الوقوف أمام مدخل ثكنة الحلو يوم الأربعاء الماضي حيث زجّ موقوفو ليلة المصارف “الحمراء” إثر تطوّر الاعتصام الروتيني أمام مصرف لبنان إلى مواجهة بين قوى مكافحة الشغب والمتظاهرين وتكسير بعض واجهات المصارف، يحتاج رباطة جأش وتماسكاً. فذوو الموقوفين يتوافدون إلى الثكنة فرادى وجماعات. هنا أمٌ في حالة هلع تريد أنّ تعرف أي شيء عن إبنها “أكل؟ طعميتوه؟”، وهناك أبٌ يائس يفترش الأرض ظنّاً منه أنّه بذلك يضغط لإخراج إبنه وعلى بعد أمتار أمٌ أخرى تنهار باكية بعد أن عرفت أخيراً أنّ إبنها الذي لم يعد إلى البيت ليلة أمس موجود داخل الثكنة.
تنصّ المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية أنّه “يحق للمشتبه فيه أو المشكو منه، فور احتجازه لضرورات التحقيق، الاتصال بأحد أفراد عائلته أو بصاحب العمل أو بمحام يختاره أو بأحد معارفه”.
ولكنّ أيّاً من الذين أوقفوا ليلة الثلاثاء في الحمرا بعد أن تطوّرت التظاهرة أمام مصرف لبنان إلى مواجهات بين المتظاهرين ومكافحة الشغب تخلّلها تكسير واجهات المصارف، لم يسمح له الاتّصال بأهله أو يتم إبلاغهم رسمياً بتوقيفه. وهذه ممارسة دارجة في لبنان لدى بعض الأجهزة الأمنية وإلّا ما كان مراسل قناة “الجديد” رامز القاضي أثناء مواكبته التوقيفات في شارع الحمرا يصرخ طالباً ممن يراهم يتعرّضون للتوقيف أن يقولوا أسماءهم بصوت عالٍ. فقد أمكن توثيق أسماء الموقوفين على الهواء مباشرة أو من خلال أشخاص تواجدوا قرب رفاقهم وهم يتعرّضون للتوقيف أو من خلال محامي لجنة الدفاع عن المتظاهرين الذين حضروا إلى ثكنة الحلو وقت التوقيف.
وقد استفزّت التوقيفات عدداً كبيراً من المتظاهرين الذين بدأوا بالتوافد تباعاً إلى أمام الثكنة للتضامن مع رفاقهم الموقوفين وازدادت الأعداد أكثر فأكثر مع تقدّم ساعات النهار وتأخّر خروج الموقوفين. والمفارقة أنّ التظاهرة الداعمة تطوّرت لاحقاً إلى مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوى مكافحة الشغب انتهت بتوقيفات جديدة.
ووفقاً للجنة المحامين المتطوّعين للدفاع عن المتظاهرين بلغ عدد التوقيفات يوم الثلاثاء والتي بدأت من جسر الرينغ وصولاً إلى مصرف لبنان والحمرا إلى 63 (بينهم ثلاثة قاصرين)، بينهم ناشطتان أوقفتا على جسر الرينغ نقلتا إلى مخفر الوسط وثلاثة ناشطين أوقفوا عند مصرف لبنان بعد الظهر والباقون أوقفوا في الحمرا مع تطوّر المواجهات بين المتظاهرين والأمن. وبلغ عدد التوقيفات بين المتضامنين مع موقوفي ليلة الثلاثاء 61 ما يعني أنّه خلال يومين بلغ إجمالي الموقوفين 124.
ما الذي حصل في “ليلة المصارف”؟
لم تكن المرة الأولى التي يدعا فيها إلى اعتصام أمام مصرف لبنان، فمن اليوم الأول للانتفاضة كانت الوقفة الاحتجاجية شبه يومية أمام المصرف ومع الوقت تشكّلت مجموعة سمّت نفسها مجموعة “شباب المصرف” ركّزت بشكل خاص على الشق المالي من معركة الانتفاضة ضد السلطة وأصبحت تدعو إلى اعتصامات ومسيرات وندوات تستهدف مصرف لبنان وهندساته المالية. ويوم الثلاثاء كان الحشد أكبر إذ تزامن مع عودة الزخم إلى الانتفاضة واحتشاد الناس من جديد في الساحات.
وقعت مواجهة أولى بعد الظهر بين المتظاهرين وعناصر المكافحة الذين تعرّضوا بالضّرب للعديد من المشاركين وأوقفوا ثلاثة أشخاص (أحدهم مصمم الرقص ألكسندر بوليكيفتش الذي تعرّض للضرب أيضاً وشابين آخرين أحدهما نقل الى المستشفى لمعالجة يده المكسورة، قبل أن يفرج عنهم قبل منتصف الليل).
الفنّان سليم علاء الدين كان موجوداً في المواجهة الأولى، يوضح لـ”المفكرة” أنّه “على إثر رمي أحد المتظاهرين عبوات مياه على عناصر المكافحة جنّ جنونهم وبدأوا بدفعنا وردّ بعض العناصر على عبوات المياه بالحجارة وبدأوا ينهالون ضرباً على المتظاهرين المتواجدين في المقدّمة”. ويضيف أنّه حاول تهدئة التوتر وبدأ يساعد في نقل المصابين خارج ساحة المواجهة ولكنّه استفزّ حين رأى العناصر يعتدون بالضرب على صديقة له فركض صوبهم لإبعادهم عنها ولكنّهم بدأوا بضربه هو الآخر.
يقول سليم، وهو شاعر وحكواتي ومغنّي: “احتشدت عليّ مجموعة من العناصر أشبعوني ضرباً. وبعد أن أسعفني الصليب الأحمر ووضعوا طوقاً حول رقبتي تلقّيت ضربة على رأسي أسقطتني أرضاً وبقيت لبعض الوقت أرى خيالات مغبش”. في اليوم التالي، حضر سليم أمام ثكنة الحلو ليتضامن مع الموقوفين، وكان يضع ضمّادة على إصبعه والتّعب والصدمة ما يزالان باديين على وجهه: “أصبت برضوض في كامل جسدي وكسر في إصبعي”.
بعد أن هدأ التوتّر إثر المواجهة الأولى، بدأ المتظاهرون يطلبون الدّعم من مجموعات أخرى وبالفعل لبّ رفاقهم الطلب على الفور وعاد الحشد بأعداد كبيرة إلى أمام المصرف.
وقعت المواجهة الثانية حوالي السادسة مساء حين أزال بعض المحتجّين الألواح الخشبية التي تفصل الرصيف عن باحة المصرف وصعدوا إلى الباحة.
تقول الصحافية إيناس شرّي التي كانت وقت وقوع المواجهة الثانية إن “إزالة الحواجز الخشبية أمر حصل سابقاً ولم يثر حفيظة القوى الأمنية. فما الذي تغيّر هذه المرة؟” وتضيف: “كانت القوى الأمنية شرسة جداً معنا وأخذت تضرب الناس عشوائياً وسقط العديد من الأشخاص جرحى”. وقد نالت إيناس نصيبها من عنف القوى الأمنية فـ”عندما بدأ عناصر المكافحة يتقدّمون نحونا، لم أركض، اعتقدت أنّي بذلك لا أستفزّهم ولكن رغم ذلك دفعني أحد العناصر وشتمني. ثم سقطت أرضاً ونلت قسطي من الدهس. لم أفهم سبب حقد العناصر علينا جميعاً. أفهم أنّهم قد يستفزّون من رمي عبوات المياه باتجاههم أو الحجارة ولكن نحن كنا في المقدمة أمام أنظارهم ولم نكن نفعل شيئاً”. أصيبت إيناس برضوض وكدمات في أنحاء جسمها ولكنّها رغم ذلك حضرت أمام ثكنة الحلو للتضامن مع الموقوفين.
المواجهة الثالثة التي تحوّلت إلى كرّ وفرّ استمرّ حتى منتصف الليل، بدأت بصعود أحد المتظاهرين سور المصرف ودخوله الباحة وانقضاض أحد العناصر عليه بالضّرب ما رفع التوتّر في صفوف المتظاهرين الذين بدأ بعضهم رمي العبوات البلاستيكية والحجارة باتجاه القوى الأمنية وبدأ التدافع بينهم وبين عناصر المكافحة وتطوّر الأمر إلى مواجهات بالحجارة بين الطرفين وتعرّض القوى الأمنية بالضّرب للمتظاهرين قبل أن تبدأ بإطلاق القنابل المسيلة للدموع وحتى إطلاق الرصاص الحيّ في الهواء لتفريقهم.
تكسير واجهات المصارف
مع ازدياد حدّة المواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية، قام بعض الأشخاصن بتكسير واجهات عدد من المصارف ولافتاتها وهو مشهد ليس معهوداً خلال التظاهرات أمام مصرف لبنان. وبدأت تسري أقاويل تشير بأنّ العنف الذي شهده الشارع من جهة المتظاهرين لاسيّما تكسير واجهات المصارف حصل من قبل عناصر محسوبة على حزب الله وحركة أمل باعتبار أنّ الحزب بشكل خاص متضرر كثيراً من سياسات مصرف لبنان.
استفزّت هذه الأقاويل المتظاهرين المواظبين على الحضور إلى التحرّكات أمام مصرف لبنان لا سيّما أعضاء مجموعة “شباب المصرف” بينهم المهندس أيمن زين الدين الذي يقول لـ”المفكرة” إنّ “جهات محسوبة على أحزاب السلطة وراء هذه الاتهامات لأنّ لديها ارتباطات بالمصارف. وبعض الإعلام وخصوصاً ‘إم تي في’ مسؤول عن التركيز على بعض الأشخاص الذين هتفوا باسم السيد حسن نصر الله أو نبيه برّي أمام الكاميرا”.
ويوضح أنّ “تكسير المصارف من قبل بعض المحتجّين هو ردة فعل طبيعية على استمرار المصارف في سياساتها المجحفة بحق الطبقات الدنيا من المجتمع. فالمصرف هو الذي اختار المواجهة مع الناس وليس العكس من خلال حرمان صغار المودعين الذين يشكّلون الشريحة الأكبر من حقوقهم وتحميلهم عبء الأزمة دون كبار المودعين الذين يشكلون نسبة الـ1%”.
ويتابع أنّ “الناس أصبحت تعي أنّ السلطة والمصارف وجهان لعملة واحدة وأنّ المصارف استغلّت السلطة على مدى 26 عاماً. ويوماً بعد يوم يكتشف الناس أسماء سياسيين بارزين ضمن مجالس إدارات جميع المصارف اللبنانية وهو ما زاد النقمة على الأخيرة وراكم الغضب منها”.
ويشدد على أنّ “المصارف ساهمت مع السلطة في وصولنا إلى الأزمة التي نحنا فيها. واليوم تسحب يدها من الحل وتحمّلنا العبء”.
وعن سبب تبنّي “مجموعة شباب المصرف” المعركة ضد المصارف يقول “تبيّن لنا أنّ السلطة موظّفة لدى المصارف وهي شريكة ومستفيدة من القطاع المصرفي. لذلك رأينا أنّ التركيز على المصارف يجب أن يكون في صلب الانتفاضة الشعبية”.
اعتباطية فادحة في التوقيفات ودخول أحد المقاهي
مع تقدّم الوقت وتفرّق المتظاهرين في شوارع الحمرا، بدأت القوى الأمنية تنفيذ توقيفات عشوائية طالت متظاهرين شاركوا في التظاهرة ولكن أيضاً آخرين صودف مرورهم في الشارع إضافة إلى عشرة أشخاص من داخل مقهى “ة” بعضهم لم يكن في التظاهرة أصلاً.
تقول أريج أبو حرب (مديرة مشاريع ثقافية وناشطة) التي كانت شاهدة على توقيف المجموعة داخل مقهى “ة” بينهم زوجها الموسيقي غسان سحّاب إنّهما لم يشاركا في التظاهرة في تلك الليلة وأنّ متظاهرين دخلوا إلى المقهى حين تدهور الوضع قرب المصرف ولكنّ ذلك لم يحل دون دخول عناصر المكافحة إلى المقهى واقتيادهم مع زوجها.
تصف أريج عملية التوقيف قائلة: “كنت في باحة المقهى الخارجية مع إحدى المتظاهرات أحاول استطلاع ما يجري مخافة حصول مكروه لأحد وكان الشارع خالٍ تماماً من المتظاهرين ولا يوجد سوى عناصر المكافحة وبدوا كأنهم يبحثون عن أي شخص ما زال مختبئاً في مكان ما. وحين لمحونا ركضوا باتّجاهنا وحين دخلنا المقهى لحقوا بنا ولاحظنا حركة مريبة في الخارج وكأنهم استقدموا تعزيزات”.
تقول أريج إن “عناصر بلباس مدني دخلوا إلى المقهى فوقف المدير في وجههم طالباً منهم إبراز إذن النيابة العامة. لم يستجب العناصر وطلب أحدهم هويتي فتدخّل غسان طالباً منه التعريف عن نفسه ولكنه فرض وإذ بقوة من المكافحة تدخل المقهى وتوقف غسان والشباب الآخرين”.
تعيد أريج أكثر من مرّة أنّ العنصر الذي أعاد لها هويتها قال لها حرفياً “هالمرّة مش دورك، مرة الجاية أكيد”.
إضافة إلى غسان أوقف في مقهى “ة”، 10 أشخاص وجميعهم من الناشطين الذين يشاركون في جميع التحركات أمام مصرف لبنان وضد سياسات المصارف. وهم على ما يقول أصدقاؤهم ابتعدوا عن ساحة المواجهات حين ازدادت حدّة العنف ومنذ اليوم الأول يعبّرون سلميّاً عن غضبهم من سياسات المصارف.
ولكن بحسب المعلومات المتعلّقة بالأجهزة التي أوقفت المتظاهرين فإنّ عناصر الاستقصاء التابعين لقوى الأمن الداخلي هم من أوقف المجموعة في مقهى “ة” بعد رصدهم، ما يعني أنّه قد يكون جرى توقيف هؤلاء الأشخاص على خلفية رصد مشاركتهم المستمرة في التحركات أمام مصرف لبنان.
إضافة إلى موقوفي مقهى “ة”، شهدت “الليلة الحمراء” العديد من التوقيفات الاعتباطية التي تشي بها القصص التي يرويها الأهالي المتوافديون إلى أمام ثكنة الحلو الثلاثاء عن أبنائهم الذين لا دخل لهم بأحداث المصرف وتمّ توقيفهم لأنه صودف مرورهم في المنطقة.
تقول والدة أحد الموقوفين وهي تجلس على حافّة الرصيف منهكة من الانتظار إنّ إبنها كان يمرّ على الدراجة النارية مع صديقه في أحد الشوارع الفرعية في الحمرا حين تمّ توقيفه. وتضيف “إبني لا يؤذي نملة وهو يدرس محاسبة في معهد الحريري وأتمّ للتوّ الـ18 من عمره. بأي حق يوقفونه؟”.
شملت التوقيفات أيضاً ثلاثة قاصرين، وقد افترش والد أحدهم الطريق أمام ثكنة الحلو يوم الأربعاء والمفارقة أنّه بعد تلاسن بينه وبين القوى الأمنية أوقف هو الآخر واقتيد إلى داخل الثكنة ولم يخرج إلّا في المساء.
بلغ العدد الإجمالي للموقوفين ليلاً 58 بينهم ثلاثة قُصّر، ونقل 51 من الموقوفين إلى ثكنة الحلو بينهم موقوفو “ة” العشرة، و3 إلى مخفر زقاق البلاط و4 إلى راس بيروت. خرج اثنان من القاصرين قبل ظهر الأربعاء ومساء خرج العشرة الذين أوقفوا في مقهى “ة” وبات 46 ليلتهم في الاحتجاز.
يوم الخميس أفرج عن الموقوفين في زقاق البلاط وراس بيروت (7) بعد التحقيق معهم في الفصيلتين وتمّ تحويل 34 موقوفاً من ثكنة الحلو إلى فرع المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي الذي تولّى التحقيق في هذه القضية وأبقي على اثنين أحدهما قاصر وآخر سوري (2) في ثكنة الحلو.
وتباعاً تم الإفراج عن الموقوفين في المديرية وأبقي على ثمانية أجانب هم 7 سوريون ومصري واحد لأسباب مرتبطة بإقاماتهم وأوراقهم الثبوتية. وفي يوم الجمعة، أفرج عن سوريين اثنين ومصري، وأبقي على خمسة موقوفين سوريين لدى الأمن العام إضافة إلى سوري سادس نقل من ثكنة الحلو لعدم حيازتهم إقامة رسمية، لا سيما نظراً لسياسة الأمن العام في حرمان السوريين من الإقامات الرسمية. وفي المحصّلة يكون لا يزال 6 سوريين وقاصر لبناني محتجزون.
وبالطبع واكب المحامون المتطوّعون عملية الإفراج عن الموقوفين والاطمئنان على أوضاعهم الصحّية وما إذا كان أي منهم مصاب أو تعرّض للضرب لتحويله إلى طبيب شرعي
يقول محمد (إسم مستعار) وهو من موقوفي “ليلة المصارف” ومن الدفعة التي خرجت الخميس لـ”المفكرة” إنّه لم يكن في التظاهرة إطلاقاً بل كان مع صديق له قرب مطعم “بربر” في الحمرا حين صرخ أحدهم “اركضوا، إجوا، إجوا”. ويضيف “الشخص الذي صرخ بنا أن نركض كان هو من لحق بي وأوقفني قبل أن يسلّمني لعناصر المكافحة الذين أشبعوني ضرباً بعد أن سقط أرضاً”.
يقول محمد إنّه بعد توقيفه طلب كثيراً من العناصر السماح له بالاتصال بوالدته ولكن من دون جدوى ليعرف لاحقاً أنّها عرفت بتوقيفه من صديقه الذي شهد على ذلك أمام مطعم بربر. ويشير محمد إلى أنّه تم أخذ إفادته الساعة الثانية بعد ظهر الأربعاء “أذكر حين فتحت هاتفي بطلب من المحقق لأريه ما في داخله كانت الساعة 2 و4 دقائق”. وبعد التحقيق وأخذ إفادته أعيد إلى الغرفة وبات ليلته في الاحتجاز من دون أن يخبره أحد من العناصر الأمنية بما سيحلّ به. ويؤكّد محمد أنّ أحداً منهم لم يأكل إلّا حين وصل لأحد الموقوفين “المدعومين” طعام إلى الغرفة كان يكفي جميع الموقوفين.
ما أزعج محمد أكثر كما يقول كان تغطية وجوههم لدى نقلهم من الثكنة بعد ظهر الخميس إلى فرع المعلومات، “لم يخبرنا أحد إلى أين سيتم نقلنا بل عرفنا ذلك من خلال التقاط كلمة من هنا وأخرى من هناك”.
نقل الموقوفون من ثكنة الحلو على ثلاث دفعات إلى فرع المعلومات على ما يقول محمد وتم أخذ إفاداتهم وخرجوا بسند إقامة عند حوالي السادسة مساء وتمّ الإبقاء على هواتفهم. لا يخفي محمد قلقه من الإبقاء على هاتفه بحوزة القوى الأمنية أسوة بجميع موقوفي ليلة الثلاثاء. “ما بقا بدّي التلفون ياخدوه. ما بدّي شي من هيدي الإيام”.
موقوفو “ة”
تشرح رئيسة “المفكرة القانونية” والعضو في لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين غيدة فرنجية أنّ التوقيفات في تلك الليلة شابها الكثير من الاعتباطية والعشوائية وهذا ما يدلّ عليه توقيف المجموعة في مقهى “ة” وتوقيف العديد من الأشخاص الذين صودف وجودهم في الشارع.
وتلفت إلى أن توقيف مجموعة “ة” نال إضاءة إعلامية أكثر من غيره نظراً إلى فداحة الاعتباطية في طريقة التوقيف ولكون بعض الموقوفين معروفون وبالتالي حصل هؤلاء على معاملة استثنائية وأخلي سبيلهم الأربعاء مساء من دون تحويلهم إلى فرع المعلومات أسوة بالموقوفين الآخرين في ثكنة الحلو.
يقول أحد موقوفي “ة” الذي طلب عدم ذكر إسمه “ربطوا أيدينا وزجّوا بنا في الباص واقتادونا إلى ثكنة الحلو. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف. حين وصلنا كان هناك عشرات الموقوفين غيرنا وتبيّن أننا الدفعة الأخيرة”.
ويتابع أنّه كان في الثكنة ثلاثة محامين سألونا إن كنّا نريد إبلاغ أهلنا ومن وافق أعطاهم أرقام التواصل. أخذوا أغراضنا، ووضعونا في غرفة لا تتجاوز 8 أمتاراً بالطول وثلاثة بالعرض وكنّا أكثر من 50″.
يقول الموقوف إن العديد من الموقوفين طلبوا معرفة سبب توقيفهم والتهم الموجهة إليهم وكان الجواب دائماً “أوامر أوامر”، ويشير إلى أنّ العناصر الأمنيين أوهموهم بأنّ رتيب التحقيق سيأتي في أي لحظة ولكنّ حلّ الصباح ولم يأت أحد.
ولم يأت المحقق سوى في وقت متأخر من صباح اليوم التالي حيث أخذ إفادة كل موقوف على حدة وطلب منهم التوقيع على أقوالهم. يشكو الموقوف من حالة الغموض وعدم اليقين التي وضعوا فيها “فهم لم يتلوا علينا حقوقنا ولا واجباتنا. ولم يتم إفهامنا ما الذي سيحلّ بنا بعد التحقيق وما تهمتنا إلى أن حلّ المساء ونادوا علينا بالأسماء لنخرج. حينها فقط علمنا أنّه تم إخلاء سبيلنا”.
لجنة المحامين تواكب الموقوفين
تقول المحامية غيدة فرنجية إن المحامين المتطوعين في اللجنة واكبوا الوقيفات منذ بدايتها في يوم الثلاثاء وحرصوا على معرفة أماكن التوقيف وزيارة الموقوفين وضمان حصولهم على العناية الطبية إذا استدعت الحاجة وإبلاغهم حقوقهم وكيف يتصرّفون في التحقيق لا سيّما لجهة قراءة الإفادة التي يوقعونها وما التهم التي قد توجّه إليهم وكيفية الرد عليها وأخذ أرقام ذويهم لإبلاغهم بتوقيف أبنائهم.
وتتابع “توجّه المحامون في البداية إلى مخفر رملة البيضاء حيث تم توقيف ثلاثة أشخاص بينهم الفنان أليكسندر بوليكيفيتش وتمكنّا من مقابلتهم قبل بدء التحقيق معهم وكان أحدهم مصاباً بكسر في يده فطلبنا الصليب الأحمر الذي حضر لنقله إلى المستشفى. وفي هذا الوقت علمنا بحصول توقيفات جديدة فانتقلنا إلى ثكنة الحلو حيث دخل خمسة محامين وقابلوا الموقوفين قبل أن نعلم بوجود موقوفين آخرين في راس بيروت فتوجّهت مجموعة أخرى إلى هناك ولكن لم يسمح لهم بالدخول”.
تقول فرنجية إنّ مهمّة المحامين تتجاوز تقديم المشورة القانونية للموقوفين إلى تقديم الدعم المعنوي لهم فمعظم الموقوفين يكونون خائفين ولا يعرفون ما ستؤول إليه أوضاعهم.
وتتابع أنّ “التحقيق كان في عهدة شعبة المعلومات وهو أمر غير اعتيادي (هي المرة الثانية فقط منذ 17 تشرين الأول التي يحوّل ملف موقوفين إلى الفرع) لأن الشعبة عادة ما توكل إليها الجرائم الخطيرة والتحقيقات السابقة كانت تجريها فصائل تابعة للأمن الداخلي. وبالتالي فهمنا أن القضاء والأجهزة الأمنية تتعامل مع أحداث ليلة المصارف على أنّها أحداث خطيرة. وهذا ما يفسّر عدم السماح للموقوفين بالتواصل مع أهلهم وعدم تزويدنا بمعطيات كافية حول مجريات التحقيق أو ما يمكن أن تكون عليه إشارة القضاء وأماكن نقل المحتجزين”.
عشرات الإصابات
بلغت حصيلة المصابين في صفوف المتظاهرين الذين نقلوا إلى المستشفيات 20، بحسب الأمين العام لـ”الصليب الأحمر” اللبناني جورج كتانة بينهم حالات اختناق ورضوض وكسور وجروح، ولكن عدد الذين أسعفوا في الشارع من قبل الدفاع المدني والصليب الأحمر أكبر من ذلك بكثير. أما في صفوف القوى الأمنية فأحصى بيان للقوى الأمن الداخلي وقوع 47 إصابة.
الشاب جمال الأعور أصيب برضّة وجرح في يده وكدمة في عظام القفص الصدري كما شخّص له طبيب الطوارئ في الجامعة الأميركية. يقول جمال الذي يعمل مخرجاً، إنّه أثناء المواجهة كان يقف في مدخل وزارة السياحة وأثناء خروجه فوجئ بعنصر يتّجه صوبه حاملاً حجراً كبيراً ويضربه به. “لم أشعر بالألم على الفور ركضت هارباً منه ومن العناصر الذين ركضوا باتجاهي. ولاحقاً بعد حوالي الساعة كشف عليّ عناصر الصليب الأحمر وطلبوا منّي أن أذهب إلى المستشفى على الفور”.
كُثر ممن أصيبوا في المواجهات ليل الثلاثاء لم يشعروا على الفور بالألم، فمن المعروف علميّاً أنّنا في المواقف العصيبة يحجب جسمنا إشارات الألم، فلا ندرك أننا مصابون حتى نصبح في أمان.
إضافة إلى المصابين برضوض وكسور، أصيب العديد من المتظاهرين ليل الثلاثاء بحالات اختناق بسبب القنابل المسيّلة للدموع التي استعملتها القوى الأمنية بكثرة لتفريق المتظاهرين والتي بلغت العديد من الشوارع الفرعية في الحمرا ودخلت الرائحة المنازل والمطاعم.
لم تنتهِ ليلة الثلاثاء كما اشتهت السلطة فالتضامن الكبير الذي حظي به الموقوفون ومواكبة عشرات المحامين من لجنة الدفاع وحتى محامين آخرين من خارج اللجنة والاحتجاجات الحاشدة في اليوم التالي التي لم ترض إلّا أن تتحوّل إلى مواجهات مع قوى مكافحة الشغب أسوة بليلة المصارف، تبعث رسالة واضحة إلى السلطة بأنّ كسر الانتفاضة ليس أمراً سهلاً وأنّ كلّ موقوف من المتظاهرين وراءه العشرات. وكما يقول “الحكيم” في مسرحية “ناطرة المفاتيح” للأخوين رحباني “ما حدا بيقدر يحبس المي، والناس متل المي إلّا ما تلاقي منفذ تتفجر منّه”.