ملاحظات حول كتاب وزير الداخلية بشأن “المثلية الجنسية”: انقلاب المولوي على الدولة والمبادئ الدستورية والدوليّة


2022-06-27    |   

ملاحظات حول كتاب وزير الداخلية بشأن “المثلية الجنسية”: انقلاب المولوي على الدولة والمبادئ الدستورية والدوليّة
رسم رائد شرف

وجّه وزير الداخلية بسام المولوي في تاريخ 24 حزيران كتاباً وصفه بالعاجل جداً لمديريّتي الأمن الداخلي والأمن العامّ طالباً منهما منع قيام أيّ تجمّعات تهدف إلى الترويج لما أسماه “الشذوذ الجنسي”. الملفت أنّ الكتاب لم يذكر تجمّعاً معيّناً إنّما شمل أي احتفال أو لقاء أو تجمّع يهدف إلى الترويج لما وصفه بـ “الظاهرة” ورفع تقارير بنتيجة التدابير المتّخذة بشأنها. وقد انطلق الكتاب من فئتين من الوقائع: (1) دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي لإقامة حفلات وأمسيات للترويج “للشذوذ الجنسي” في لبنان ويُفهم من الكتاب أنّه أرسل هذه الدعوات مرفقة به من دون الإعلان عنها، و(2) اتصالات من المراجع الدينية رافضة لانتشار هذه “الظاهرة” وقد بقيت غير محدّدة. فإذا شهر الكتاب هذه الوقائع، نفى إمكانية التذرّع بالحرية الشخصية “للتعبير عن هذه النشاطات وإساءة استخدامها”، طالما أنّ هذا الأمر “مخالف للعادات والتقاليد في مجتمعنا ويتناقض مع مبادئ الأديان السماوية”. هذا الكتاب يستدعي الملاحظات الآتية:   

1.    التعدّي على صلاحية التشريع

لم يتّصل الكتاب باجتماعات أو لقاءات معيّنة، إنّما بأيّ احتفال أو لقاء أو تجمّع يهدف إلى الترويج لما وصفها بـ “الظاهرة”، بمعنى أنّه جاء بمثابة تعميم تنظيمي يرسي منعاً عاماً لأي احتفال من هذا القبيل. وبذلك، فإنّ وزير الداخلية تعدّى وظيفته التنفيذية ليتخذ قراراً تنظيمياً بتقييد حرية التجمّع. من هذه الزاوية، خرج المولوي عن صلاحياته ليستولي على صلاحية المجلس النيابي الذي له وحده وضع قواعد تنظيمية بموجب تشريعات مقيّدة للحريات. هذا ما يتحصّل من المواد الآتية: (1) المادة 13 من الدستور التي نصّت على أنّ “حرّية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرّية الطباعة وحرّية الاجتماع وحرّية تأليف الجمعيات كلّها مكفولة ضمن دائرة القانون” و(2) الفقرة 2 من المادة 29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي نصّت على أنّه “لا يخضع أي فرد، في ممارسة حقوقه وحرّياته، إلّا للقيود التي يقرّرها القانون مستهدفاً منها، حصراً، ضمان الاعتراف الواجب بحقوق وحرّيات الآخرين واحترامها…” و(3) المادة 21 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية التي نصّت على أنّه “يكون الحق في التجمّع السلمي معترفاً به. ولا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلّا تلك التي تفرض طبقاً للقانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم”، علماً أنّ هاتين المادتين الأخيرتين باتتا جزءاً من الدستور عملاً بالفقرة “ب” من مقدمته. هذا عدا عن أيّ قرار تنظيمي يخلّ بصيغته الجوهرية في حالة اتخاذه من دون استشارة مجلس شورى الدولة مسبقاً، وهو إجراء لم يقم به الوزير. وبذلك، عكس الكتاب مسعىً لوزير الداخلية للاستيلاء على سلطة عامة ليست له وانتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات،      

2.    التعدّي على صلاحيات النيابة العامّة والقضاء: 

