مرسوم نِسب الفائدة المشطة: تحرير لسطوة البنوك ورضوخ لصندوق النقد الدولي


2022-11-03    |   

مرسوم نِسب الفائدة المشطة: تحرير لسطوة البنوك ورضوخ لصندوق النقد الدولي
قيس سعيد و محافظ البنك المركزي مروان العباسي (من صفحة الرئاسة التونسية)

أصبح المشهد معتادا. مراسيم تصدر مباشرة في الرائد الرسمي، من دون أيّ نقاش، تتضمن إجراءات تمسّ مباشرة بحقوق الناس. نصوص لم يتسنّ تمريرها في زمن الديمقراطيّة، فتسلّلت تحت سلطة المراسيم الفرديّة. صدر الرائد الرسمي يوم الجمعة 21 أكتوبر 2022 في غفلة من الجميع، متضمّنا أربعة مراسيم. أوّلها المرسوم 65 الذي نقّح قانون الانتزاع من أجل المصلحة العمومية، بهدف تسهيل إجراءات الانتزاع التي كثيرا ما تقدّم كأحد أسباب تعطّل إنجاز الاستثمارات العموميّة الكبرى. وآخرها المرسوم 68 الذي حمل عنوان أحكام خاصة “لتحسين نجاعة إنجاز المشاريع العمومية والخاصة”، فأوجد نظاما استثنائيا للصفقات العمومية، ومضى قدما في مسار خوصصة إنتاج الطاقة الكهربائيّة باسم الطاقات المتجددة، وألغى العقبات الموجودة أمام الملكيّة الأجنبية للعقارات السكنيّة باسم “دعم الاستثمار في السكن والقطاع العقاري”، وفَتَحَ للأجانب ملكيّة الأراضي الفلاحيّة أيضا، بعد أن سقطت محاولات تمرير هذا الإجراء في البرلمان ثلاث مرّات في السنوات الأخيرة.

لكنّ المرسوم الذي يهمّنا في هذا المقال، هو المرسوم عدد 67، المتعلّق بتنقيح وإتمام القانون عدد 64 لسنة 1999 المؤرخ في 15 جويلية 1999 المتعلق بنسبة الفائدة المشطّة. كالعادة، كان التعامل الإعلامي مع هذا المرسوم سطحيّا، كي لا نقول مضلّلا، إذ وقع تقديمه على أنّه “يفرض عقوبات على نسب الفائدة المشطّة” ويعطي للحريف حقّ “معرفة نسبة الفائدة الفعليّة على القروض”[1]. يكفي الرجوع إلى قانون 1999 وتتبّع التنقيحات المدخلة عليه بهذا المرسوم لكي نعرف أنّ موضوعه هو العكس تماما. لكنّ فهم رهانات هذا النصّ وأسبابه يستوجب كذلك العودة إلى مشروع القانون المقدّم سنة 2017 والذي كان يتضمّن الأحكام ذاتها، ورفضت حينها لجنة المالية بالبرلمان تمريره، وإلى وثائق التزامات تونس السابقة مع صندوق النقد الدولي، وأدبيات هذه المؤسسة حول الموضوع.

فالمرسوم الذي صدر أياما قليلة بعد التوصّل إلى اتفاق قرض جديد بـ 1.9 مليار دولار على مستوى خبراء الصندوق، في انتظار موافقة مجلسه التنفيذي، هو قبل كلّ شيء دفعة أولى من الإجراءات التي ستتسارع وتيرتها في الأشهر القادمة، ومن بينها رفع الدفع وخوصصة بعض المؤسسات العموميّة، في تناقض صارخ مع الخطابات السيادويّة والاجتماعيّة التي يصمّ بها الرئيس آذاننا يوميّا.

قانون 1999، فرملة لسياسة التحرير البنكي

خلافا للتعاطي الإعلامي معه، لم يُحدث مرسوم سعيّد رقابة جديدة على نسب الفائدة أو حقوقا إضافيّة للحرفاء. فالتأطير القانوني لنسب الفائدة المشطّة قائم ليس فقط منذ 1999، تاريخ إصدار القانون الذي نقّحه مرسوم سعيّد، بل منذ ثلاثينات القرن الماضي على الأقلّ[2]. وقد مرّ الإطار التشريعي لنسب الفائدة بتقلّبات عديدة عكست تطوّر السياقيْن السياسي والاقتصادي. فبعد أن أسّست دولة الاستقلال منظومة بنكيّة تونسيّة، وحذفت في 1959 الأحكام المتعلّقة ببطلان شرط الفائض “بين المسلمين” من مجلة الالتزامات والعقود، اتّسمت العقود الثلاثة الموالية بتدخّل مباشر للدولة في ضبط الأسعار ونسب الفائدة، عبر البنك المركزي التونسي[3]. تواصل ذلك إلى غاية نهاية الثمانينات، بعد أزمة الديون العالميّة التي أدّت إلى إقرار برنامج الإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد الدولي في 1986، وهي بالمناسبة، السنة التي يعتبرها أستاذ الاقتصاد السياسي بكار غريب، اللحظة المفصليّة التي ينبغي قراءة الاقتصاد السياسي في تونس وتقسيمه وفقها، خلافا للقراءات المهيمنة التي تركّز على بداية السبعينات كلحظة التحوّل[4]. بدأ البنك المركزي، منذ 1991، تدريجيّا في تحرير نسب الفائدة، خصوصا عبر المنشور عدد 8 لسنة 1994، الذي عمّم مبدأ حرية الأطراف على كلّ القروض بمختلف أنواعها[5].

لكن سرعان ما ظهرت حدود هذا التوجّه. فقد كانت حريّة الأطراف تعني في الواقع حريّة الطرف الأقوى، أي البنك أو المؤسسة المقرضة، في استغلال الطرف الأضعف، أي الحريف. إذ لم تكتفِ البنوك بالترفيع في النقاط المضافة على النسبة المرجعيّة، وهي نسبة الفائدة المديريّة (TMM)، وإنما عمدت كذلك إلى فرض عمولات إضافيّة متنوّعة تؤدّي إلى إثقال كاهل الحرفاء واستغلالهم، حيث تصبح كلفة القرض أكبر بكثير من نسبة الفائدة المتفق عليها[6]. كما أدّى انتشار ظاهرة “البيع بالتقسيط” إلى تجاوزات مماثلة، على الرغم من تأطيرها بقانون 2 جوان 1998. دفع ذلك المشرّع إلى التدخل لحماية الحرفاء، عبر القانون عدد 64 لسنة 1999 المتعلّق بنسب الفائدة المشطة، والذي اعتمد تعريفا واسعا للقروض، يشمل عمليات البيع بالتقسيط[7].

حدّد قانون 1999 هامشا لنسب الفائدة، لا يجب أن يتجاوز “معدّل نسبة الفائدة الفعليّة المطبّقة خلال السداسية السابقة من قبل البنوك والمؤسسات المالية بالنسبة للعمليات من نفس النوع” بأكثر من الثلث. ويضبط “المعدّل” المرجعي حسب أصناف القروض، من طرف البنك المركزي، انطلاقا من المعطيات المحالة إليه من المؤسسات البنكيّة، وينشر في كلّ سداسيّة بقرار من وزير الماليّة. وقد اعتمد القانون مفهوم “نسبة الفائدة الفعلية الجُملية”، التي لا تقتصر على “الفوائض” بالمعنى الشكلي الضيّق، وإنما تشمل كذلك “المصاريف والعمولات والتأجيرات المباشرة وغير المباشرة المرتبطة بإسناد القرض، عدا المستثناة بأمر”، وذلك بهدف حماية الحرفاء من نزوع البنوك نحو الفوائض المقنّعة. كما ألزم المؤسسات المقرضة بالتنصيص على “نسبة الفائدة الفعلية الجمليّة” في عقد القرض، ورتّب عقوبة جزائيّة على غياب التنصيص عليها، بالإضافة إلى تطبيق “معدّل نسبة الفائدة الفعليّة” على القرض المعني.

أمّا في صورة إسداء قرض بنسبة فائدة مشطّة، فقد رتّب القانون جزاءً مدنيا وآخر جزائيّا. الأوّل يتمثّل في إرجاع المبالغ التي وقع قبضها من دون موجب، وتطبيق “نسبة الفائدة القانونيّة” المنصوص عليها في مجلة الالتزامات والعقود[8]. والثاني تضمّن عقوبة بالسجن لمدّة 6 أشهر و/أو بخطيّة ماليّة، تنطبق على الأشخاص المسؤولين عن إسداء القرض داخل الذوات المعنوية كالبنوك، بالإضافة إلى عقوبة تكميليّة تتمثّل في التشهير بالمؤسسات المُدانة عبر الصحافة.

وقد وقع تنقيح القانون سنة 2008، للنزول بهامش الفائدة المتاح إلى الخُمس، من دون المساس بطريقة احتساب المعدّل أو ببقيّة الأحكام. استند التنقيح حينها إلى أنّ معدّلات الفائدة، رغم انخفاضها في معظم أصناف القروض بفضل قانون 1999، ظلت مرتفعة في بعضها، وبالتحديد “الكشوفات” و”قروض الاستهلاك” حيث كانت المعدّلات تناهز 10%. يدلّ ذلك على أنّ تقييم سياسة تسقيف نسب الفائدة، بعد مضيّ 9 سنوات من إقراره، كان إيجابيّا، على الرغم من الشكوك الموجودة حول مدى الالتزام به في الواقع ونجاعة الرقابة. إذ لم يسجّل البنك المركزي حينها، حسب إجابة الحكومة على أسئلة بعض النواب، أيّة مخالفة في هذا المجال[9].

تنقيحات 2022: الرهان الأساسي تحرير أسعار الفائدة

تضمّن المرسوم 57 لسنة 2022 أربعة تنقيحات لقانون 1999:

الأوّل شمل العنوان وعددا من الفصول، ويهدف إلى إدماج مؤسسات الصيرفة الإسلامية، التي تستعمل تقنيات تمويل خاصّة بها، قائمة على حيل دينيّة لكي لا تصنّف كربى. فهي لا تستخلص “فائدة” وإنما “ربحا”، حتّى وإن كانت النتيجة على الحريف هي ذاتها بل وأحيانا أكثر كلفة. هذا التنقيح الأوّل لا يطرح إشكالا.

أمّا التنقيح الثاني، فهو حذف العقوبة السجنيّة لمن يسدي قرضا بنسبة فائدة أو ربح مشطّة، في موازاة ترفيع الخطيّة الماليّة بعشرة أضعاف، إلى ما بين 30 ألف و100 ألف دينار.

كما عدّل المرسوم الجزاء المدني للقرض بفائدة مشطّة، عبر استبدال “نسبة الفائدة القانونيّة”، المنصوص عليها في مجلة الالتزامات والعقود، بالمعدّل المرجعي المنظّم في قانون 1999 ذاته، وهو أيضا تنقيح معقول.

لكنّ الرهان الأساسي للمرسوم لا يكمن في هذه التنقيحات، وإنّما في تنقيح الفصل الأوّل الذي يعرّف هامش الفائدة المشطّة. فقد حذف المرسوم التحديد التشريعي للهامش، أي 20% منذ 2008، واكتفى بالإحالة على أمر حكومي يحدّد الهوامش المسموح بها حسب أصناف التمويلات والمنتفعين. بذلك، يفتح المرسوم الجديد الباب لتحرير نسب الفائدة تدريجيّا، تماشيا مع الالتزامات المقدّمة لصندوق النقد الدولي. وإذ صدر المرسوم، كالعادة، من دون أي تواصل رئاسي أو حكومي يوضّح سياسة الدولة في هذا المجال وأسباب هذا التنقيح، فإنّ العودة إلى مشروع القانون المقدّم من الحكومة في 2017، وإلى التزامات الحكومة مع صندوق النقد الدولي، هي الكفيلة بتوضيح التوجه.

فقد حمل مشروع القانون المقدّم إلى البرلمان في 23 مارس 2017 تقريبا التنقيحات ذاتها، باستثناء ما يتعلّق بـ “نسبة الفائدة القانونيّة” ومبالغ الخطيّة. وقد ورد في شرح أسبابه، أنّ الهدف الأساسي هو “إضفاء أكثر مرونة على نسبة الفائدة المشطّة” وتحديده حسب أصناف المنتفعين. عمليا، اقترحت الحكومة حينها الترفيع تدريجيا في الهامش المطبّق على الأشخاص الطبيعيّين ليبلغ 33%، وكذلك الأمر في مرحلة أولى بسنتين بالنسبة للمهنيّين والمؤسسات المتناهية الصغر، يتلوها ترفيع جديد لم تحدّد سقفه. أمّا بالنسبة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة والكبرى، فالتوجّه المعلن حينها هو رفع السقف تماما. وتشكّل هذه الإجراءات التفصيليّة، حسب وثيقة شرح الأسباب ذاتها، تطبيقًا حرفيّا لتوصيات وردت في “دراسة للبنك الدولي حول تشخيص المنظومة الحاليّة”. وقد خلصت هذه “الدراسة” إلى أنّ تسقيف أسعار الفائدة هو الذي يحدّ من نفاذ المؤسسات الصغرى والمتوسطة إلى القروض. وفق هذه الرؤية، فإنّ البنوك، أمام استحالة إدماج قيمة المخاطرة عند احتساب تكلفة القرض نظرا للسقف القانوني، تضطرّ إلى الامتناع عن إقراض المؤسسات المشكوك في مدى قدرتها على التسديد في الآجال. فالحلّ الوحيد لتعزيز النفاذ إلى القروض، يكون تاليا تحرير أسعار الفائدة. هكذا يصبح تدخّل الدولة في تسقيف نسب الفائدة، تشويها لآليات السوق الكفيلة وحدها بضمان النجاعة الاقتصاديّة، والتي من شأنها أن تدفع المؤسسات الاقتصاديّة والبنكيّة إلى تطوير نفسها ومنتجاتها.

اكتفت الحكومة، في شرح الأسباب، بالإحالة إلى “دراسة البنك الدولي”، التي لم تنشر ولم تقدّم أيّ تفاصيل حولها. لكنّنا وجدنا إشارة إلى هذه الدراسة، في مذكرة السياسات الاقتصادية والماليّة التي أرسلتها الحكومة التونسية سنة 2014 لصندوق النقد الدولي. لا يتعلّق الأمر بدراسة شاملة للمنظومة البنكيّة وسبل إصلاحها، وإنّما بـ “دراسة جدوى لرفع تسقيف نسب الفائدة المشطّة للمؤسسات، وترفيع النسبة للخواصّ”، أجريت تحت “المرافقة التقنيّة” للبنك الدولي، وعرضت على مجلس إدارة البنك المركزي في مارس 2014. وقد أوصى البنك المركزي حينها بتوسيع المشاورات مع الأطراف الحكوميّة، على أن يتمّ إعداد مشروع القانون وإقراره في السنة ذاتها، حسب الالتزام المقدّم لصندوق النقد الدولي. كان واضحا إذًا أنّ الأمر يتعلّق بتوصية نبعت عن صندوق النقد الدولي، التزمت بها الحكومة من دون اقتناع كبير بجدواها، فحاولت المماطلة في تمريرها. فقد تطلّب مشروع القانون، على بساطة التنقيحات، ثلاث سنوات كاملة ليودع في البرلمان، في حين تمّت صياغة وتمرير نصوص أخرى أعقد بكثير وكانت هي الأخرى في حزمة شروط المانحين الدوليين، كالقانون المنظم للبنك المركزي أو القانون المنظم للبنوك، بنسق أسرع بكثير.

أمّا لجنة الماليّة، فقد أجمع أعضاؤها من مختلف الكتل، على أنّ الأسباب المرفقة بمشروع القانون غير مقنعة، وأنّ المتضرّر الأكبر منه سيكون الحريف. برز ذلك خلال جلسات الاستماع لممثلي الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمة التونسية للدفاع عن المستهلك، فكانت النتيجة تجميد النظر في المشروع، على الرغم من تأكيد الحكومة في رسالة النوايا المقدّمة لصندوق النقد الدولي في مارس 2018 و”مذكّرة السياسات الاقتصادية والمالية” المصاحبة لها، التزامها بأن يصادق البرلمان على القانون في شهر ماي من السنة ذاتها. في هذه الأثناء، واصلت كلفة القروض ارتفاعها، بفعل ارتفاع نسبة الفائدة المديريّة الذي ينعكس مباشرة على نسبة الفائدة في السوق النقديّة. ويعتبر تقرير للمرصد التونسي للاقتصاد أنّ لجوء البنك المركزي للترفيع في نسبة الفائدة المديريّة، باسم مكافحة التضخم، بدل التعويل على آلية “الاحتياطات الوجوبيّة” التي كان في السابق يحبّذها، كان بضغط من صندوق النقد الدولي في إطار الإعداد لتحرير أسعار الفائدة[10].

وصفة إيديولوجيّة جاهزة

رغم حرصه على ربط تحرير أسعار الفائدة، بمعضلة نفاذ المؤسسات الصغرى والمتوسطة إلى القروض البنكيّة، لم ينبنِ المقترح على تشخيص دقيق للمشكل ولا لمنظومة التمويل في تونس. وإنّما يبدو الأمر، بالإطلاع على أدبيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كموقف إيديولوجي حاسم وصالح لكلّ السياقات. فعلى الرغم من غياب إجماع بين المختصّين في الاقتصاد حول آثار تأطير أسعار الفائدة، إذ نجد دراسات تدافع عن الموقف ونقيضه[11]، لا نجد سوى رأي واحد مستقرّ وقاطع لدى مؤسسات بريتون وودز. على سبيل المثال، حين تستعرض ورقة لصندوق النقد الدولي بعض التجارب المقارنة، فإنّه يركّز على المثال الكيني الذي أدّى منذ 2016، وفق خبراء الصندوق، إلى صعوبات في التمويل للمؤسسات الصغرى والمتوسطة. أمّا حين تبرز المعطيات استنتاجات معاكسة بخصوص التجربة البوليفيّة التي سبقتها بثلاث سنوات، والتي اعتمدت في الوقت ذاته تحديدًا لأسعار الفائدة، مع نظام “الكوتا” الذي يجبر البنوك على تخصيص حصّة لكلّ صنف من المقترضين، فإنّ الخبراء يصرّون على أنّ العواقب الوخيمة قادمة لا محالة[12].

كذلك الأمر لدى البنك الدولي. ففي حين تقرّ ورقة حول تسقيف أسعار الفائدة[13]، أنّ المبدأ مستعمل في أكثر من 70 دولة تغطي أكثر من 80% من الناتج العالمي، من بينها اقتصاديات ليبرالية متقدّمة، وأنّ التوجّه العالمي يسير في السنوات الأخيرة نحو التسقيف وليس نحو رفعه، فإنّها تصرّ على أنّ سلبيات هذه الإجراءات أكبر بكثير من إيجابياتها المفترضة. من ذلك الترفيع في العمولات والتكاليف الأخرى وضعف الشفافية من قبل البنوك، صعوبة نفاذ صغار المقترضين للتمويل البنكي، أو إضعاف ربحيّة القطاع البنكي.

أمّا في تونس، فيصعب الحديث عن ضعف مردوديّة القطاع البنكي الذي يحقّق أرباحا استثنائيّة في السنوات الأخيرة، جزء منهامدعوممن الدولة، حريفه الأبرز. أمّا استغلال البنوك لحرفائها عبر عمولات كثيرة لا تنفكّ عن الارتفاع، فيعود إلى تشكّل البنوك، بما فيها العموميّة، في كارتيل يوحّد أسعار خدماته مستغلاّ ضعف رقابة البنك المركزي ومجلس المنافسة، مما يفقد “المنافسة” فائدتها المفترضة على الحريف. كارتيلٌ استقبل الرئيس ممثليه بعد شهر من انقلابه على الدستور، وشكرهم على منّتهم المتمثّلة في “مساهمة” طوعيّة بـ160 مليون دينار لفائدة المجموعة الوطنيّة، ووعدهم بأنّه “لا مجال للمساس بحقوق وممتلكات رجال الأعمال والمستثمرين الذين يحترمون القانون أو التنكيل بهم أو تقييد نشاطهم”. لكنّ ما يهمّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هو رفع سقف أسعار الفائدة، وتشجيع نشاط “الاستعلام الائتماني” الذي سيمكّن البنوك من تكييف قروضها حسب الحرفاء[14]، وهو ما استجاب له سعيّد عبر المرسوم عدد 2 لسنة 2022، ومؤخرا عبر المرسوم 67. فنفاذ المؤسسات الصغرى والمتوسطة للقروض يمرّ بالضرورة، وفق هذه “الدوكسا”، عبر تمكين البنوك من فرض نسب فائدة عالية عليها، وليس عبر تخصيص صناديق ضمان مثلا كما تقترح الحكومة نفسها في برنامجها، أو تخصيص حصص إجباريّة على البنوك، كما فعلت بوليفيا، أو عبر توفير أكثر سيولة بنكيّة؟ 

إيديولوجيا السوق التي تترجمها توصيات صندوق النقد الدولي، ترى الخطر الأكبر في تدخّل الدولة وفي المساس بمنطق العرض والطلب. هي الفلسفة ذاتها التي تقوده إلى اشتراط رفع الدعم على الموادّ الأساسيّة كأولوية مطلقة، على الرغم من ضعف تأثيره على التوازنات الماليّة ومن أهمّيته القصوى للغالبيّة الساحقة من الناس وليس فقط للأكثر فقرا. لكنّ تعطّل العقل الحاكم في تونس، وغياب أيّ رؤية إصلاحيّة لديه، وضعف الجبهة الداخليّة نتيجة الاستفراد بالسلطة واستعداء كل من لا يقدّم الطاعة، جميعها عوامل تؤدي إلى رضوخ مطلق لشروط يرى أصحابها أنّها صالحة لكلّ زمان ومكان. وفق هذه الإيديولوجيا، السوق قادرة على تعديل ذاتها بذاتها وتحقيق المنفعة للجميع عبر “يد خفيّة”. ولا يهمّ إن كان صاحب استعارة “اليد الخفيّة”، وأبرز ملهمي الليبرالية الاقتصاديّة، أدام سميث، قد دافع هو نفسه على مبدأ تسقيف أسعار الفائدة[15]. فالأورثوذوكسية كثيرا ما تتجاوز أنبياءها. كما لا يهمّ إن احتاج تطبيق الليبرالية الاقتصاديّة، أساليب تناقض مبادئ الليبرالية السياسيّة، عبر مراسيم فرديّة فوقيّة ليس فيها للشعب كلمة، بل ولا يعلم بها إلا بعد صدورها. فالحكم الفرديّ هو أفضل طريقة لتمرير الإجراءات “الموجعة” واللااجتماعيّة، التي عطّلت الديمقراطيّة المشوّهة والمريضة إنفاذها.


[1] ورد هذان العنوانان ضمن تغطية موقع إذاعة موزاييك اف ام، وهو الموقع الإخباري الأكثر زيارة في تونس، لموضوع المرسوم. 

[2] لأكثر تفاصيل أنظر فاخر بن سالم، “القرض بفائدة مشطة”، الأخبار القانونيّة، عدد 8/9 سبتمبر 2006، ص 6-13.

[3] Bouzid Amaira, Réformes et performances du système financier tunisien, Notes et analyses de l’ITCEQ, N° 46, 2017, p. 4.

[4] Baccar Gherib, «Les classes moyennes tunisiennes entre mythe et réalité. Éléments pour une mise en perspective historique», L’Année du Maghreb, 2011.

[5] سامية حمودة، الجزاء المدني للقرض بفائض مشّط، مذكرة ماجستير في القانون الخاصّ، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس.

[6] المصدر ذاته.

[7] الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، مداولات مجلس النواب، 1999، عدد 42 – جلسة الثلاثاء 6 جويلية 1999، ص. 2185.

[8] تنظّم مجلة الالتزامات والعقود في الفصول 1096 إلى 1103 “القرض بفائض”، في المادّتين المدنيّة والتجاريّة. وينصّ الفصل 1100 على نسبة فائض قانونيّة تنطبق في صورة سكوت الأطراف عن تحديد النسبة، وهي 7% في المادّة المدنيّة، وفي المادّة التجارية، النسبة القصوى للاعتمادات البنكية المقررة من طرف البنك المركزي مع إضافة نصف نقطة. للمزيد حول نظام مجلّة الالتزامات والعقود وعلاقته بقانون 1999، أنظر:
El Arbi Zarrouk, “Le taux d’intérêt bancaire”, Infos juridique n 48/49, Juin 2008, p. 10 et s. 

[9] الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، مداولات مجلس النواب، 2008، عدد 40 – جلسة السبت 19 جويلية 2008، ص. 1725.

[10] Chafik Ben Rouine, L’indépendance de la Banque Centrale Tunisienne : enjeux et impacts sur le système financier tunisien, OTE working paper, 2016.

[11] Cem Eyerci, The Causes and Consequences of Interest Theory. Analyzing Interest through Conventional and Islamic Economics, Palgrave Macmillan, p. 4.

[12] Jafarov, Maino, Pani, Financial Repression is Knocking at the Door, Again. Should we be concerned?, IMF working paper, 2019.

[13] Ferrari, Masetti, Ren, “Interest Rates Cap. The theory and the practice”, Policy research working paper, World Bank, 2018.

[14] Banque mondiale, Tunisie, Bulletin de conjoncture, Réformes économiques pour sortir de la crise, Hiver 2021.

[15] Giuseppe Coco & David De Meza, “In Defense of Usury Laws,” Journal of Money, Credit and Banking, Blackwell Publishing, vol. 41(8), 2009, p. 1691.

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، مصارف ، تشريعات وقوانين ، إقتراح قانون ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني