أي ضمير لدى أي مسؤول في السلطة لكان استقال. كيف يمكنهم أن يتحمّلوا حقيقة أنّ اللبناني لا يستطيع الحصول على رغيف خبز؟. هل لأي مسؤول أن يتخيّل أنّ أمه أو زوجته تقف في طابور للخبز لتطعمه أو تطعم أولاده او إخوته!؟”.

على مدى الأيام الثلاث الأخيرة (28و 29 و30 تموز جالت مندوبة “المفكرة”، على الأفران في بيروت  وبرج أبي حيدر،  والحمراء ، ومار الياس وميرنا الشالوحي، حيث لا يوجد ربطة خبز عربي على الرفوف، بينما يتوفّر الخبز المرقوق والإفرنجي إلى جانب بعض أنواع الكيك والبسكويت والتوست، وأنواع الحلويات كافة.  تسأل سيدة سبعينية  بائع الخبز: “هل تبقّى لديك ولو ربطة خبز واحدة؟”، فيشير إلى  رف مليء بخبز التنور او الخبز المصنوع من طحين الشوفان والشعير. لكن السيدة السبعينية لا تستسلم وتعيد السؤال بطريقة أقرب إلى الهمس: “ما مخبّي شي ربطة هون أو هونيك؟ ما معي مصاري لأشتري هالأنواع من الخبز؟”.

وخلال محاولة مندوبة “المفكرة” التصوير في منطقة الشياح والتحدث إلى الواقفين في طابور الخبز، اعتدى عليها أحد الشبان بعدما قال إنه من حركة أمل، ورمى نظاراتها أرضاً وخطف هاتفها من يدها صارخاً “ممنوع التصوير”. واستمرّ بمحاولة محو ما صوّرته إلى أن تدخّل أحد أبناء الحي وأعاد لها هاتفها.   

وفي طرابلس، نظّم المواطنون أنفسهم، وخصصوا طوابير خاصة بالنساء وأخرى للرجال. يقول حسان العلي الذي كان ينتظر دوره لمدة ساعتين كاملتين للحصول على ربطة خبز، أنّ الخبز مقطوع تماماً من الأحياء الشعبية في المدينة، “حتى أفران الأحياء الصغيرة التي كان السكان يعتمدون عليها”. ويلفت إلى تدنّي نوعية الخبز وكذلك عدد الأرغفة في كلّ ربطة والأهم وزنها “صارت الربطة ما بتكفي شخص إذا كانت أكلته منيحة”، ليشير إلى اعتماد الفقراء على الخبز بالدرجة الأولى في غذائهم “حدا كان يصدق إنّه نرجع لمشهد الطوابير على رغيف الخبز متل أيام الحرب بين 1975 و1990؟ كنا فكرنا أنه مرحلة وصارت ورانا، ردونا ع حرب الجوع”.    

واشتكى المواطنون في طرابلس من طول الانتظار في الصف، واشتراط الأفران منحهم ربطتين بالأكثر لقاء مبلغ عشرة آلاف ليرة للربطة الواحدة المؤلفة من ٧ أرغفة صغيرة. ويروي أحد الشبان الواقفين أنّه تم استبعاد الأطفال من الطابور أمام أحد أفران الزاهرية، وطلب منهم الذي ينظم الطابور مجيء أحد والديه أو شقيقه الأكبر.

 من طرابلس إلى صيدا، يقف رمضان محمد وزوجته، وهو أب لـ 6 أبناء، أمام أحد ألأفران ليتمكّن كلّ منهما من الحصول على ربطة خبز اذ أنّ “ربطة واحدة لا تكفينا”. يدفع رمضان نحو 80 ألف ليرة مصروف بنزين للوصول إلى طابور الخبز “يعني أكتر من حق الربطتين، بس ما عنا خيار”.  وعلى الطريق نحو جنوب لبنان، نجد الأخوين حسين وحسن حرب الفرحين بحصول كلّ منهما على ربطة خبز، وسرعان ما يبدأون المقارنة بين الوضع في لبنان والسعودية حيث يقطنان، ليستنتجا أنّ “الدولة هي التي تحرم الشعب من الخبز اذ أن الوزراء لم يُحركوا ساكناً لمعالجة هذه الأزمة”. كما يستذكر حسين وقوفه يوم الأربعاء الماضي لمدة ساعة ونصف في الطابور، ليعلن موظفو الفرن بعدها عن عدم توفر المزيد من الخبز.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، حقوق المستهلك ، فئات مهمشة ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني