مرضى لبنان عاجزون عن تأمين أدويتهم: وأخطبوط الموت يلاعبهم لعبة البقاء


2022-03-07    |   

مرضى لبنان عاجزون عن تأمين أدويتهم: وأخطبوط الموت يلاعبهم لعبة البقاء

وكأنّ خبر موت مريضٍ لعدم حصوله على حقه في العلاج بات أمراً عابراً، وكأنّ الموت “ظلماً” في هذه البلاد بات “قدراً”. بالأمس نعت إحداهن قريبها الذي قضى وهو في انتظار وصول علاج السرطان، قبله بأسابيع ماتت ثريا فواز لأنّها لم تعثر على الدواء، ونجت هدى من محاولة الانتحار الثانية بعد انقطاع أدويتها العصبية. واليوم تخشى إيليز من أن ينتشر المرض الخبيث في جسدها من جديد لعدم توفّر دوائها، فيما تشعر غايانيه أنّها تقتل والدها ببطء لعجزها عن شراء كلّ أدويته.

إنّها مجزرة جماعية ترتكب بحق المواطن اللبناني بكلّ ما للكلمة من معنى، فالمرضى من جميع الفئات عاجزون عن تأمين أدويتهم، إمّا لعدم توفّرها في الأسواق وإمّا لغلاء أسعارها، أجسادهم التي لا يصلها العلاج تموت ببطء. وفي حين يرقى ما يحدث لهم ليكون جريمة ضدّ الإنسانية، يتباهى المعنيّون بمؤتمراتٍ وقراراتٍ وإنجازاتٍ عجزت عن توفير حبة دواءٍ واحدةٍ  لثريا فواز، فماتت، ولا يزال طفلها “صمصوم قلبها كما تناديه” ينتظر كل ليلةٍ أن تأتيه في حلمٍ. 

ومن بعد تبديد دولارات المصرف المركزي على دعم أدوية غير أساسية وبسرعةٍ قياسيةٍ بدل ترشيد الإنفاق، بحسب الدكتور إسماعيل سكرية، ومع استمرار تجاهل خيار دعم صناعة الأدوية محلياً لصالح مستوردي الأدوية (والتي يمكن أن تؤمّن لنا 75% من حاجاتنا من الدواء)، تمّ رفع الدعم جزئياً ما أعاد بعض الأدوية إلى رفوف الصيدليات بعد أن كانت حبيسة المستودعات، إلّا أنّ الكثير من الأدوية لا تزال مفقودة وإذا ما توفّرت فبكمياتٍ قليلةٍ وأسعارٍ باهظة أدّت إلى عجز كثر من المرضى أو معيليهم عن تأمينها. 

في هذا التحقيق سنلقي الضوء على أسباب استمرار انقطاع الدواء وغلاء سعره، والصعوبات التي يواجهها المواطن للحصول على علاجه وتداعيات الأزمة على صحته، بالإضافة إلى التجاوزات التي يرتكبها الموزعون وأصحاب بعض الصيدليات التي تحول دون وصول الدواء إلى المستهلك، وأخيراً السبل البديلة التي يعتمدها المريض في تأمين علاجه ودور شبكة الرعاية الصحية الأولية وأبرز مشاكلها.

أسباب أزمة الدواء وتعثر حصول المريض على علاجه

2019 -2021 الدعم العشوائي للدواء “طيّر دولارات الاعتمادات”

لا شكّ أنّ أزمة الدواء في لبنان لها أسباب عدّة، منها ما يعود لسياسات الحكومات المتعاقبة منذ عهود، ومنها ما هو آني مرتبط بالأزمة الإقتصادية والمالية الأخيرة.  

قبل العام 2019 درجت العادة أن تقوم الشركات باستيراد الأدوية من دون أي قيود، إلّا أنه مع بدء الأزمة الاقتصادية وشح العملة الأجنبية، بات لزاماً على الشركات تقديم ملفاتها إلى المصرف المركزي الذي يقوم بدوره بفتح اعتماداتٍ لها على سعر صرف 1500، وبدلاً من تحديد لائحة دواء أساسية مؤلفة من 1000 صنف لدعمها، تجاوز عدد الأصناف المستوردة والمدعومة خلال عامي 2019 و2020، 5500 صنف بحسب النائب السابق الدكتور إسماعيل سكرية، “بدل ما يصير ترشيد للإنفاق، هدر المصرف المركزي دولاراته على أدوية غير أساسية وبسرعةٍ قياسيةٍ”. وفي مؤتمر صحافي لوزير الصحة السابق، حمد حسن، بتاريخ 16-7-2021 كشف فيه أنّ قيمة الفواتير المقدمة إلى مصرف لبنان في 2019 بلغت حوالي 490 مليون دولار، وفي 2020 تضاعفت القيمة وبلغت ملياراً و182 مليون دولار، أما خلال الأشهر الست الأولى من العام 2021 فوصلت قيمتها إلى 520 مليون دولار. ويفسّر سكرية هذا الارتفاع إلى تلاعب شركات الأدوية بالأسعار استغلالاً للأزمة من جهة، وسعياً منها لاستيراد كميات كبيرة لتنشيط حركة التهريب إلى الخارج من جهةٍ ثانيةٍ، فلطالما كان سعر الدواء في لبنان أرخص بكثير منه في بلدان أخرى كالعراق وغيرها.

وبدءاً من مطلع 2021  راح حاكم مصرف لبنان يطلق الإنذارات عن عجزه عن الاستمرار في دعم الدواء، وصولاً إلى 7 أيار 2021 حين توقّف عن فتح الاعتمادات، متحجّجاً بعدم وضع وزارة الصحة للائحة دواء أساسية لدعمها. وبحسب سكرية “الوزارة أعجز من أن تضع هذه اللائحة، وذلك بسبب التدخلات السياسية وضغط شركات الأدوية التي تريد فرض أصنافها”. 

وعلى مدى أربعة أشهر من قرار المصرف المركزي، ورفع الدعم عن أدوية otc أي التي تباع بدون وصفة طبية بنسبة 80%، ساد الهرج والمرج، فخشي المواطنون من فقدان الدواء وبدأوا تخزينه فيما ارتأى عدد كبير من الموزعين وأصحاب الصيدليات عدم إخراج بضائعهم من المستودعات طمعاً بتحقيق أرباحٍ إضافية عند رفع الدعم، وعلى حساب صحة المواطن. وفي تلك الفترة كشفت وزارة الصحة عن بضائع منتهية الصلاحية مخزنة في المستودعات، وروت إحدى المواطنات لـ “المفكرة” أنّها بعدما عجزت عن العثور على دواء زوجها مؤخراً في الصيدليات، وجدته بكمياتٍ في أحد المخازن ولكن بصلاحيةٍ منتهية، وكان صاحب المخزن يحاول التخلص من البضاعة قبل انكشاف أمره على حد قولها.

كذلك عمد أصحاب بعض الصيدليات إلى رفع أسعار الأدوية بطريقة مضاعفة وغير شرعية، ويروي موظف في صيدلية أنّ صاحبها طلب منهم، مع بدء الحديث عن رفع الدعم عن الأدوية، مضاعفة الأسعار إلى حد السبع مرات، حينها اضطرّت إحدى المريضات إلى شراء دوائها بسعر ناهز مليونين ونصف المليون ليرة، بعد أن كان سعره لا يتجاوز 400 ألف ليرة لبنانية، على حد قول الصيدلي. 

أيلول “الأبيض”: الدواء غالٍ ومقطوع 

استمر الحال على ما هو عليه لحين استلام وزير الصحة الجديد فراس الأبيض حقيبته الوزارية في أيلول 2012، فخاض الأخير نقاشاتٍ عدّة مع حاكم مصرف لبنان الذي وافق على فتح اعتماداتٍ بقيمة 35 مليون دولار فقط في الشهر، منها 25 مليوناً لدعم أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية و10 ملايين دولار لدعم المستلزمات الطبية، في حين كانت ميزانية الدعم تصل قبل 7 أيار حد 75 مليون دولار للأدوية، على حد قول نقيب شركات الأدوية المستوردة، كريم جبارة. من هنا كان على الوزير الأبيض تحديد الأولويات لكيفية صرف هذه الميزانية، وفق رئيس اللجنة النيابية في وزارة الصحة عاصم عراجي، فأبقى على دعم الأمراض المستعصية بنسبة 100%، ورفع الدعم جزئياً عن أدوية الأمراض المزمنة، فدعمت الأدوية الرخيصة الثمن بنسبة 25% والأدوية متوسطة السعر بنسبة 45% أما الأدوية الغالية الثمن فتم دعمها بنسبة 65%. من هنا أصبح سعر بعض الأدوية يناهز اليوم نصف الحد الأدنى للأجور. ففي مقارنة بسيطة، نتبيّن أنّ دواء السكري  Janumet ارتفع سعره من 50 ألف ليرة إلى 564 ألفاً، ودواء الضغط  Amlor ارتفع ثمنه من 14 ألف ليرة لبنانية إلى 150 ألف ليرة، كذلك دواء Actacan Plus لعلاج ضغط الدم، ارتفع سعره من 25 ألف ليرة إلى 177 ألفاً. وتضاعف ثمنJardiance  من 76000 ألف ليرة إلى 441000 ألفاً، وCetrotide  ارتفع ثمنه من 70 ألف ليرة إلى مليون و290 ألفاً.

وكان الوزير الأبيض قد صرّح لـ “المفكرة” أنّه كان أمام خيارين: إما رفض الميزانية الضئيلة واستمرار انقطاع الأدوية من الصيدليات، وإمّا القبول بالمبلغ المحدود (35 مليون دولار) مع رفع الدعم جزئياً مقابل عودة توفّر الدواء. لكنّ الدواء رغم ذلك بقي مفقوداً وأصبح مع قرار الوزير الأبيض مفقوداً وباهظ الثمن. 

واعتبر نقيب مستوردي الأدوية، كريم جبارة في حديثٍ  لـ “المفكرة”، أنّ استمرار فقدان الأدوية من السوق يعود إلى الميزانية القليلة المرصودة للدعم، إذ أنّ الشركات تحتاج لمبلغٍ لا يقل عن 50 مليون دولار لسدّ حاجة السوق من الأدوية الأساسية. من جهةٍ ثانية، يشير جبارة إلى أنّ الإجراء الذي يقضي باستحصال الشركات على موافقة مسبقة من وزارة الصحة بالأصناف والكميات المفترض استيرادها، والآليّة التي فرضها مصرف لبنان بالتعاون مع الوزارة، تساهم اليوم في تأخير عملية الاستيراد وبالتالي تأخّر توفّر الأدوية في الأسواق. 

تجاوزات الموزعين وأصحاب الصيدليات تحرم المواطن من الدواء 

من جهةٍ ثانيةٍ يؤدّي بعض الموزعين وأصحاب المخازن والصيدليات دوراً بارزاً في تعثّر وصول الدواء إلى المرضى من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح، وذلك من خلال الممارسات غير القانونية وغير الإنسانية التي يتّبعونها، وقد رصدت “المفكرة عدداً من التجاوزات. فهم يبقون على بضائعهم مخزنة في المستودعات بانتظار ارتفاع سعر الدولار لتوزيعها على الصيدليات، ما يؤدي إلى انقطاع الدواء لفترات. ويروي أحد أصحاب الصيدليات كيف يؤثر ذلك على مبيعهم وأرباحهم، “الموزّع بيضلّ أسابيع قاطعنا من الأدوية بالتالي عم نخسر البيع، بيرجع بيعطينا لمّا يغلى الدولار، لما بيوطى الدولار منصير مضطرين نرخّص أـسعارنا”. من هنا باتت صيدليات عدّة تشكل لائحة أسعار خاصة بها من دون الالتزام بتسعيرة الوزارة، ما يؤدي إلى تفاوت في الأسعار بين صيدلية وأخرى. وقد كتبت زينب اسماعيل على صفحتها على فيسبوك أنها وجدت علبة الفيتامينات التي تحتاجها للحمل بسعر 120 ألف ليرة لبنانية في إحدى الصيديات، بينما في صيدليةٍ ثانية بلغ سعرها 300 ألف ليرة. الأمر ذاته تكرّر معها خلال بحثها عن أدواتٍ خاصة بفحص السكري، فاشترتها من إحدى الصيدليات بقيمة 750 ألف بينما في صيدلية أخرى بلغت قيمتها 840 ألف ليرة. 

ويبرّر نقيب أصحاب الصيادلة، جو سلّوم، الذي تقع على عاتق نقابته مسؤولية الرقابة بالإضافة إلى وزارة الصحة، تفاوت الأسعار بين الصيدليات بـ”الخطأ التقني” في برنامج تعديل الأسعار التي تتغيّر مع تبدّل سعر الصرف، علماً أنّ مؤشر الأسعار لم يتغيّر منذ 1 شباط 2022، مشدّداً على ضرورة التزام الصيدليات بالتسعيرة الرسمية. رافضاً التعميم في مسألة  تأخّر الموزّعين في تسليم البضائع لحين ارتفاع الدولار.

كذلك تمارس الصيدليات الاستنسابية والتمييز بين المرضى، فيرفض بعضها بيع الدواء للمريض الذي لا يشتري من عندها بشكل منتظم، وهذا ما حدث مع نادين التي يعاني ابنها من “فرط في الحركة” ويحتاج يومياً إلى ست حبات من دواء Ritalin وإلّا فسيتراجع نفسياً وسلوكياً، وكانت تؤمّنه من إحدى الصيدليات، إلّا أنّ الوكيل أوقف تزويد الصيدلية بالدواء، ما اضطرها إلى البحث عنه في صيدليات أخرى، لكن معظمها ترفض بيعها الدواء بحجّة حجزه لزبائنها. وغالباً ما تعود إلى بيتها خالية الوفاض، متكبدةً مشقة البحث ونفقات الطريق بين الجنوب وبيروت والشوف وصولاً إلى عكار، “نحن ما عم نقول اعطونا اياه ببلاش مستعدين نشتريه بس ينوجد”. 

سلّوم علّق على تمييز الصيدليات بين المرضى، مبرراً إيّاه بأنّه إجراء يفرضه الموزعون على أصحاب الصيدليات لضبط عملية البيع والحؤول دون لجوء المرضى للتخزين، فلا تصرف هذه الأدوية إلّا بوصفةٍ طبيّةٍ يتمّ إبرازها للموزّعين كشرط لتسليم الأدوية، وهي مخصّصة للمرضى المعتمدين من هنا لا يستطيع الصيدلي التصرف بها، والكلام لسلوم.

وتبيّن من خلال عدد من المقابلات التي أجريناها، أنّ هناك علاقة ما تربط بين الصيدليات والسوق السوداء. فتقول رولا إنها أمضت حوالي الشهر وهي تبحث عن دواء والدتها لكنها لم تعثر عليه، حتى عرض عليها أحد العاملين في الصيدلية تأمينه لها من السوق السوداء بقيمة 50 دولاراً في حين لا يتجاوز سعر دواء والدتها 150 ألف ليرة لبنانية. وهنا ربما يجوز افتراض لجوء أصحاب الصيدليات إلى بيع الأدوية المدعومة المستوردة بالسوق السوداء لتحقيق الأرباح. 

السوق السوداء والمواقع التجارية

مع اشتداد الأزمة، تكوّنت مجموعة جديدة من “مافيات الأزمات”، الذين يستغلون حاجة الناس لتنشيط أعمالهم وتحقيق الأرباح، فوجدوا من فكرة شراء أدوية من خارج لبنان وبيعها في السوق اللبناني بأسعارٍ مضاعفة، مهنةً رابحةً.

كذلك نشطت مؤخراً مواقع لبيع الأدوية، وكانت زينب إسماعيل قد لحظت في منشورها أنها وجدت دواءها ” “ACCU -CHEK على أحد المواقع بـ 450 ألف ليرة ، في حين بلغ ثمنه في الصيدليات اللبنانية 850 ألف ليرة لبنانية.

وكانت نقابة الصيادلة قد تقدّمت في تاريخ 12 -1- 2022 ببلاغ للنائب العام، المستشار حماده الصاوي، ضدّ إحدى الشركات المالكة لموقع للتجارة الإلكترونية، لبيعها الأدوية على الموقع الخاص بها في مخالفة لقانون مزاولة مهنة الصيدلة رقم 127 لسنة 1955. 

تأثير الأزمة على المرضى من جميع الفئات  

بين قرارت مصرف لبنان وقرارات وزير الصحة، أصبح المواطنون حائرين في كيفية الحصول على علاجهم، وأصبحوا أمام خيارين: هل يوفرون رواتبهم لشراء الطعام أم لشراء الدواء؟ 

“أنا بعرف إنّي عم بقتل بيّي على البطيء،عم شوف بيّي عم يموت قدامي وما قادرة أعمل شي”، تقول غايانيه التي اضطرّت إلى تقليص عدد أدوية والدها من 12 إلى ثلاثة بسبب الضائقة الاقتصادية، وقد تجاوز ثمن الأدوية الثلاثة لعلاج أمراض القلب والضغط والبروستات، مليوني ليرة لبنانية، معتبرةً أنّ ما يحدث اليوم تجاه الشعب اللبناني هو أصعب وأقسى من المجزرة التي عاناها أجدادها الأرمن. 

أم علاء (70 عاماً) أخبرتنا أنّ زوجها أصيب بجلطاتٍ عدّة بعدما تعذّر العثور على دوائه لعلاج القلب الذي بقي من دونه لخمسة أيامٍ متتالية، ما توجّب نقله إلى المستشفى. في حين عبّر أحد الأطباء على صفحته على فيسبوك، عن سخطه وحزنه، بعدما انهارت إحدى مريضاته، البالغة من العمر 67 عاماً، باكيةً لعجزها عن شراء أدويتها وأدوية زوجها، والتي تبلغ قيمتها مليوناً و500 ألف ليرة في الشهر، وقد باعت الكثير من مقتنياتها في المنزل من فضيّاتٍ وغيرها لتأمين ثمنها على مدى أشهر.

مرضى الأمراض المستعصية وغسيل الكلى أدوية مدعومة لكنها مفقودة 

على الرغم من استمرار دعم أدوية الأمراض المستعصية وغسيل الكلى بنسبة 100%، على حد قول الوزير الأبيض، إلّا أنّ العلاج  ما زال مفقوداً، وقد توفّي نهار الأربعاء الفائت أحد مرضى السرطان بسبب توقّفه عن تناول علاجه لمدة ثلاثة أشهر، بحسب تغريدة لإحدى قريباته على تويتر. 

إيليز التي انتصرت على السرطان مرّتين، يتوجّب عليها المواظبة على تناول دوائها كي لا يعاود المرض للتفشّي من جديد، إلّا أنّ هذا الدواء الذي يبلغ سعره 10 ملايين ليرة لبنانية مقطوع، وإذا ما أرادت شراءه من الخارج فثمنه 7500 دولار ولا قدرة لها على ذلك، “الدكتور قال إذا ما أخذت الدواء احتمال كبير يرجع المرض يتفشى يعني كل شي مرقت فيه رح ارجع عيشه”، تقول لـ “المفكرة”. لذلك تحاول إيليز أن “تشحذ” بضعة حبوب من مرضى ومن أطباء أصدقاء لها، وتسارع لضمان حجز اسمها لدى الشركة المعتمدة كون الكمية المستوردة منه باتت محدودة جداً، “خلّونا نتخانق على الدواء، يمكن غيري أحق بس أنا كمان بدي عيش ما بدّي موت”.

ويقول هاني نصّار، مدير جمعية بربرا نصّار لدعم مرضى السرطان، إنّ حياة الكثير من المرضى في خطر ما لم يسارع المعنيون إلى حل الأزمة، وإنّه على الرغم من أنّ الأدوية مدعومة لكنّها غير موجودة، وهذا يعود إلى الكميات القليلة المستوردة والتي لا تكفي حاجة المرضى، “هناك أدوية مقطوعة منذ حوالي سبعة أشهر وأدوية ما إن تصل من الخارج حتى تنفذ”، لذا يضطر المريض إلى انتظار الطلبية الثانية التي لن تصل قبل شهرين وحتى المستشفيات باتت تعاني من انقطاع الأدوية. من جهة ثانية يثير نصار مسألة استغلال بعض المستشفيات للأزمة، مفسّراً أنّ مريض السرطان المشمول بالضمان الصحي يتحمّل فقط 5% فقط من سعر الدواء وكلفة العلاج، من هنا إنّ فاتورة علاجه يجب ألّا تتجاوز 500 ألف ليرة للجلسة الواحدة، اليوم تفرض بعض المستشفيات مبلغ معيّن ثابت وهو 5 ملايين للجلسة الواحدة، علماً أنّ المريض يحتاج إلى حوالي ثلاث جلسات في الشهر الواحد، “مين بيقدر يتحمّل يدفع هالقد”. 

أما جمانة التي يخضع زوجها إلى ثلاث جلسات غسيل كلى في الأسبوع، أصبح يعاني من فقر حاد في الدم نتيجة توقفه عن تناول الفيتامينات اللازمة، ومنها على سبيل المثال “ONE ALPHA” وأحياناً دواء ( FOSRENOL 750). وتستعين جمانة بأقاربها في الخارج الذين يؤمنون لها بعض الأدوية، وفي أحيانٍ أخرى تلجأ لطلب المساعدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. إلاّ أن المصدر الأساسي لتأمين بعض أدويتها بات مؤخراً تجّار “السوق السوداء”، هؤلاء أشخاص باتوا معروفين لدى مرضى غسيل الكلى ويؤمّنون لهم حبوب الأدوية بسعرٍ مضاعف، كذلك يتعاون المرضى فيما بينهم فيتبادولون الكبسولات ويتقاسمونها كلّ بحسب حاجته واضطراره. 

مرضى الأمراض العصبية دواء لا يحتمل التأجيل 

تروي لارا، أنّها بعد تفجير مرفأ بيروت وإصابة والدتها أمام ناظريها، باتت مهتمة بمساعدة مرضى الأمراض العصبية في تأمين أدويتهم، تقول إنّ حال مرضى الأعصاب في لبنان بات كارثياً وخطراً بسبب انقطاع الأدوية ومنها Xanax- Stilnox من جهة، وغلاء سعرها “يعني دواءLamictal  كان سعره 75 ألف ليره صار سعره 300 ألف”، موضحةً أنّ عدم تناول المريض لأدويته بانتظام قد يؤدي إلى تراجع وضعه النفسي إلى درجة قد تؤدي به إلى الانتحار في حال كانت لديه ميول انتحارية. وبالتالي يحاول المرضى تدبّر أمورهم من خلال المساعدات أو من خلال تقليل الجرعات وهو أيضاً يشكّل خطراً على استقرارهم النفسي ويؤدي إلى تدهور صحتهم “يعني بدل ما ناخذ حبة كل يوم مناخذ حبّة كل يومين”. وتشير إلى أنّ بعض “المرضى عم يعفّسوا بالأدوية حتى يرتاحوا من النوبات بس على المدى الطويل رح يسوء وضعهم أكثر”. 

هدى هي واحدة من هؤلاء، حاولت الانتحار للمرة الثانية ولكن أحد أصدقائها هرع لإنقاذها، تروي لـ”المفكرة” أنّها مع بدء الأزمة باتت تنقطع لفتراتٍ عن تناول دوائها، ما يتسبّب لها بنوبات عصبية، فتقوم بأذية نفسها وجرح بطنها وجسدها بالسكين طلباً للراحة، “لمّا ما باخذ الدواء بكون مش بوعيي كيف إذا انقطعنا لأيام”. كما أنّ الأدوية البديلة التي لجأت إليها لم تشعرها بالراحة “كانوا مثل قلّتهم”. لذلك يحاول أهل هدى “تأمين الدواء من خلال الاتصال بعدد من الصيدليات المنتشرة في المناطق، أوقات كثيرة ما عم نتوفق”.  

مراكز الرعايا الصحية “بديل” لا يسدّ رمقاً 

في حديثه لـ “المفكرة”، دعا الوزير الأبيض المرضى للتوجّه نحو مراكز شبكة الرعاية الصحية الأولية، على اعتبار أنّها حلّ مبدئي للتخفيف من حدّة الأزمة. وبحسب مسؤولة الرعاية الصحية في وزارة الصحة، رندا حمادة، هناك 250 مركزاً صحياً في لبنان تؤمن الاحتياجات الصحيّة والوقائية الضرورية لجميع المقيمين على الأراضي اللبنانية، مقابل تعرفة رمزية تتراوح بين 5 آلاف و18 ألف ليرة، كما وتؤمن المراكز حوالي 66 نوعاً من الدواء البديل لأمراض مختلفة ضمن برنامج “خدمة الدواء” الذي تتولّى “جمعية الشبان المسيحية” تنفيذ برنامج “الأدوية المزمنة” فيه. وقد أفاد رئيسها عصام بشارة أنّ المشروع يتمّ تمويله من قبل وزارة الصحة بقيمة 5 مليارات ليرة لبنانية، ومن الاتحاد الأوروبي عبر منظمة الصحة العالمية، وأنّ توزيع الأدوية يستند إلى تقاريرٍ تقدّمها المراكز شهرياً تبيّن فيها عدد المستفيدين وحاجاتهم. وقد تزايد أعداد المستفيدين بشكلٍ كبير في الفترة الأخيرة نظراً للأزمة، فقد زادت أعداد المستفيدين من البرنامج خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأول من العام 2021 فقط حوالي 17850 مستفيد دائم ، ووصل عددهم لغاية شباط 2022 حد 123 ألف مستفيدٍ معتمد لدى المراكز.

وفي اتصال مع مدير مركز البتول الصحي للرعاية الصحية الأولية في الهرمل، كمال جعفر، أفاد أنّ أعداد المستفيدين من خدمة تأمين الدواء زادت كثيراً بسبب الأزمة  وتجاوزت 500 مريض في الشهر، في حين خفت أعداد المرضى الذين يقصدون المركز يومياً إلى حوالي 60. أما مدير مركز بلدة الطيبة الصحي، حسن فرحات، فقال إن المركز يستقبل يومياً 120 مريضاً وإنّ نسبة المستفيدين زادت 200%، من هنا بات المركز يطلب كمية إضافية من الأدوية للاحتياط. 

لكن وعلى الرغم من استفادة الكثير من المرضى من هذه المراكز، إلّا أنّها ليست الحل، فلائحة الأدوية المعتمدة لديها محدودة، ولا تشمل جميع الأمراض، والعدد الأكبر منها أدوية بديلة “جنيريك” لا تتناسب وصحة العديد من المرضى الذين تستوجب حالتهم البقاء على الدواء الأصلي. وبحسب جعفر تواجه المراكز عقبات عدّة منها انقطاع الأدوية في بعض الأحيان ما يحرم المواطن من الحصول على علاجه، بالإضافة إلى قلّة أعداد مراكز الرعاية وتباعدها ما يكبد المرضى الذين يأتون من مناطق بعيدة كلفة النقل ومشقة الطريق. كذلك تعاني المراكز وبالتالي المواطنين من هجرة الأطباء نتيجة تدني قيمة بدلات المعاينات، “المعاينة بـ 18 ألف ليرة ما بتغطي بنزين سيارة الطبيب”، ما يحرم أعداداً كبيرة من المرضى من تلقي علاجاتهم.

ويطالب جعفر بضرورة زيادة عدد مراكز الرعاية لتصل خدماتها إلى أكبر عدد من المواطنين، وتوسيع دائرة الخدمات المقدمة، وتجهير المراكز بالمعدات والأجهزة والفحوصات الضرورية. تقول أم علاء، إنها على الرغم من تسجيل اسمها في أحد مراكز الرعاية الصحية، إلاّ أن الكثير من أدويتها وأدوية زوجها غير متوفرة كون لا بديل لها، ما يضطرها إلى اللجوء تارةً إلى فاعلي الخير وطوراً إلى الأحزاب السياسية النافذة في منطقتها الذين يؤمنون لها الدواء “بطرقهم الخاصة” كما أفادت. من جهةٍ ثانيةٍ يشكو بعض المرضى من انقطاع الأدوية لدى المراكز “أنا بستفيد باخذ أدوية من المراكز بس بعض الأشهر بيقولولي ما في بدك تنتظر”.

ويفسّر بشارة أسباب انقطاع بعض الأدوية بنفاذ الكمية المستوردة نظراً لتضاعف أعداد المستفيدين، “منكون طالبين كمية بتخلص قبل ما توصل الطلبية الثانية من كثرة الإقبال”. 

المشاكل معروفة والحلول معروفة فهل من خطة؟ 

بدا واضحاً من خلال مروحة المقابلات التي أجرتها “المفكّرة” مع عددٍ من المعنيين، أنّ الجميع يعلم مكامن الخلل كما طرق الحل للخروج من الأزمة.

يشدّد كلّ من الدكتورين إسماعيل سكرية، وعاصم عراجي، رئيس الكتلة النيابية الصحية، على ضروراتٍ عدةٍ لحل أزمة الدواء: منع احتكار الدواء من قبل عدد من “التجار”، التوقّف عن استيراد أصناف كثيرة بكميات كبيرة من الأدوية، تحديد لائحة دواء أساسية، ضرورة تفعيل المختبر المركزي، تغليب استيراد أدوية بديلة على الأدوية الأصلية، دعم صناعة الأدوية الوطنية التي من شأنها أن تؤمن 75% من حاجة السوق من الأدوية البديلة، إيجاد حلّ لكثرة الصناديق الضامنة التي يعتبرها سكرية بمثابة “تنفيعات سياسية”.

أما نقيب مستوردي الأدوية، كريم جبارة، فيعتبر الحلّ بالإبقاء على دعم الأدوية السرطانية بنسبة 100%، ورفع الدعم بشكل شبه كلّي عن أدوية الأمراض المزمنة شرط دعم البطاقة الدوائية للمواطن وتأمين غطاء صحي للمواطنين، “ما في دولة بالعالم بتعيّش مواطنيها بلا تغطية صحية”، داعياً الحكومة إلى وضع الخطة الإصلاحية والإيفاء بالتعهدات اللازمة التي يطلبها المموّلون كشرطٍ لدعم القطاع. 

بدوره نقيب الصيادلة، جو سلوم، فسّر أن النقابة بالتعاون مع الجهات المعنية يعملون على إيجاد الحلول وأهمها تأمين “هوية دوائية” مدعومة لجميع المواطنين المرضى، توفر لهم الأموال اللازمة لشراء أدويتهم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مصارف ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لبنان ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني