“مبادرة الإنقاذ”: أية آفاق للنجاح؟


2023-01-24    |   

“مبادرة الإنقاذ”: أية آفاق للنجاح؟
الصورة من صفحة الهيئة الوطنية للمحامين تونس

لم يصل الإجماع على انسداد آفاق المسار السياسي الحالي في تونس إلى الدرجة التي بلغها خلال الشهرين الأخيرين. وكانت أهمّ العلامات الدالّة على ذلك نسبة المشاركة الضئيلة في الدور الأول من الانتخابات التشريعيّة. إزاء ذلك، تعدّدت المبادرات السياسيّة الهادفة إلى تجاوز المأزق السياسي مع انسحاب عدد من الأطراف الداعمة للرئيس قيس سعيد من المساندة التامّة وغير المشروطة للتوجّهات القائمة على مستوى الحكم. أبرز هذه المبادرات، وأكثرها تناولا واهتماما من الناحية الإعلامية، ما يُعرف ب”مبادرة الإنقاذ”، التي يشتغل على بلورتها كلّ من الاتّحاد العامّ التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، مع إمكانيّة التحاق عدد من المنظمات والأطراف الأخرى.

رغم تقديم هذا المشروع لنفسه كبديل عن التمشّي الحالي، فإن المبادرة لم تخرج بشكل عامّ عن مربّع  ما بعد 25 جويلية، حيث أعلن القائمون عليها عدم توجيهها للأحزاب السياسية وعدم تعاملها مع “من يعتبرون 25 جويلية انقلابا”. وهو ما يعني قبولا ضمنيّا بشروط السلطة السياسية القائمة. إلا أنه رغم كلّ هذه التنازلات، لا يبدو أن للرئيس قيس سعيّد استعدادا للتفاعل الإيجابي مع مقترحات المبادرة، وهو الطرف المعني أساسا بها، مما يطرح تساؤلات مشروعة حول جدية هذه المبادرة في جوهرها ومدى القدرة على التأسيس عليها.

مبادرة لم تُفصح بعد عن خطوطها العريضة

بين الهدنة الاجتماعيّة “غير المعلنة” وبدايات التصعيد خلال الآونة الأخيرة، تأرجح موقف الاتحاد العام التونسي للشغل من السلطة الحالية، وهو موقف يترجم حجم الضغوطات التي يتعرّض لها الاتحاد من قواعده خاصّة، وحدود التعامل مع الطرف الحكومي التي لم يستطع الاتحاد التوصّل إلى صيغة واضحة ومحدّدة تجاهها إلى اليوم. غير أن المتتبع لخطاب مسؤولي الاتحاد مؤخرا سيجد تحولا غير معتاد في اللهجة وصل حد التلويح باتخاذ خطوات تصعيديّة في حال “لم يتفاعل رئيس الدولة مع المبادرة” واعتبار الوضع السياسي الحالي بمثابة “المتسبب الأول في تأزم الأوضاع الاقتصاديّة”. بل وصل الأمر إلى حد دعوة الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي النقابيين للاستعداد لخوض “معركة وطنية لإنقاذ البلاد”. 

مع ذلك، لا تُبيّن مثل هذه التصريحات دخول الاتحاد وبعض الأطراف الأخرى المشاركة في المبادرة مرحلة المُعارضة الجذريّة لخيارات السلطة الحاليّة، بقدر ما تُحاول توفير طوق نجاة جديد لها. فما رجح إلى الآن من معلومات عن هذه المبادرة، لا يٌمكن قراءته إلا في إطار محاولات الترميم من داخل قواعد اللعبة التي وضعها سعيّد نفسه، بما فيها “دستور” 25 جويلية. وقد سبق لعميد المحامين حاتم المزيو أن عبّر عن هذا الطرح بشكل صريح حينما أكّد أن أطراف المبادرة “لا تريد لها أن تكون ضدّ النظام، بل هي مبادرة في إطار الإصلاح” على حدّ تعبيره. إلا أن ذلك لا ينفي توجّه الاتحاد العامّ التونسي للشغل، وهو الطرف الرئيسيّ في هذه المبادرة إلى اللجوء لعدد من الإضرابات، خصوصا منها في القطاعات الاستراتيجيّة للضغط على السلطة لإنجاحها. .