جاء توصيف اللقاءات والاجتماعات التي شملها المنع العام بصورة مبهمة، بما يشكل تفويضاً واسعاً للأجهزة الأمنية بالتدخل من تلقاء نفسها وتقدير مدى اشتمال أي تجمّع بالمنع وإجراء تحقيقات واتخاذ خطوات قمعية، من دون المرور بالنيابة العامة أو استئذانها. ومن هذا المنطلق، بدا وزير الداخلية وكأنّه يفوّض للأجهزة الأمنية الصلاحيات التي يجدر أن تعود للنيابة العامة في تقدير وتقييم الأفعال وملاحقتها بما يشكل تعدّياً على صلاحيات السلطة القضائية وهنا أيضاً على مبدأ الفصل بين السلطات. هذا عدا عن أنّ من شأن هذا التعميم أن يفتح مجالاً لحملات أمنية حاطّة من الكرامة والسمعة، بما يشكّل انتهاكاً واضحاً للحق في الخصوصية (م. 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وم. 17 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية)،

3.    التعدّي على الحريّات الدستورية: 

لتبرير المنع، أورد الكتاب مبرّرين أساسيّين: “العادات والتقاليد” و”المبادئ السماوية”. وعدا عن أنّ هذه المبرّرات ليستْ من ضمن المبرّرات المقبولة لتقييد حرية التجمّع، فإنّ التذرّع بها يعكس تقييداً لحريات وحقوق أخرى مضمونة دستورياً وفي المواثيق الدولية. فأن تُثار هذه الاعتبارات لمنع تجمّعات المثليّين والمثليات هو بمثابة عذر أقبح من ذنب طالما أنّها تؤدّي إلى مزيد من التعرّض للحقوق الأساسية المضمونة دستورياً. فإثارة هذين المبرّرين إنما يعني أمرين: (1) تقييد حرية الفرد في شؤونه الخاصة وحقه في الخصوصية بما يخالف المادة 17 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في اتجاه منع أي سلوك يتنافى مع العادات والتقاليد، (2) تقييد حرية المعتقد “المطلقة” وفق المادة 9 من الدستور في اتجاه منع حرية الاعتقاد بما يخالف المبادئ السماوية كما يفهما وزير الداخلية بالطبع،   

4.   التعدّي على الكرامة الانسانية: 

لم يكتفِ الكتاب بتوصيف العلاقات المثلية على أنّها مخالفة القانون، إنّما تضمّن أحكاماً قيمية مهينة مع توصيفها بـ “الشذوذ الجنسي” أو “الظاهرة” من دون أيّ سند قانوني لهذا التوصيف وفي مخالفة واضحة لما انتهت إليه منظمة الصحة العالمية التي شطبت المثلية من قائمة الأمراض النفسية عام 1990 وبذلك، خرج وزير الداخلية عن حدود الأدب واللياقة في معرض التعبير عن رفضه لشريحة واسعة من المواطنين وسعيه إلى تحقيرهم على خلفية ميولهم الجنسية، وصولاً إلى حدّ القدح والذم بهم والتعرّض لكرامتهم الإنسانية،

5.    انتهاك تعهّد الدولة بعدم التمييز: 

يتبدّى بوضوح مما تقدّم أنّ وزير الداخليّة عمد إلى التمييز ضدّ شريحة واسعة من المواطنين والمقيمين على الأرض اللبنانية خلافاً لتعهّد الدولة (التي هو جزء منها) بعدم التمييز في مجمل المواثيق الدولية وخلافاً لمبدأ المساواة بين المواطنين المكرس في المادة 7 من الدستور لجهة تمتع هؤلاء بالحقوق والحريات المضمونة قانوناً. ومن شأن هذا الأمر أن يؤدي إلى إضعاف المواطنة لدى فئة من الناس وأن يشكل حافزاً إضافياً لمزيد من الهجرة وأن يثني العديد من المغتربين عن العودة. ومن البيّن أنّ هذا الأمر لا يعني فقط الأفراد المثليين والمثليات بل أيضاً أسرهم التي تلتزم حماية خصوصية أفرادها وكرامتهم حيال مظالم السلطات المتعسّفة. ويهمّنا هنا التذكير بأنّ ما ذهب إليه الوزير بهذا الخصوص إنّما يتعارض مع توجه القضاء اللبناني الذي انتصر لحقوق المثليين في العديد من الأحكام الصادرة في العقد الأخير رافضاً اعتبار المثلية مخالفة جزائية أو مخالفة للطبيعة وذلك على ضوء التطوّر في الطب والعلوم الاجتماعية (عن هذا الأمر، يراجع لطفاً: قرار محكمة استئناف الجنح في جبل لبنان بتاريخ 12/7/2018 والقرار الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي ربيع معلوف بتاريخ 26/1/2017 والقرار الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي  في المتن هشام القنطار بتاريخ 5/5/2016 والقرار الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في المتن ناجي الدحداح بتاريخ 28/1/2014 والقرار الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في البترون منير سليمان بتاريخ 2-12-2009). كما يتعارض مع مواقف الدولة اللبنانية وبخاصة في إطار المراجعة الدولية حيث فاخرت الدولة بهذه الأحكام وذلك في الاستعراض الدوري الشامل أمام مجلس حقوق الإنسان في عامي 2015 و2021. كما يهمّنا التذكير بالقرارات 188 و599 و600 الصادرة عن مجلس شورى الدولة في تاريخي 30/3/2021 و9/6/2021 حيث جاء أنّ المشاركة في مؤتمر لمناقشة أوضاع المثليين يندرج في إطار حرية التعبير المُصانة بموجب المادة 13 من الدستور، وإن كانت هذه الحرية خاضعة للقوانين ومقيّدة باحترام الانتظام العام، إلّا أنّ أيّ خرق يحصل للانتظام العام “يستوجب تدبيراً ملائماً ينسجم مع طبيعة الخرق”.

 6.    التحريض ضدّ الفئات الهشة

يشكّل الكتاب المذكور تحريضاً على فئة هشّة من المجتمع وإخلالاً بالأمن والسلم الأهلي من قبل وزير يفترض أن يكون أحرص النّاس على المحافظة عليه، هذا فضلاً عن أنه ينال من مبادئ الحرية والتعددية والتسامح التي يفترض أنّها إحدى ميزات لبنان في منطقته. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد أنّ الكتاب صدر بعد تصرّفات وسلوكيات عبّرت عنها مجموعات متطرّفة (“جنود الرب”) ضدّ أي تعبير عن حقوق المثليين، فإذا بالوزير يحرّضها على مزيد من الاعتداء بدل ضبطها،   

7.    تحويل الانتباه عن الصراع ضد السلطة المهيمنة: 

تجدر الإشارة أخيراً إلى أنّ هذا الكتاب يأتي في موازاة تفاقم الأزمة المعيشية وأنّه لا يُستبعد أن يكون الهدف منه تحويل الانتباه إلى قضايا أخرى وإلى اختلاق فتن ذات طابع هويّاتي بهدف حجب الصراعات الاجتماعية والسياسية بين “المجتمع” والسلطة المهيمنة عليه بصراعاتٍ ومواجهات مفتعلة بين أبناء المجتمع الواحد، بما يحجب عجز هذه السلطة ومظالمها الماضية وما قد يكون لها من مخططات مستقبلية وبخاصة فيما يتّصل بتوزيع الخسائر لا تقلّ ظلماً. وعليه، يهمنا التأكيد على أنّ خير ردّ على هذا الكتاب الفتنوي هو خطاب توحيدي يؤكد على وجوب العمل على قيام دولة تضمن الحق في الكرامة والعيش من دون خوف أو عوز لجميع مواطنيها من دون تمييز، وهو خطاب يقوم أساساً على مبادئ التعددية والتسامح والقانون والحقوق بدلاً من منزلقات الفئوية والحقد والغوغائية والتسلّط.      

لقراءة المقال باللغة الانكليزية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لا مساواة وتمييز وتهميش ، حريات ، أجهزة أمنية ، مؤسسات عامة ، قرارات إدارية ، حرية التعبير ، حرية التجمّع والتنظيم ، فئات مهمشة ، لبنان ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني