صدر عن القضاء العسكري حكم غيابي بالحبس ثلاثة أشهر على الصحافيين آدم شمس الدين وفداء عيتاني، على خلفية تصريحات لهما على وسائل التواصل الاجتماعي. الحكم الذي صدر بتاريخ 7 آذار 2019 عن القاضي المنفرد العسكري في جبل لبنان العميد الركن أنطوان الحلبي، أدان هذه التصريحات على خلفية أنها مسيئة لسمعة جهاز أمني هو “أمن الدولة”. الحدث بحد ذاته مُستفزّ لأنه يشير إلى دخول لبنان رسميّا في نادي الدول التي تؤدي الكلمة فيها إلى عقوبات حبس طويلة الأمد.
لكن الحدث يزداد خطورة عند التدقيق في تفاصيله، وتحديدا في التفاصيل المتصلة بشمس الدين والتي أمكننا الاطلاع عليها. فنتيجة التدقيق في هذه التفاصيل، نستشفّ ليس فقط أن هذا الأخير لم يكتب ما يستدعي الملاحقة ومن باب أولى الإدانة، بل أن ما كتبه يستحقّ فائق الثناء والمكافأة. فمن البيّن أن شمس الدين هدف في تصريحه إلى الدفاع عن شخص محتجز تعسّفا في أضعف حالاته، في مواجهة قوى نافذة أباحت لنفسها استثمار ضعف هذا الشخص للترويج لذاتها وتعزيز نفوذها. وبذلك عبّر شمس الدين عن نخوة استثنائية (الدفاع عن شخص ليس له ملكة الدفاع عن نفسه)، نخوة في مواجهة سلوكيات قوة متنفذة أمكن وصفها من دون تجاوز أو تعسف بالنذالة.
انطلاقا من ذلك، ومن دون التقليل من خطورة حصول المحاكمة أمام المحكمة العسكرية، فإن أخطر ما يعكسه هو انقلاب القيم الاجتماعية المحدّدة لحرية التعبير، في اتجاه معاقبة “النخوة” (التي طالما كانت في رأس قيمنا) وصولا لتحصين سلوكيات غالبا ما كانت من منظور اجتماعي، محل استهجان شامل.
تبيانا لذلك، يجدر التذكير بداية بالقضية التي ورد التصريح في معرضها. وكانت هذه القضية بدأت فصولا في 18 تشرين الأول 2018 حين أوقف جهاز أمن الدولة شخصا يدير صالون تزيين ويجري عمليات وشم تاتو مع مساعده. وقد حصل التوقيف بناء على كتاب معلومات من مجهول، جاء فيه أنهما يجريان عمليات الوشم وهما مثليان ومصابان بفيروس نقص المناعة “الإيدز”، على نحو قد يؤدي إلى إصابة الزبائن بفعل الأبر التي يستخدمانها.
استمرّ الاحتجاز أكثر من عشرة أيام لدى جهاز أمن الدولة بقي خلالها الشخص المحتجز في عزلة تامة وغير قادر على الاتصال بأي من معارفه أو أقاربه أو محاميه. ولم يكشف عنها وتفاصيلها حتى تاريخ 29 تشرين الأول (أي بعد 12 يوما من توقيفهما) وذلك في برنامج “هوا الحرية” على قناة “أل.بي.سي”. وفي أعقاب هذا البرنامج، أصدرت مديرية أمن الدولة في تناغم تامّ معه بيانها الأول حول القضية والذي سمت فيه الشخصين وأوصافهما داعية كلّ الزبائن إلى إجراء فحوصات إيدز. وقد تعين على الشخصين أن ينتظرا 5 تشرين الثاني حتى تصدر الهيئة الاتهامية في بيروت قرارا بالإفراج عنهما، بعدما تثبتت أنه حتى تاريخه، لم تظهر أي إصابة بفعل أعمالهما، مما ينفي أي مبرر لتوقيفهما. وكانت “المفكرة” أشارت في مكان آخر أنه لا يُستبعد والحالة تلك أن يكون كتاب المعلومات قد أُرسل لغايات انتقامية أو شخصية بحتة، وهي غايات سارع جهاز أمن الدولة لخدمتها من خلال سلسلة من الانتهاكات بحقّ الشخص المذكور ورفيقيه.
ويُسجّل أن التصريح موضوع الإدانة صدر تبعاً لصدور بيان أمن الدولة، وبعد الكشف عن القضية في برنامج “هوا الحرية” وقبل صدور قرار الهيئة الإتهامية، أي أنه جرى في وقت كان يتم فيه نشر التحقيقات الأولية في قضية الشابين والتعرض لهما ووصمهما وهما محتجزان تعسفا من دون أن يكون لهما أي قدرة على الدفاع عن نفسيهما. وقد تضمّن التصريح نقدا واضحا لسلسلة المخالفات المرتكبة في معرض هذه القضية وأهمها مساعي أمن الدولة للترويج لصورته كمنقذ للمجتمع من المخاطر المحدقة به: “في شخص هلق مكبوب بأمن الدولة من 12 يوم وما تحول ملفو عالنيابه العامه حتى اللحظه، ذنبه الوحيد أنه عّم يشتغل بمصلحة بيعرف فيها كان بيعتقد أنه مرضه مش تهمة، وفِي أمنيين عّم يتحضرو يركبو نجمة زيادة على كتافن”. ويلحظ أن شمس الدين ذكر في معرض تصريحه بقضية زياد عيتاني والتي شهدت بدورها مخالفات جسيمة وانتهت إلى فضيحة لم ينسها بعد الرأي العام اللبناني.
تبعا لما تقدّم، أمكن القول بأن التصريح تضمن في ذاته تبريراته بالنظر إلى اعتبارات ثلاثة:
1- أن جلّ ما ذكره التصريح من مخالفات بحق أمن الدولة صحيح. فعدا عن أنه لا يختلف إثنان على أن تسريب التحقيقات الأولية يشكل مخالفة للقانون ومسا خطيرا بقرينة البراءة وأن التوقيف تجاوز المدة المسموح بها (حيث بلغ التوقيف لدى أمن الدولة أكثر من 12 يوما قبل إحالة الملف إلى النيابة العامة، فيما لا يسمح القانون بالتوقيف لأكثر من 48 ساعة قابلة للتجديد مرة واحدة)، فإن قرار الهيئة الإتهامية جاء ليؤكد أن التوقيف غير مبرر وبخاصة في الوضع الحالي حيث لا يوجد أي دليل على إصابة أي من الزبائن. وعليه، يكون تأكد أن التوقيف حصل تماما كما قال شمس الدين على خلفية أنه مصاب بفيروس وأنه يتجرأ على العمل رغم ذلك، لا أكثر ولا أقل. وثبوت صحة ما ورد في التصريح يشكل من هذه الجهة سببا كافيا لإبراء شمس الدين من أي عقوبة عملا بالمادة 387 من قانون العقوبات التي تبرئ الذم من العقوبة كلما اتصل بالوظيفة العامة وثبتت صحته؛
2- أنه هدف إلى الدفاع عن شخص مستضعف يتم التنكيل جهارا به بما يخالف قرينة البراءة، من دون أن يكون بإمكانه الدفاع عن نفسه. فعدا عن أنه في حال احتجاز لمدة تتجاوز المدة المسموح بها، فإنه وُضع في عزلة تامة ومُنع عن التواصل مع أي من معارفه أو أقاربه أو محاميه. وهذا ما نتبينه في التصريح أعلاه حيث استهجن شمس الدين أن يكشف “الإعلامي المخضرم تفاصيل كل التحقيق معه قبل ما يصحّله حتى يشوف محامي”. وهو إلى ذلك بات عرضة بفعل تسريب التحقيقات الأولية (التي وصفته بالسوري والمثلي والمصاب بالإيدز)، لوصم بل لرهاب اجتماعي (فوبيا) من شأنه أن يمنعه في كل الحالات من الكلام. وما يؤكد ذلك هو أن أحدا لم يسمع صوته، حتى بعد الإفراج عنه.
3- أنه جاء في سياق معيّن وفق ما نستشفّه من التصريح نفسه، حيث قارن شمس الدين هذه القضية بقضية “زياد عيتاني”. ومحلّ المقارنة هنا أن جهاز أمن الدولة عمد في تلك القضية إلى تسريب التحقيقات، بما فيها “اعترافات” عيتاني إلى إعلاميين تسابقوا على نشرها، كل ذلك فيما كان عيتاني يقبع وحيدا ومعزولا ولفترة تجاوزت الأسبوعين في أحد أقبية الأمن العام. وقد حصلت آنذاك المفاجأة الكبيرة حين اكتشف الرأي العام أن كل ما نشر كان خطأ، وأن التهمة الموجهة إلى عيتاني كانت مجرد تهمة ملفقة لدواعٍ يُرجّح أن تكون انتقامية. وفيما كان يفترض أن تحدث قضية عيتاني زلزالا في المجال الإعلامي والأمني، جاءت قضية صانع الأوشام لتثبت تكرار الأخطاء نفسها من قبل الجهاز نفسه وبعض الإعلاميين أنفسهم، على نحو يؤكد غيابا كليا لآليات المحاسبة والنقد الذاتي. ومن شأن هذا الأمر أن يضفي على تصريح شمس الدين وظيفة اجتماعية مضاعفة، بحيث أنه يصبح أداة المساءلة الوحيدة المتاحة في ظل تعطل المحاسبة المؤسساتية.
- لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:
Trying Adam Chamseddine: Prosecution Instead of Praise
ماذا تخبرنا قضية شمس الدين؟ (2) الحس السياسي والأمني للنيابة العامة العسكرية
صدمة بعد صدور حكم حبس 3 أشهر بحق صحافيين: النيابة العامة العسكرية مسخّرة لتبييض سمعة أمن الدولة