يمكن قراءة موقف الاتحاد عموما، في رغبته التمايز بشكل واضح عن المعارضة السياسيّة لسعيّد، وهو ما أفرز تماهيا موضوعيّا مع السلطة السياسيّة الحاليّة، إذ عبّر عدد من مسؤولي الاتحاد عن عدم تقديم المبادرة كوسيلة للعودة إلى “مسار ما قبل 25 جويلية” الذي وصفه سامي الطاهري الأمين العام المساعد للإتحاد في أحد تصريحاته بمسار “التسفير والنهب وتحويل الأموال”. تبقى هناك قراءة أخرى ممكنة، وهي أنّ المركزيّة النقابيّة تسعى، من خلال تبنّي شرط إقصاء الأحزاب السياسيّة عن المبادرة، إلى وضع الكرة في ملعب سعيّد وإحراجه، فإذا لم يتجاوب مع المبادرة، يكون ذلك حجّة إضافية للاتحاد ليمضي في التصعيد.

أمّا من حيث المضمون، فقد طرحت الأطراف المتبنّية للمبادرة خلال النقاشات الأوليّة عددا من البدائل على المستوى السياسي، ومن بينها بوجه خاصّ استقالة الحكومة الحاليّة وتكوين حكومة جديدة مُنفتحة على بعض القوى السياسية الأخرى والاتجاه نحو تعديل جديد للدستور والقانون الانتخابي. كما تمّ التعرّض لتوسيع مجال هذه الوثيقة في اتجاه تبني مشروع إنقاذ شامل على المستويين الاقتصاديّ والاجتماعيّ وتكليف عدد من الخبراء بصياغة ورقات سياسيّة في عدد من المجالات التقنيّة. إلا أنه لم يتمّ إلى الآن الإفصاح عن أرضية العمل المشتركة التي تنبني عليها مختلف هذه التصوّرات والبدائل.

تمثيليّة منقوصة للأطراف الاجتماعيّة

انضمّ المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والإجتماعيّة مؤخرا إلى قائمة الأطراف المتبنّية لهذه المبادرة، ويُعرف عن المنتدى تبنّيه لآراء متمايزة عن البقيّة، خصوصا من السلطة السياسيّة الحاليّة، وهو ما سيؤثّر حتما على مسار النقاشات داخل المبادرة. كما أعلن الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل “حفيظ حفيظ” انفتاح المبادرة على عدد من المنظّمات المهنيّة، ومن بينها عمادة الأطباء وعمادة المهندسين وعن إمكانيّة أن تحتوي هذه المبادرة أيضا على ممثلين من منظمات المجتمع المدنيّ المتقاربة مع الاتحاد العامّ التونسي للشغل.

غير أنّه من الملفت للانتباه، ما شهدته المبادرة من غياب واضح لفاعلين اجتماعيّين مهمين، من بينهم الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة، الذي كان أحد الأطراف الرئيسيّة الراعية لحوار 2014/2013 والاتحاد الوطني للمرأة التونسية. ففي حين تُشير بعض الكواليس إلى تواجد ممثلين عن منظّمة “كوناكت” لأصحاب الأعمال ضمن من شملتهم الاتصالات الأولية حول المبادرة، إلا أن غياب اتحاد الأعراف يطرحُ إلى الآن جملة من التساؤلات حول دوافع ذلك: فهل هو ناتج عن موقف مبدئي منه تجاه المُبادرة، أم من تخوّف منه في الانخراط في أيّ مشروع يُفهم منه اتخاذ مسافة من المسار الحالي، خصوصا مع بدء مسار الصلح الجزائيّ، الذي من المتوقّع أن يشمل عددا من أصحاب الأعمال المنضوين داخل الاتحاد؟

لا توجد إلى الآن إجابة قاطعة حول ذلك. لكن يمكن أن نضيف إلى التساؤلات السابقة، طبيعة العلاقة الحاليّة بين اتحاد الأعراف والاتحاد العامّ التونسي للشغل التي يبدو أنها ليست على أحسن حال خلال المرحلة الماضية، وهو عامل ستنعكس تفاعلاته بالتأكيد على مشاركة اتحاد الأعراف من عدمها في “مبادرة الإنقاذ”. وربما تكون الاتصالات الأخيرة بين رئيسي الاتحادين على هامش اجتماعات “النرويج” الأخيرة ضمن مسار الحوار الاجتماعيّ قد امتدّت إلى الحديث حول هذا الموضوع بالذات.

أما بالنسبة للاتحاد الوطني للمرأة التونسية، الذي لم توجّه له الدعوة بعد في هذه المبادرة حسب تصريح رئيسته “راضية الجربي”، فيُعرف عنه مواقفه التي تعتبر مساندة بقوّة لمسار 25 جويلية من دون اتخاذ أية مسافة نقديّة واضحة تجاهه. كما أنه كان إحدى المنظمات المشاركة في لجنة الحوار حول مشروع دستور سعيّد (حينذاك). ومثلُ هذه التوجّهات قد تعقّد من إيجاد أرضيّة تفاهم مع عدد من المكوّنات الأخرى للمبادرة، حتى في صورة توجيه الدعوة مستقبلا لاتحاد المرأة.

 وفي مقابل ذلك، لا تزال الصورة غير واضحة حول مشاركة الجمعية التونسيّة للنساء الديمقراطيات، وهي أحد أبرز الأطراف الممثلة للحركة النسوية ومن أكثرها استقلالية عن خيارات السلطة. إذ أثّرت جملة من الانقسامات داخلها على الحسم في بعض المواقف خلال المرحلة الماضية ومن جملتها الانضمام إلى “مبادرة الإنقاذ”.  

الأحزاب السياسيّة والمبادرة: في حضرة الغياب

رغم أن “مبادرة الإنقاذ” لم تتردد في إقصاء الأحزاب السياسية عنها، كسبيل ربّما لاستجداء رضا السلطة السياسية الحاليّة التي ترفض التعاطي الرسمي مع الأحزاب، أو على العكس لإقامة الحجّة عليها في صورة الرفض. إلا أنّه من المرجح انضمام بعض الشخصيّات السياسية التي شغلت مناصب سابقة في الدولة إلى المبادرة. وقد يتمّ الالتجاء إلى بعض الناشطين السياسيّين المستقلّين أو بعض القيادات الحزبيّة السابقة التي استقالت من أحزابها لتوفير حدّ أدنى من التمثيل السياسي. غير أن الموقف العام الذي عبّر عنه طيف واسع من الأحزاب السياسيّة، قد انبنى على التشكيك في جدوى توجيه هذه المبادرة إلى الرئيس، الذي تمادى في إصراره على رفض مختلف المبادرات التي لا تتسق مع مشروعه السياسي. بل تمّ الاستشهاد بمصير المبادرة السابقة التي قدّمها اتحاد الشغل قبل سنتين من الآن إلى سعيّد نفسه، إذ لم تؤدّ إلى أيّة نتيجة تذكر رغم إعلان الرئيس عن موافقته عليها حينذاك.

تطرح فكرة إقصاء الأحزاب من المبادرة عديد أوجه النقاش حول بواعث ذلك، فهل هي براغماتيّة من المنظمات الوطنيّة لتجاوز شروط السلطة حول الحوار؟ أم محاولة من هذه المنظمات لتصدّر المشهد القادم وإبعاد الأحزاب عن عمليّة صنع القرار السياسي بعد أن تمّ تحجيم دورها على المستوى الانتخابيّ؟ 

لا شكّ في أن الإقصاء متوافق من حيث المبدأ مع رؤية الرئيس السياسيّة التي تعتبر الأحزاب من بين أهم عوامل الفشل الذي طال التجربة الديمقراطية. غير أنه لا يمكن رمي مسؤولية كلّ ما طرأ في تلك المرحلة على عاتق الأحزاب وحدها من دون عدد من المنظمات الوطنية، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، التي لعبت دورا سياسيّا مباشرا، ليس فقط في إدارة عمليّة الانتقال الديمقراطي في السنوات الأولى بعد الثورة، وإنّما أيضا في تشكيل بعض الحكومات بعد ذلك. وبالتالي تقتضي المسؤولية الموضوعيّة تقديم المنظمات والمجتمع المدني لعدد من المراجعات حول تلك الفترة، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى اليوم. مما يعني أن حجة إقصاء الأحزاب بداعي المسؤولية المباشرة عن نتائج المراحل السابقة ستصبح حجّة غير مقنعة لأن مبرراتها تنسحب كذلك على  بعض المنظمات الوطنية. بل إن فكرة إبعاد الأحزاب ستُصبح غير منسجمة مع أهداف المبادرة نفسها التي تدعو للعودة إلى المسار الديمقراطي وتبني الخيارات التشاركيّة.

في المقابل، يُمكن قراءة عدم توجيه الدعوة إلى الأحزاب من منظور آخر. فربما تكون وسيلة من دُعاة المبادرة لإبعاد الأحزاب مرحليّا عن النقاشات، ثمّ التوجه إليها لاحقا في صورة رفض قيس سعيّد الاستجابة للحوار. وتطرحُ هذه الفرضيّة، في صورة تحقّقها، مراجعة علاقة الأحزاب السياسيّة ببعض أطراف المبادرة خلال المراحل السابقة وبناء عامل من الثقة بينها، إذ لا يزال شقّ مهم من المعارضة السياسية يعتبر المنظّمات الوطنيّة كأحد الأطراف التي اعتمدت عليها السلطة الحاليّة في تركيز دعائمها. كما أن عددا من المنظمات الوطنيّة (وخاصة الاتّحاد العام التونسي للشغل) لا يزال ينظر بعين الريبة إلى مواقف بعض الأحزاب وسبق أن بيّن في محطات عديدة التمايز معها وعدم تبنّي بدائلها السياسيّة. 

مثل هذا العامل قد يدفعنا إلى البحث في المعايير التي سيتمّ اتباعها في توجيه الدعوة إلى الأحزاب مستقبلا، وعن إمكانية دخول المبادرة في عمليّة فرز للأحزاب السياسية التي يمكنها المشاركة. 

على صعيد آخر، قد تُؤدي التداعيات الخطيرة لتردّي الوضع الاقتصاديّ والاجتماعي إلى الخروج من دائرة الاحتجاجات المنظّمة أو “المؤطّرة والمتحكّم فيها” من قبل الاتحاد أو غيره من المنظمات إلى أشكال أخرى من التحرّكات التلقائيّة التي قد تفرز مفاهيمها وأنماطها الخاصّة، لا سيّما وأن عديد المؤشرات تدلّ على تراجع ثقافة التنظّم التقليديّ وتضاؤل جاذبية ودور الهياكل الوسيطة، مما يمكن له أن يفقد المبادرة والأطراف المشاركة فيها العمق الاجتماعيّ المطلوب والمؤثّر في صورة محاولتها الضغط على السلطة بالالتجاء إلى الفعل الاحتجاجي أو التحركات الاجتماعيّة. بل قد تستعمل السّلطة كذلك ورقة التعدّدية النقابيّة، للتعامل مع منظّمات أخرى منافسة للاتحاد العام التونسي للشغل كوسيلة أخرى لاحتواء المبادرة أو الالتفاف عليها.

عموما، كبّلت هذه المبادرة نفسها بقيود عديدة قبل رؤيتها النور. ولعلّ أهمّها على الإطلاق إصرارها على طرح الحلول ضمن المسار الحاليّ وانتظارها لما سيُسفر عنه الدور الثاني من الانتخابات التشريعيّة من نتائج ورسائل سياسيّة، رغم إثبات “سعيّد” في مناسبات مختلفة المضيّ قدما في تنفيذ مشروعه السياسي من دون أدنى مراجعات أو استدراك. يُضاف إلى ذلك محدوديّة الإطار الذي اعتمدته المبادرة في دعوتها للأطراف المشاركة من خلال عدم الحرص على توسيع دائرة التشاور وإثرائها، وهو ما يطرح أسئلة عن الهدف من المبادرة في حدّ ذاتها إذا كانت تقدّم نفسها كبديل لانحرافات الحكم الفرديّ. فكيف يستقيم الحديث مثلا عن إصلاح المنظومة السياسيّة والعودة إلى المسار الديمقراطيّ، مع إقصاء الأحزاب السياسية من الحلّ؟ مثل هذه الخطوط الحمراء التي وضعتها المُبادرة، وغيرها، قد تضعف من مشروعيّتها السياسية ومن أدوات عملها وقابليّة مخرجاتها للتنفيذ.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني