مساعٍ لتغيير أنماط رعاية “الأيتام” في لبنان: هل يعود أطفال الفقراء إلى منازلهم؟

،
2023-07-05    |   

مساعٍ لتغيير أنماط رعاية “الأيتام” في لبنان: هل يعود أطفال الفقراء إلى منازلهم؟

لم تتمكّن فاطمة من تحمّل كلفة إعالة أولادها الخمسة إثر تخلّي والدهم، طليقها، عنهم، فأودعتهم دارًا لرعاية الأطفال في طرابلس بعدما أجبرها صاحب الغرفة التي عجزت لأشهر عن دفع إيجارها، على إخلائها. لم يطعها قلبها على إبعاد صغيرها (3 سنوات) عن حضنها، وعادت به لتسكن في غرفة والديها مع شقيقتها المطلّقة مع أولادها: “ما قِبلوا أهلي يعيشوا أولادي معهم كمان”. تروي لـ “المفكرة القانونيّة” أنّ شعورها بالأسى يتأتّى ليس فقط من اضطرارها إلى سلخ بناتها الأربع عنها، بل أيضًا من عدم قدرتها على اصطحابهنّ إلى غرفة والديها حتى في أيّام العطل، لذا تبقى الطفلات طيلة أيّام السنة في الدار، ولا يخرجن منها إلّا نادرًا. 

لم تتحمّل كبرى الفتيات (13 عامًا) الوضع، فهربت من المؤسّسة ولجأت إلى منزل والدها الذي تزوّج من أخرى، وتحت التهديد بقتل نفسها في حال إعادتها إلى المؤسسة الرعائية أرغمته على قبول عيشها معه. تدرك فاطمة أنّ بناتها لسنَ سعيدات “كلّما بشوفهن بيسألوني أيمتى بدنا نرجع نعيش سوا؟”، وحين تهمّ بالمغادرة تبدأ الصغيرات بالبكاء “ما عندي خيار، يعيشوا بالدار أحلى ما يعيشو بالشارع”.  

لم تجد فاطمة من يمدّ يد العون لها لاحتضان أطفالها الخمسة. لا تمتلك مهنة تؤمّن لها وظيفة، فيما لا يكفي مردود العمل لغير المهرَة ما يكفي لاستئجار غرفة صغيرة. وعليه، اختارت “تيتيم” بناتها لتقيهنّ التشرّد والعوَز والجوع والأمّية “هونيك عم يتعلّمو وع القليلة بيشبعو اللقمة وبيلبسو وفي محل ينامو”، تواسي نفسها.

يعيدنا وضع فاطمة وبناتها إلى دراسة أجرتها مؤسسة البحوث والاستشارات عام 2006، بطلب من وزارة الشؤون الاجتماعية وبالتعاون مع اليونسيف تُبيّن أنّ ما يقارب 90% من الأطفال “المودعين” في المؤسسات الرعائية ليسوا أيتامًا بل فقراء فقط، “يتّمهم” الفقر، وأنّ 21 ألف طفل تقريبًا من أصل 23 ألفًا ممّن يقيمون في دور الأيتام لديهم أسر لكنّها تفتقد إلى الموارد المعيشية لتبقي أطفالها في كنفها. حقيقة تؤكّد عليها مسؤولة القسم الداخلي في إحدى المؤسسات الرعائية لـ “المفكرة”: “عنّا 300 طفل وطفلة في المؤسسة، من بينهم 25 حالة فقط بموجب قرارات قضائية، فيما يندر أولئك الذين ليس لديهم أسر تحضنهم”. وتؤكّد الموظفة نفسها “في عائلات هي ما بدها أولادها، حتى في أيام العطل مناخدلهم إيّاهم غصبًا عنهم، ونقول لهم لسنا مجبرين بهم”. وتضيف: “نحن نأخذهم في العطل إلى بيوتهم ليس لأننا نريد أن نرتاح منهم ولكن لكي نخفف العبء النفسي عنهم، وشعورهم بأنّ أهاليهم لا يريدونهم”. 

الأثر النفسي هو ما تتوقّف عنده معلمة مدرسة في البقاع تروي تجربتها في البقاء 10 سنوات في دار رعاية “كنت أعاني من مشاكل صحية وجسدية، ولم يكن هناك مدرسة مؤهّلة لاستقبالي في منطقة سكن أهلي، فوضعوني داخلي في مؤسسة رعاية”. لا تنكر سمر (اسم مستعار) فضل المؤسسة في تعليمها وفي ما هي عليه اليوم “بس كتير صعب على الولد يتقبّل ترك أهله ليعيش داخلي”. من الأشياء التي تحزّ في نفسها لغاية اليوم “بس كانوا يصفّونا كلّنا عاريات أمام الحمّامات حتى يحمّمونا بالدور، وأنا كنت إستحي كتير خصوصًا إنّي كنت عاني من مرض جلدي واضح على جسدي”. 

أرقام دراسة 2006 عن عدد الأطفال الذين “يتّمهم” الفقر، وهي ظاهرة ما زالت مستمرة لغاية اليوم، عزّزت يومها النقاش حول السياسة الرعائية في لبنان وتحوّل وزارة الشؤون، وعبرها الدولة تاريخيًا، إلى صندوق بريد لتمويل مؤسسات رعائية تابعة للطوائف على قاعدة 6 و6 مكرّر.  

وعليه اليوم، علمت “المفكرة” أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية وبدعم من اليونيسف، وفي نطاق الخطة الاستراتيجية للوزارة لحماية النساء والأطفال (2020-2026)، أطلقت برنامجًا يهدف إلى تحسين نظام رعاية الأطفال في لبنان وتعزيز الرعاية الأسرية لهم، بالشراكة مع مؤسسات الرعاية نفسها. 

ويأتي ذلك بعد قرن على انتقال الرعاية من التصدّق إلى المأسّسة في أيام الانتداب (القرار 3110 تاريخ 10 أيار1925 والذي يختص بتشريع إنشاء مياتم الدولة والمياتم الخاصّة)، وتزامنًا مع الواقع الذي فرضته كورونا والتعليم أونلاين والأزمة الاقتصادية الراهنة، وبدء العديد من مؤسسات الرعاية تقليص الرعاية الداخلية لصالح الخارجية والحالات الاجتماعية والعسر الشديد، وترشيد الإنفاق والمعاناة من هجرة كوادر أساسية متخصصة بالرعاية، وخصوصًا بالأشخاص ذوي الإعاقة.  

هل نشهد الرعاية في الأسرة قريبًا؟

ينطلق مشروع الوزارة من أهمية رعاية الطفل في أسرته والأهم العمل بروحية المادة 9 من اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها لبنان في 1989 وتنصّ على أن تضمن الدول الأطراف “عدم فصل الطفل عن والديه إلّا إذا كان هذا الفصل ضروريًا لصون مصالح الطفل الفضلى، كما في حالة إساءة الوالدين معاملة الطفل أو إهمالهما له، أو عند تفكك الأسرة”.  والأهم، أنّ فريق عمل مشتركًا يعمل على تعديل شروط تغطية رعاية الأطفال (وفق القرار 121/1) حيث كانت تغطيتهم، تشترط بقرار من مجلس الوزراء، منامتهم في دار الرعاية. ويأتي التعديل المبتغى، وفق ما علمت “المفكرة”، لصالح توسيع الفئات المستحقّة وشمولها بتغطية وزارة الشؤون بشكل يضمن مصلحة الطفل الفضلى ورعاية الأطفال في أسرهم بما يشمل مثلًا توعية الأهل والأطفال على حقوقهم وزيارات منزلية وتدخّل مبكر. وينحو التعديل نحو اعتماد نظام رعاية “نصف داخلي”، بحيث يحضر الطفل إلى المؤسسة ليدرس ويتناول وجبة الغداء وينهي فروضه، ويعرض على طبيب الدار عند الحاجة ثم يعود لينام في منزله، مع عدم شطبه من عقد الوزارة، كما كان ينصّ الشرط القديم. 

يؤكّد مصدر رسمي لـ “المفكرة” أنّ الوزارة كانت تغضّ النظر عن مخالفة بعض المؤسسات مؤخرًا شرط المنامة قبل العمل على هذه التعديلات (لم تُنجز بعد) بعد خصم مبلغ بسيط من المال المخصّص للرعاية لا يتعدّى 1000 ليرة عن كلّ يوم، وهي “خطوة اصطدمت بإشكالية مع ديوان المحاسبة الذي وجد أنّ هذا الإجراء هو مخالفة للعقد بين وزارة الشؤون الاجتماعية والمؤسسات”، كما تؤكد رئيسة المجلس الوطني للمؤسسات الاجتماعيّة سلوى الزعتري لـ “المفكرة”. وتضيف: “تمكنّا من حلّ هذه المسألة مع الديوان في السنوات السابقة إنّما المشكلة لا تزال موجودة في غياب التعديلات المطلوبة”. ورغم أنّ ربط الرعاية بالمنامة في الدور هو قرار من مجلس الوزراء في حينها، إلّا أنّ وزراء الشؤون المتعاقبين في السنوات الأخيرة كانوا يحلّون الأمر، بقرار وزاري. ومع تعديل معايير الرعاية وأنواعها في حال نجاحه، لن يعود من حاجة إلى استثناءات وزير الشؤون. 

وعن خطة تطبيق استراتيجية الوزارة الرعائية للنساء والأطفال بدعم من اليونيسف، ووفق الأجوبة التي تلقّيناها من منظمة اليونيسف، حدّدت وزارة الشؤون الاجتماعية في شباط 2020 أولويات قصيرة وطويلة الأجل لتحسين الرعاية الاجتماعية عبر: 1-تنفيذ رؤية تتعلّق بنظام رعاية الطفل والأسرة (لتحديد هدف ونوع الخدمات التي تقدمها الوزارة) و2-وضع معايير لتعزيز الرعاية البديلة في لبنان. 

وفي عام 2021، بدأت الوزارة، بدعم من اليونيسف، “مسار تطوير رؤية لإعادة تحديد موقفها فيما يتعلق بتقديم الدعم للعائلات والأطفال في ضوء التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتسارعة والدراماتيكية في لبنان، لتسليط الضوء على التحديات التي تواجهها من جهة، والتكيّف مع المحدوديات الجديدة بطريقة تساهم في التنمية الاجتماعية للمجتمعات اللبنانية وتنشيط علاقة ثقة إيجابية من جهة ثانية”. نظّم فريق عمل تقني مؤلّف من موظفي الوزارة على جميع مستويات الإدارة (الأخصائيين الاجتماعيين ورؤساء الإدارات والأقسام ذات الصلة) ستّ ورش عمل واجتماعات لمراجعة الأدلّة المتاحة، والنظر في السياسات والأطر القانونية الحالية، والنظر في أفضل الخيارات لنظام رعاية الطفل والأسرة في الظروف الحالية في لبنان. وستسمح هذه العملية بتحديد مقاييس ومعايير عريضة للخدمات المقدّمة للأسر والأطفال، ووضع الحدود والأهداف والنهج. تستند الرؤية، وفق اليونيسف، إلى الأدلة الناتجة عن البحث التقييمي الذي قادته المنظمة لصالح الوزارة عامي 2021 و2022 بعنوان: “الرعاية والحماية في الأزمات في لبنان: دراسة آثار COVID-19 وانفجار بيروت والأزمة الاقتصادية والسياسية على رعاية الأطفال وحمايتهم”.

وبناء على ذلك، “بدأت المحادثات مع مؤسسات الرعاية في لبنان للنظر في التحديات التي يواجهها الأطفال والأسر ومقدّمو الخدمات نتيجة للأزمات المختلفة التي مرّ بها لبنان في السنوات الأخيرة، حتى الآن”. ووفق اليونيسف “لا تزال صياغة رؤية الخدمات الاجتماعية جارية ويتوقع إنجازها بحلول نهاية عام 2023”.

وعلمت “المفكرة” من ممثلين لمؤسسات رعائية في اجتماعات واستبيان جرى في إطار البحث التقييمي، أنّ المؤسّسات عبّرت عن أنّ ما تعيشه العائلات اللبنانية في السنوات الثلاث الأخيرة لم تعشه منذ ثلاثين عامًا. وبلغ الفقر الشديد للمرّة الأولى إلى العجز عن تأمين ضرورات الأطفال حتى. وأكد هؤلاء لـ “المفكرة” أنّه تبيّن وفق البحث أنّ الأهل كانوا يودعون أطفالهم في المؤسسات بسبب الفقر ومن أجل تعليمهم، فيما أضيفت اليوم كثرة الطلاق والهجر، وعدم قدرة العائلات على إعالة أولادها حتى في الأساسيات، كما ازدياد العنف على الأطفال في المنازل، وكثرة مشاكل الصحّة النفسية في غالبية الأسر وأخرى سلوكية عند الأطفال، وهو ما رتّب مسؤوليات وأكلافًا إضافية على المؤسسات.

ويفرض اتّجاه المؤسسات إلى تقليص المنامة، أي الرعاية الداخلية إلى 4 ليال فقط للأطفال تأمين خدمات متنوّعة لهم ولعائلاتهم، وخصوصًا لحالات الصحة النفسية والاضطراب. وكذلك دعم أهالي الأطفال ذوي الإعاقة، وهو منحى أثبت بالتجربة، وفق نتائج البحث، أنّ العمل مع العائلات أفضل من العمل مع الطفل وحده، حيث تتحول الأسرة إلى جزء من فريق رعاية الطفل.

بالتوازي، تؤكد اليونيسف لـ “المفكرة” أنّها ومنذ العام 2018 تنفذ برنامجًا تجريبيًا بشأن الرعاية الأسرية المجتمعية للأطفال، بالشراكة مع عدد من المنظمات غير الحكومية، حيث يتم العمل مع الأطفال والعائلات من جميع الجنسيات (اللبنانيين واللاجئين) التي تمّ الإبلاغ فيها عن إساءة أو عنف أو إهمال لمحاولة الحدّ من انفصال الأسرة و واللجوء الى إيداع الأطفال في مراكز الرعاية. ويعمل البرنامج على دعم الوالدين وأفراد الأسرة الممتدّة لرعاية الأطفال بشكل جيد. وقد بلغ عدد الأطفال المستهدفين سنويًا حوالي 350 طفلًا معرّضين لخطر كبير من انتهاكات وعنف قائم على النوع الاجتماعي. 

وفيما يتعلق بدعم الأطفال ذوي الإعاقة، يدعم برنامج اليونيسف المتخصص في الإعاقة 350 طفلًا من ذوي الإعاقات المتوسطة والشديدة، لبنانيين وغير لبنانيين، من خلال حزمة متكاملة من الخدمات التي تشمل التعليم والعلاج وإعادة التأهيل والنقل والأجهزة المساعدة وجلسات مشاركة الوالدين. ويضمن توفير الخدمات للأسر والأطفال لدعمهم وتمكينهم، وتزويد الآباء بالمهارات والتدريب والمعلومات والمساعدة المتاحة لدعم نموّ أطفالهم، كما تضمن تقديم الخدمات الأساسية التي يحتاجها الطفل ذو الإعاقة، من أجل تجنّب الإيداع في المؤسّسات أو الانفصال عن الأسرة.

ولكن في المقابل، وعكس الاتجاه لتقليص المنامة، تبيّن أنّ ارتفاع بدل النقل وعجز العائلات عن تحمّله رفع الطلب على الداخلي، وهو من التحدّيات التي تواجه المؤسّسات في سعيها لعدم فصل الأطفال عن عائلاتهم ومحاولتها الموازنة بين الرعاية الليلية والنهارية ودعم الأسرة. كل هذا يأتي والمؤسسات ترفع الصوت، وفق البحث التقييمي الذي قادته اليونيسيف والمذكور أعلاه. فالمؤسسات لم تعد قادرة على تقديم كلّ الخدمات اللازمة خصوصًا في حالات الحماية. وقد شكّل فقدان قيمة مساهمة مؤسّسات الدولة من وزارتي الشؤون والصحة (في حال المسنّين والمعوّقين) وعدم قبضها عن السنوات الثلاث الأخيرة وكذلك تراجع التبرّعات ومعاناة المموّلين الداعمين من احتجاز ودعائهم، وحجز ودائع مؤسّسات الرعاية نفسها، أبرز التحدّيات أمام المؤسسات. وعليه، بدأ بعضها يفكر، كما تبيّن، في قيادة مشاريع استثمارية تعود بمردود مادي عليها، لتعويض النقص في التمويل الرعائي الرسمي والداعم. كما باتت تتوجّه إلى منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى للمساهمة في التمويل، وهو ما قد يعزز التوجّه نحو الرعاية المنزلية التي تتناسب مع المصلحة الفضلى للطفل، بفعل المعايير التي تعتمدها هذه المنظمات. 

وعبّرت المؤسسات الاجتماعية عن رغبتها في توسيع هامش رعاية الطفل في أسرته خلال استبيان تحديد التحدّيات وتحسين سبل الرعاية. ولكنّ التحدّي الأكبر يتمثّل في تأمين كلف النقل من منازل الأسر، لمن يتمتّعون بها، إلى المؤسسات وبالعكس. وتكون الرعاية نهارية، يأتي فيها الطفل إلى المؤسسة حيث يحصل على حقه في التعليم، وكذلك في الغذاء لمن هم بحاجة ويعود مساءً بعد مساعدته في دروسه إلى أسرته. وكذلك هناك الرعاية نصف النهارية التي تنتهي مع دوام الدراسة. وعليه يتمّ العمل بشكل تدريجي على تقليص الرعاية الداخلية لحصرها بذوي الحالات الاجتماعية الصعبة، كالذين يودعون في المؤسسات وفق حكم قضائي، أو الذين توفّي أحد والديهم وتخلّى من بقي على قيد الحياة عن رعايتهم بسبب الزواج أو أي مشاكل أخرى، أو الذين في حال الخطر وفق تقييم ملفّهم الاجتماعي.  

وعن التمويل، أوضح مصدر رسميّ لـ “المفكرة” أنّ وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة تصريف الأعمال هيكتور حجار يسعى مع جهات عربية (قطر والسعودية) إلى تأمين تمويل لدور رعاية المسنّين والأشخاص ذوي الإعاقة. وعليه، في حال نجاح مساعيه، يمكن السعي لضمّ رعاية الأطفال، حيث أنّ القطريين والسعوديّين مهتمّون بدعم الأشخاص ذوي الإعاقة. وطلبت وزارة الشؤون إضافة المسنّين لاحقًا ولكن لم يتلق لبنان موافقة عربية رسمية عليهم بعد. 

بحث في تحديد الأكلاف ربطًا بالانهيار

بناءً على ذلك، علمت “المفكرة” أنّ اللجنة المكلّفة بدرس وتحديد سعر الكلفة اليومية للفئات التي ترعاها وزارة الشؤون الاجتماعية تنكبّ مؤخرًا على دراسة الكلفة بناء على مستجدّات الأزمة وانهيار قيمة الليرة اللبنانية المعتمدة في دفع مساهمات الوزارة في الرعاية. وتشمل الدراسة كلفة رعاية 25014 طفلًا (من رضّع إلى 18 عامًا) وفق أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية، يضاف إليهم 1339 مسنًّا/ة، و3646 في التدريب المهني الخارجي، و7955 في التعليم المهني الخارجي، فيصبح مجموع المسعفين 37954 لعام 2023 وهي الأرقام عينها التي اعتمدت في العام 2022، مع فارق تعديل الكلفة السنوية من 250 مليارًا و513 مليونًا و730 ألف ليرة في 2022 إلى 524 مليارًا و789 مليونًا و517 ألف و500 ليرة عن العام 2023. وارتبط ارتفاع الكلفة السنوية برفع الكلفة اليومية من 21000 ليرة للرعاية الداخلية للأطفال، على سبيل المثال، في 2022 إلى 42000 في 2023 بعدما كانت 6750 ليرة عن السنوات السابقة، بينما رفعت الكلفة اليومية لرعاية المسنّ من 34000 إلى 102000 عن العامين عينهما. 

مع اشتداد الأزمة الاقتصادية، تواجه مؤسسات الرعاية تعثرًا ماليًا (عدم قبض مساهمات الدولة التي فقدت قيمتها، وتراجع التبرّعات وحجز ودائعها) مع العلم أنّ بعضها تقدّر أنّ مساهمات الوزارة لا تكفي لتلبية أكثر من 30% من مصاريف الرعاية واحتياجات الأطفال. ولا تتلقّى المؤسّسات زيادة الكلفة بتفاؤل بخاصّة وأنّها لا تتعدى نصف دولار في اليوم عن كلّ طفل يحتاج لمأكل وملبس وطبابة وتعليم وأنشطة وتنقلات وغيرها من الاحتياجات. لذا، تهدّد الأزمة اليوم مصير الأطفال في المؤسسات.

وتشرح رئيسة المجلس الوطني للمؤسّسات الاجتماعيّة سلوى الزعتري أنّ أكثر “الصعوبات التي واجهتها المؤسّسات هو احتجاز مدّخراتها في المصارف وتطبيق القرارات الجائرة عليها، فيما أُرهقت بسبب أزمة المحروقات والدواء، ويأتي بعدها الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الخاصة بالاحتياجات الغذائية والطبابة”. وتلفت إلى أنّ بعض المؤسّسات “أرغمت على الطلب من الأهل دفع رسوم لتأمين بعض الموارد المالية”. وتؤكد أنّ هناك نحو 4 مؤسسات رعائية علّقت خدماتها، فيما أغلق بعضها الآخر جزءًا من أقسامه “ونتوقع تعثرًا أكثر في العام المقبل في حال استمرار الوضع على حاله”. 

نحو نظام النصف الداخلي: هل تتمكّن الوزارة من تحمّل الكلفة؟  

أعطت أزمة كورونا صورةً عن إمكانيّة تعديل النمط الرعائي الداخلي بعد تجربة دعم الأطفال لدى أُسرهم بدلًا من النوم في المؤسّسات الرعائية. وفي هذه المرحلة، نفّذت وزارة الشؤون الاجتماعية برنامج “أمان” الذي استهدف العائلات الأكثر فقرًا عبر مساعدات نقديّة. أظهرت التجربة بحسب رئيسة المجلس الوطني للمؤسسات الاجتماعيّة سلوى الزعتري أنّ تنفيذ هذا النوع من الدعم “يتطلّب تأمين التكاليف المالية المطلوبة وإنشاء النمط الرعائي الجديد الذي يحتاج إلى رقابة وإشراف دقيقيْن”. وذلك يعود إلى الحاجة إلى “جهاز بشري متدرّب للإشراف والرقابة وتطوير النظام التعليمي الرسمي والنظام الصحّي وتأمين احتياجات الأُسر لتصبح منتجة غير اتّكالية”. تعتبر الزعتري أنّه “لا يكفي دعم الأسر بمبالغ مالية لحلّ مشكلة الفقر في حال لم يترافق ذلك مع إشراف على الأسرة والتأكيد على صرف هذا المبلغ على أفرادها”. كما تشرح أنّ برنامج “أمان” لم يوفر الأهداف المطلوبة وعلى رأسها تأمين الحماية للأطفال. 

وتوضح الزعتري أنّ نمط الرعاية غير الداخلية بدأت به المؤسسات قبل بضع سنوّات حين تمّ تحويل قسم من الأطفال إلى نظام النصف داخلي بديلًا عن نوم الطفل في المؤسسة. وهذا النمط من الرعاية يتطلّب بحسب الزعتري تعديلًا على الأنظمة الحالية التي تفرض نوم الأطفال في المؤسسات الرعائيّة، هذا عدا عن أنّ التجربة أكدّت أنّ الكلفة مرتفعة. 

وتوضح أنّ “النمط الرعائي الحالي أصبح لا يتوافق مع التطوّر التكنولوجي، ولكن للتمكّن من الخروج منه إلى نمط رعائي جديد، نحتاج إلى إصلاح النظام التعليمي الرسمي، وتأمين وصول الأطفال إلى المدارس، وتأمين الخدمات المتخصّصة لمواجهة الصعوبات التعليمية والاضطرابات السلوكية ومحاربة التسّرب الدراسي كما وتوفير المستلزمات التي تحتاجها العملية التعليمية”. وتُضيف أنّ الأمر يحتاج أيضًا “أن نضمن بيئة أُسرية مناسبة للتربية”. وتؤكد أنّه “لا يُمكن أن تنفّذ المؤسّسات هذا التحوّل من دون تدخّل وزارة الشؤون الاجتماعية التي تُعدّ الإطار الناظم والرقابي لهذا القطاع”.  

ترشيد الإنفاق أحد أساليب المواجهة

في الأعوام الثلاثة الأخيرة، شهدت بعض المؤسسات إقبالًا من قبل الأسر التي تدهورت أوضاعها المعيشية وفقدت قدراتها على رعاية أطفالها. وهذا ما دفع بدور الرعاية إلى رفع المعايير التي تعتمدها لاستقبال الأطفال، فحدّدت سقفًا لقدرتها على الاستيعاب، وباتت تعمل على التشدّد في شروط قبول طلبات العائلات وتلجأ إلى تسجيل الأطفال من العائلات شديدة الفقر أو لأسباب الحماية بعد إجراء التحقيق الاجتماعي. وتوجّهت أكثر إلى الرعاية النهارية أي النصف داخلي وقلّصت دوامات المبيت والدراسة إلى معدّل أربعة أيّام في الأسبوع. 

وفي هذا الإطار، تؤكد مديرة مكتب الشؤون الرعائية في جمعية المبرّات الخيرية سهير شرارة أنّ المبرّات تضمّ 11 مؤسسة رعائية للأطفال موزّعة في بيروت، وجبل لبنان، والجنوب، والبقاع وترعى 4844  طفلًا وطفلة تسمّيهم المؤسسة “ابنًا وابنة” من الأيتام والحالات الاجتماعية الصعبة وذوي الاحتياجات الخاصّة من الروضات حتى الجامعة، إضافة إلى الحالات الاجتماعية. وتؤكّد أنّ المبرّات وتحسّسًا منها لمصلحة الطفل الفضلى، بدأت منذ سنوات في تقليص الرعاية الداخلية لمن تسمح ظروفهم الأسرية والاجتماعية بذلك. وعليه (ومن ضمن الـ 4844 طفلًا وطفلة) ترعى اليوم 1900 ابنًا وابنة رعاية داخلية ممّن “لا تتوفّر لهم مقوّمات الحياة الكريمة من الغذاء والصحة والتربية والتعليم والمعرّضين للخطر والمحتاجين للحماية”. ويبقى هؤلاء في المؤسسة من الاثنين لغاية الخميس مستفيدين من رعاية شاملة تعليميًا وصحيًا واجتماعيًا وتربويًا وترفيهيًا، ويسمح لعائلاتهم بزيارتهم بشكل دائم. هذا مع العلم أنّ أغلب هؤلاء هم من الأيتام أي فاقدي الأب أو الحالات الاجتماعية الصعبة.

وتضمّ المبرّات 800 ابن وابنة في فئة الرعاية نصف الداخلية ممّن يحتاجون لبعض الخدمات الرعائية والتربوية والتعليمية والتي يتعذّر على الأهل تأمينها لهم كالدعم الدراسي والغذاء. كما ويُشاركون في النشاطات التربوية والترفيهية التي تقوم بها المؤسّسة ويغادرون مساءً ليناموا في بيوتهم.  

يضاف إلى هؤلاء 1944 حالة ضمن الرعاية الأسرية وتشمل الأبناء الذين يعيشون في بيئة آمنة في بيوتهم ويتوفّر لهم متابعة تربوية وتعليمية، فتسجّلهم المؤسسة في مدارسها وتؤمّن لهم الكتب والزيّ المدرسي والرياضي والنقل المجاني، ومصروف الجيب لمن يحتاجونه، والكسوة اللائقة والرعاية الصحية، إضافة الى خدمات عينية للأهالي الأشد فقرًا.  

أمّا القسم الرابع والمعني بالرعاية الأسرية الدائمة فيشمل 200 من الأطفال المُحالين إلى المؤسّسة عبر قرار من قاضي الأحداث، وهؤلاء يبقون في المؤسّسة على مدار العام، مستفيدين من خدمات شاملة.

ويعتبر مدير عام مؤسسات دار الزهراء أدهم معماري أنّ “الدار التي ترعى نحو 1000 طفل من بينهم 200 في القسم الداخلي صمدت أمام الأزمة الاقتصادية بالتقشّف والترشيد، فأغلقنا مثلًا قسم “الكوما” في المستشفى التابعة للجمعية في طرابلس، حيث واجهنا مشكلة في تأمين الكهرباء على مدار الساعة. كما ترك نحو 40 من الموظفين في المجال التربوي العمل بسبب الرواتب، إذ استعصى علينا زيادتها بما يتناسب مع الأزمة”. ويشدّد معماري على أنّ “السنوات الثلاث الماضية مرّت بصعوبة علينا واليوم ندخل السنة الرابعة ونحن أمام خيارين إمّا التقشف أكثر فالاستمرار بصعوبة أو الإغلاق نهائيًا”. ويُشير إلى أنّ التبرعات التي تُشكّل النسبة الكبيرة من تمويل المؤسّسة تراجعت بسبب تراجع الأوضاع المعيشية لجزء من المتبرّعين المحليين، هذا عدا عن أنّ بعض مصادر التمويل من دول الخليج توقّفت بسبب الأوضاع السياسية. 

400 مؤسسة متعاقدة مع الوزارة

يوجد في لبنان 400 مؤسسة معنية بالرعاية وهي مؤسسات يتّصل عملها بـ “رعاية مسنّين، أطفال، أشخاص ذوي إعاقة، تدريب مهني وتقني ومعالجة الإدمان”، بحسب الزعتري. وتُضيف “مُعظم المؤسسات تقدّم خدمات متعدّدة، فلا يوجد مؤسّسة تعنى برعاية اليتيم فقط، بل غالبًا ما تشمل خدمات رعاية المعوّقين والمسنّين وهذه المؤسسات عددها 200 مؤسسة. وعلى سبيل المثال دار الأيتام الإسلامية الذي ترأس إدارته الزعتري يقدّم رعاية للمسنين والأشخاص المعوّقين والأطفال والتدريب المهني والتقني. 

وترعى دار الأيتام الإسلامية ثلاثة آلاف طفل في الرعاية الداخلية في فروعها المتعددة وثلاثة آلاف طفل رعاية نهارية، وتشمل خدمات المؤسسة 2500 أسرة تستفيد من برامج تدريب وتوعية وخدمات اجتماعية. 

الأزمة الاقتصاديّة وضعت المؤسسات الاقتصادية في حال حرجة وفقًا للزعتري التي تتوقع “تعثر المزيد من المؤسسات مطلع العام المقبل كون المؤسّسات الاجتماعيّة لم تسدّ بعد الفجوة التي نشأت عن الأزمة الاقتصادية”. 

في هذا الصدد، يشرح معماري عن تجربة دار الزهراء في تطبيق نظام النصف داخلي مشيرًا إلى أنّ هناك أُسر تمكّنت من تأمين وسيلة نقل لأولادها فطلبت أن يبيت أطفالها في البيت. ويُضيف “لماذا أرفض هذا الطلب فيما صالح الطفل يكمن في مبيته مع أسرته”. ويُشير “لدينا نحو مئتي طفل في الداخلي من أصل ألف طفل مسجّلين في المدرسة، وكانوا قبل الأزمة نحو 600 طفل في الداخلي”. ويؤكّد أنّ التوجه في المستقبل هو التحوّل قدر المستطاع إلى النصف داخلي وهذا ما نناقشه مع وزارة الشؤون الاجتماعية، مع التأكيد على عدم التخلّي عن الداخلي نهائيًا لمن هم بحاجة للحماية أو المصنّفين تحت الخطر”. 

نشر هذا التحقيق في مجلة المفكرة القانونية-لبنان العدد 69

لقراءة العدد كاملا

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني