مرصد البيئة الدامجة في نقابة المهندسين: إلزامية تطبيق البناء الدامج قبل الترخيص


2022-10-01    |   

مرصد البيئة الدامجة في نقابة المهندسين: إلزامية تطبيق البناء الدامج قبل الترخيص
من تحرّك جرى مؤخراً لاتحاد المعوقين حركياً

“كانت حياتي طبيعية وسهلة، عبارة عن شغل، رياضة، لقاءات وزيارات…  وكانت الطرقات والأرصفة ومداخل الأبنية بنظري آمنة وميسرة، الى أن تعرضت لحادث مؤلم تسبب لي بكسور عدة ورضات قوية اقعدتني في سريري. نجاتي كانت من الله، لم أتعرض للشلل الدائم، فقط تعوقت لأشهر عدة حيث لم أستطع السير على قدمي، بت مقعدة على كرسي متحرك.  للأسف لا استطيع العمل،أو التسوّق، لا يمكنني الذهاب لزيارة صديقاتي، أو الطبيب ولا شراء أدويتي من الصيدلية، ولا المياه لنفسي وكذلك حاجيّاتي الأساسية. توقفت حياتي فجأة، كلّ ذلك بسبب ست درجات تفصل بين المصعد ومدخل المبنى الذي أسكنه. ست درجات شكلت عندي برزخا ما بين الكون والحياة، برزخا ما بين الحياة و الموت. شكّلت عندي هاجسا مؤلما، وبدلا من أن أدوس عليها بقدمي لأصعد ! باتت تدوس علي لأعود إلى أسفل وتهزأ مني”.

بعدما روت تجربتها مع إصابتها وإعاقتها المؤقتة بسببها، تمنت المهندسة المعمارية ندى مصطفى “لو أن كل ما ندرسه في الجامعة من نظريات ومقترحات يُطبّق في الواقع”. وتضيف: “أنا لا أعيش في سوليدير ولا أقتني شقة حيث المتر بآلالاف الدولارات وحيث دُرست حركة الإنسان بدقة متناهية كما راحته النفسية و أثر المحيط على فكره و نموه. منطقتي لا تتمتع بهذا النوع من الدراسات رغم أنني من البشر وتحديدا من نفس النوع البشري الذي يسكن في تلك المناطق ! حسنا، أنا أعيش في الضاحية الجنوبية لبيروت، في منطقة الرويس، رغم أني لست من سكان سوليدير، إلا أن جيش الوطن يراني جوهرةً ثمينة يجب الدفاع عنها، في حين يزهد فيّ مهندسي وطني لسبب لا أعرفه.  وتضيف: “بعد أن أنهيت فترة الشهر في السرير، ملأتني السعادة أنه يمكنني شراء الكرسي المتحرك كي أستطيع السير كما أريد وأينما أريد بدون الحاجة لأحد، ملأتني الغبطة حقا و شعرت بفرحة طفل استطاع المشي لأول مرة من دون مساعدة أهله، لكن للأسف شُلّ المبنى الذي أسكنه، شلله كان منذ ولادته لكنني لم استطع أن أرى ذلك”.  تسأل وتجيب: “كيف تُشلّ الابنية؟ تُشل الابنية حينما يقرر مهندس معماري، أنعم الله عليه بقدمين سليمتين، أن يرسم الخرائط وبدء التصميم، يحدد قياس الغرف و نوع البلاط المستعمل، نوع الأبواب و قياس النوافذ، يلتفت إلى أدق التفاصيل حتى أنه يلتفت الى الأقنية الصحية، يدرس زواياها والأنابيب المستعملة و أين يضع “الجيازة ” كي لا تشوه المنظر! لكنه ينسى الأهم ! الانسان، نحن نبني للإنسان الذي يسير على قدمين ! اليوم، البارحة، غدا وبعد الفي سنة مقبلة سنبقى نبني للإنسان”، وعليه ترى مصطفى أن أول القواعد المعمارية هي أن يعرف المهندس لمن يبني: “للاسف في مجتمعي لا أحد يلتفت إلى أن المُقعد إنسان أيضا، وأن أي منا قد يصبح مُقعداً يوما ما”.

هذه التجربة شاركتها المهندسة ندى مصطفى خلال تقديمها حفل إطلاق “مرصد البيئة المبنية الدامجة”، في نقابة المهندسين في بيروت، يوم الاربعاء في 28 أيلول 2022،  الذي نظمته لجنــــة البيئة الدامجـــة في النقــــابة، بالتعاون مع الإتحاد اللبناني للمعوقين حركيا. يهدف المرصد إلى مراقبة تنفيذ المرسوم الرقم 7194/2009 المتعلق بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والمرتبط بالقسم الرابع من لقانون 220/2000 المتعلق بالبيئة الدامجة، والذي حدد معايير الحد الأدنىالتي يجب على أساسها أن تعمل جميع السلطات العامة لتأهيل الابنية والمنشآت والمرافق العامة والدوائر الرسمية القائمة، ضمن مهلة انتهت في نهاية 2017.

شهادة مصطفى اختصرت معضلة استمرار غياب هذه التدابير والمعايير التي من شأنها تعزيز الحماية الإجتماعية للأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن.

“لا شيء عنا من دوننا”

إطلاق المرصد لم يكن التعاون الاول بين نقابة المهندسين واتحاد المعوقين حركياً، بل هو مسار تعاون طويل بين الطرفين، كان آخرها صدور عدد من الأدلة الساعية إلى تسهيل التزام المهندسين بالمعايير الهندسية الدامجة المنصوص عليها في التشريعات المحلية والمواثيق الدولية، وعليه، تؤكد رئيسة الاتحاد سيلفانا اللقيس أن البيئة الدامجة تطال الجميع وتؤثر على حياتهم مهما اختلفت قدراتهم، مهاراتهم أو إعاقاتهم لجهة تمكينهم من الوصول إلى الأماكن والمعلومات والتكنولوجيا والخدمات، والحصول على المنتج الدامج. ولاحظت ان مجتمع الأعمال يدرك مصالحه المباشرة في البيئة الدامجة. وتنقسم هذه المصالح إلى اقتصادية، اجتماعية – أخلاقية، وقانونية – تشريعية.  

من الناحية الإقتصادية، ترى اللقيس انه إذا ما أزيلت العوائق أمام نحو 15 في المئة من السكان الذين هم في عمر الإنتاج، وباتت لديهم استقلالية اقتصادية، فإن ذلك سينعكس إيجابًا بالنسبة نفسها على الدخل القومي والمؤشرات الاقتصادية الأخرى. أما الفائدة على المستهلكين فنسبتها أكبر بكثير، كونها تخدم كبار السن وذوي الإعاقات المؤقتة والنساء الحوامل والأهل الذين ينقلون أطفالهم في عربات، أي غالبية المجتمع.

وترى أنه من الناحية الإجتماعية الأخلاقية، تنعكس البيئة الدامجة إيجابًا على قطاع الأعمال، بما يتماشى مع التطور العالمي لصورة الشركات الرائدة التي تحترم التنوع وتؤدي المترتب عليها تحت عناوين المسؤولية الاجتماعية.  

ومن الناحية القانونية، تنعكس على تطور التشريعات المحلية التي تحترم الشرائع والإتفاقيات الدولية، لاسيما وأن مجلس النواب اللبناني، صادق أخيرًا على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وإن تأخر نحو 16 سنة،.  

وتلفت اللقيس الى أن المنافع لا تنحصر بمجتمع الأعمال  بل توفر البيئة الدامجة حلولًا لكل الناس، ما يجعل من عالمنا عالمًا مرحبًا ومتماسكًا: “فالأشخاص غير المعوقين، وهم في الواقع غير معوقين مؤقتًا، كون ما نسبته 45% من الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم الـ60 عامًا يُصابون بنوع أو أكثر من أنواع الإعاقة”. 

نتيجة اللامبالاة  

 إن حرمان الأشخاص ذوي الإعاقة من حقهم في الوصول إلى الأماكن والمعلومات والخدمات وإهمال تحقيق البيئة الدامجة، انعكس، وفق اللقيس، على مستواهم التعليمي، فمنعوا من ارتياد المؤسسات التعليمية، كما العمل والتنقل. وبالتالي تزيد نسبة البطالة بينهم عن 83 في المئة، وهم من الفئات الأكثر فقرا في المجتمع. ونتيجة ذلك، يضطر الأشخاص المعوقون للاعتماد على الآخرين في حياتهم، مسلوبي حرية القرار وتحقيق الذات، والعيش بكرامة واستقلالية: “وهذا في الواقع إفقار وحرمان من أبسط الحقوق التي ينص عليها الدستور والقوانين المرعية الإجراء والشرائع الدولية”.

وتعلن اللقيس ان منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة ترمي إلى تشكيل مجلس وطني للبيئة الدامجة له ميزانيته الخاصة ومجلسه التنفيذي في يوم من الأيام، اما اليوم، فعلى الوزارات المعنية أن تلعب دورها في حصول الشخص المعوق على حقه في البيئة الدامجة في جميع المشاريع المطروحة، وكذلك على البلديات والتنظيم المدني، وأن يتبع ذلك تدقيق مركزي، مؤكدة أنه “لا بد أن يناط بجمعيات الأشخاص المعوقين دور رصد المشاريع ومراقبة حسن تنفيذها، فلا شيء عنا من دوننا”.

واذ تدعو الى ضرورة إدراج البيئة الدامجة كمادة أساسية مقررة في كليات الهندسة في الجامعة الوطنية والجامعات الخاصة كي يحظى مهندسو المستقبل بالمعرفة الكافية التي تحترم حقوق الإنسان، توصي اللقيس النواب التغييرين بالعمل على “تطبيق الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والعمل جنبا إلى جنب كي نخرج بمشروع قانون حديث يتواءم مع التقدم العالمي على صعيد الحقوق”.  

ياسين: نعمل على الزامية تطبيق البناء الدامج

“نقابة المهندسين حاضرة في قضايا الإنسان والمجتمع، وقضايا الشأن العام على مختلف الأصعدة”، وفق  نقيب المهندسين في بيروت عارف ياسين الذي يعتبر أن المرصد خطوة ضرورية تساهم عبرها النقابة في تمكين المواطنين المعوقين من تأمين حقهم الطبيعي في بيئة هندسية آمنة ودامجة، وصولا إلى حقوقهم الطبيعية، “وهذا من أولويات عملنا كنقابة”. ويوضح ياسين أن المرصد يهدف إلى رصد ومتابعة كل القضايا المتعلقة بحاجات الأشخاص المعوّقين حركياً خصوصاً تلك المتعلقة بقوانين وأنظمة البناء والمراسيم التطبيقية المتعلقة بها، وأيضاً متابعة تطور البيئة المبنية بشكل عام ومدى ملاءمتها لتلبية حاجات المعوقين حركياً، وخصوصاً العمل على تطبيق المرسوم الرقم 7194/2009 علماً ان القانون رقم 220 المتعلق بحقوق الأشخاص المعوقين حركياً صدر سنة 2000 أي منذ 22 سنة ولم يطبق حتى الآن بشكل منتظم وشامل. ويؤكد ياسين انه منذ سنوات بدأ العمل في النقابة على هذا الموضوع والآن نعمل ليصبح قيد التنفيذ عبر الزامية تطبيق مواصفات ومعايير البناء الدامج الذي يلبي حاجات الأشخاص المعوّقين، عبر تطبيقها في الخرائط المعمارية والهندسية قبل الحصول على الترخيص اللازم للبدء بتنفيذ البناء.

البيئة الدامجة ليست مزاجا بل قوانين يجب تطبيقها

في العام 2019 في عهد النقيب السابق جاد تابت تُرجِم الدليل الهندسي إلى اللغة العربية, سبق أن صدر التقرير في العام 2012 في عهد النقيب بلال العلايلي باللغة الفرنسية بالتنسيق مع مؤسسة “ليبنور”. ليعزز مكتبة النقابة بمراجع علمية يستند اليها المهندسون. واليوم في العام 2022 تمظهر هذا التراكم الطويل عملياً عبر إطلاق مرصد البيئة المبنية الدامجة.

ويشير مقرر لجنة البيئة الدامجة في نقابة المهندسين المعماري بشار عبد الصمد الى  تلك “المرحلة العريضة التي اشترك فيها أناس على مدى 23 سنة، لنصل الى مستوى انجاز مرصد البيئة الدامجة، لنؤكد أهمية موقع نقابة المهندسين كإحدى المنصات الأساسية لاحتضان قضايا الرأي العام، قضايا الناس، وإبراز قدرة النقابة من موقعها العلمي والفني والمهني على احتضان قضايا الناس وتكريس معرفتها في سبيل سعادتهم”.

 ويؤكد عبد الصمد إلى “أن حقوق أي إنسان في التنقل والعمل والمعرفة والإستشفاء والتنزه  والتعبير عن الموقف السياسي، هي حقوق  أقرتها كل الشرائع الدولية والدستورية والقوانين”، مشدداً على أن تثبيت هذه الحقوق يجب ان يقترن بإمكانية استخدامها والتمتع بها”.

ويجزم “بأن الإعاقة هي التي تربّط البيئة المعيقة وليس الأشخاص ذوي الإعاقة، ويجب أن يكون التصميم مبنيا على هذه النظرية في دمج البيئة المبنية، لأن الأغلبية غير معتادة على معرفة يومياتنا”. ويعتبر أن “الكلام عن الحقوق وعدم الاختلاف حولها، يجب ان ينعكس على البيئة المبنية وعلى الأماكن الوظيفية التي تحتضن هذه الأنشطة البشرية”.

ويتوقف عبد الصمد عند ما يسميه “معادلة مركبة”، ليرى أنه “عند وجود ثقافة دمج يجب أن يكون هناك بيئة دامجة تستند الى الحقوق فنبني بشكل يسمح باستخدام البيئة المبنية والوصول إليها”، لافتاً إلى “أن حق الوصول وإنتاج البيئة الدامجة ليس قرارا او مزاجاً أو وعياً شخصياً موجوداً عند الناس فقط، بل قوانين يجب أن تُطبق”. ويرى أن “موقعنا في النقابة يكمن في بناء الدولة حسب القوانين”، لافتاً إلى أن “الناس لا يحميهم القانون، إنما المهندس الذي يلحظ القوانين، ولا نستطيع الفرض في حال لم يكن هناك حماية من القانون الذي هو جزء من ثقافتنا”.  

ويصر على ان ثقافة الدمج تخرج من الفهم الرعائي لها والبناء الريعي ومن كيفية تطوير الربحية بالعمار:  “إن نسبة من المجتمع عندما تستطيع الانخراط في دورة العمل وبالتالي تحفيز الدورة الإقتصادية وتنوع الاستجابة لها والتخفيف من الموازنات المفروزة للرعاية الاجتماعية وتعميم أكثر القيم الاجتماعية القائمة على قبول الآخر بتنوع الحاجات والقدرات والآراء، على حساب الإقصاء والعزل ووضع العلوم في خدمة الإنسان وسعادته”.

وعن دور المرصد، يوضح عبد الصمد انه سيواكب  مسار الترخيص داخل النقابة للمباني التي تسري عليها مفاعيل المرسوم 7194، والالية في الجهاز الفني، إضافة إلى نشر المراسيم والدليل على صفحة النقابة وتطوير الانظمة والمعايير الفنية الدامجة فضلا عن ورش عمل لاقتراح مراسيم مباني المدارس الرسمية وإنتاج آلية مستدامة لمواكبة التنفيذ، لدى الأجهزة الفنية الرقابية، وتنظيم مدني، واتحادات البلديات، الأجهزة الفنية في الوزارات ذات الصلة ونشر ثقافة الدمج في كليات العمارة، وتنظيم ورش عمل لإدراج معايير الدمج في المناهج وتدريب المهندسين من خلال دورات خريطة البيئة المبنية الدامجة وبناء شراكات ، وتطوير الأنظمة والمعايير الفنية. كما وضع  آلية عمل المرصد، وفريقه المكون من النقابة والاتحاد، وآلية مراقبته حسن تطبيق المرسوم 7194/2009، وآلية تلقيه الشكاوى عبر الخط الساخن والتطبيق الخاص الذي يجري العمل على إنهائه، وأساليب تدخله مع مخالفات البناء، والتقارير الدورية التي ستصدر عنه والتي ستنشر تباعًا بالتعاون بين النقابة وإتحاد المعوقين حركيا”.

Access kitchen

انتهى اللقاء بحفل كوكتيل اقامه المطبخ المجتمعي acccess kitchen   الذي تديره نحو  60 سيدة من النساء من ذوي الإعاقة اللواتي تدربن تحت مظلة الاتحاد اللبناني للاشخاص المعوقين حركيا، وكن قد حرمن من حقهن بالعمل لسنوات، واليوم اصبحن يصنعن المنتجات، ويطبخن اشهى الأطباق بعد أن اختفت العوائق الهندسية، لينتجن “أطيب لقمة” كما أجمع الحاضرون.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، مرسوم ، الحق في الوصول إلى المعلومات ، حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة ، فئات مهمشة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني