النساء و”احتلال” الحانات الرّجالية: لنا الحق في كأس المساواة


2022-01-26    |   

النساء و”احتلال” الحانات الرّجالية: لنا الحق في كأس المساواة

كان المشهد غير مألوف في البداية بالنسبة إلى بعض روّاد إحدى الحانات “الرجالية” المُطلّة على شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة. عدد من النساء اجتمعن حول أكبر طاولة توسّطت الحانة. وطلبن من النادل أن يأتي لهنّ بقوارير أخرى. زائرات جديدات اقتحمن فضاءً أصبح بقوة العرف والعادة “مُذكّرا”، رغم أنه في الأصل لم يكن كذلك. كان الأمر أشبه بإعلان معركة رمزيّة مع نمطية مُهيمنة سيطرت على جزء من الفضاء العام، وأقصَت منه النساء عبر إحلال نظرتها الثقافية والأخلاقية، مُخفية بذلك البعد الاقتصادي للظاهرة. 

حانات المدينة التي يُطلق عليها “البارات الشعبية” تستقطب إليها جمهورا رجاليا بالأساس. وتتميّز بأسعارها المنخفضة مقارنة بالبارات المختلطة التي يُسمح للنساء بارتيادها. هذا التقسيم يبدو مشحونا بحمولة رمزية واجتماعية تجعل من استهلاك الكحول ظاهرة تتجاوز “تعديل المزاج”، وتصبح امتدادا تتكثف فيه ظاهرات الوصم والمَيز والتفاوت الطبقي والجهوي داخل المجتمع والدولة.

ناشطات حملة “نَسْوِنها”، التي أطلِقت مؤخرا على مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان “احتلال الحانات الشعبية”، بدأن في ارتياد بعض الحانات غير المختلطة وسط العاصمة، وتعرّضن للمنع في بعضها تحت ذرائع متعددة من بينها “عدم السماح للنساء التونسيات بالدخول لأنهن مصدر مشاكل”، في حين يُسمح للأجنبيات بذلك. ورغم أن رُخص الحانات لا تؤسّس قانونيا لهذا المنع، إلا أن أصحاب البارات يجتهدون في اقتلاع حجج المنع المختلفة، من أجل فرض إدارة أمنية وأخلاقية للفضاء العام تستعرض نفسها بوصفها حارسة للنظام الاجتماعي والقيم.

أسرار بن جويرة ومريم بريبري وسوار بن عيسى، ناشطات في حملة “نَسْوِنها”، تحدّثن مع المفكرة القانونية حول الدلالات والأبعاد التي تريد الحملة الكشف عنها، وحول الخلفيات الاقتصادية والثقافية لمنع النساء من دخول بعض “البارات الشعبية”… 

ميز اقتصادي باسم وهميّة التفوق الرجالي       

تُشير أسرار بن جويرة، ناشطة في “نَسْوِنها”، إلى أن الحملة انطلقتْ في البداية بناءَ على ملاحظة ارتفاع الأسعار في الحانات المختلطة مقارنة بالحانات الرجالية. وتقول في هذا السياق: “النساء هنّ أول ضحايا التمييز الاقتصادي. لا بدّ من المساواة في الأجر وفي الاستهلاك أيضا. فلا وجود لأيّ معنى في أن أدفع ضعف فاتورة الاستهلاك مقارنة بالرجل، فقط لأنه رجل. رخصة المشروبات الكحولية لا تفرّق بين النساء والرجال. ومن المفروض أنّ هناك مساواة في الجهد والمشاركة الاجتماعية، بل بالعكس نحن النساء نتكبّد مصاريف وضرائب إضافية على غرار الضرائب الوردية المفروضة على الحفاضات النسائيّة ومواد التجميل. وتواجدنا كمستهلكات في نفس الفضاء العام (رجال أو نساء) من المفروض أنه لا يشكّل مدعاة للقلق والاضطراب”. 

وتضيف بن جويرة قائلة: “هناك ظاهرة أخرى يجب الانتباه إليها. إذ أنّ نفس الرجل الذي يرتاد الحانات الشعبية بأسعار منخفضة، هو نفسه يضطرّ أيضا لارتياد الحانات المختلطة من أجل مشاهدة النساء ويدفع مقابل ذلك فاتورة مضاعفة. هذا التقسيم يُساهم في سلعَنة النساء. فطالما هناك نساء على الرجل أن يدفع أكثر. أما إن كُنتَ في حانة غير مختلطة فستدفع أقل”. 

بالنسبة لسوار بن عيسى، ناشطة في حملة “نَسْوِنها”، فتعتبر أيضا أنّ العامل الثقافي والرمزيّ يمارس دوره في إقصاء النساء من “البارات الشعبية” وإجبارهن على النفور من المكان دون اللجوء حتّى إلى المنع. وتقول في هذا السياق: “بالنسبة للمحلاّت الرجالية التي ارتدتْها. حتى وإن لم أجد صدّا من أصحابها، فإنني لاحظت نظرات عدم الترحيب من بقية الزبائن من الرجال. نتعرّض للإزعاج بشكل غير مباشر من أجل إجبارنا على مغادرة المكان. هناك نظرة تقول بأننا كنساء غير مسموح لنا باقتحام فضاءات عامة أصبحت رجالية”.  

وَصم روّاد “البارات الشعبية” وتفاوت جهوي  

تُحيل جغرافيا توزيع رخص المشروبات الكحولية على مركزة مشطّة، أقصيت بموجبها الكثير من المناطق الداخلية وكتلة اجتماعية لا بأس بها من الحقّ في النفاذ إلى هذه المنتوجات. ويضطرّ بعض الشبّان في عدد من المناطق الداخلية إلى احتساء مواد كحوليّة مُضرّة ينجم عنها الموت في بعض الأحيان على غرار حادثة شبان ولاية القيروان. وهذا التفاوت الجهويّ ساهم بدوره في تغذية ثقافة الميز ضد النساء في تلك المناطق. 

في هذا السياق، تُشير مريم بريبري، أصيلة ولاية صفاقس وناشطة في حملة “نَسْوِنها”، إلى أن النساء في منطقتها لا يستطعْنَ الذهاب إلى نقاط بيع الكحول العمومية وإلى الحانات الموجودة وسط المدينة. فتضطرّ معظمهن إلى الذهاب للفنادق ودفع فاتورة استهلاك باهظة مقارنة بأسعار الحانات الأخرى. وفي بعض المناطق الداخلية الأخرى، لا يُسمح للنساء حتى بارتياد المقاهي. وبخصوص التقسيم الذي يَفصل بين “البارات الشعبية” و”الحانات المختلطة”، تقول بريبري: “هناك تقسيم طبقيّ يدلّ عليه مفهوم البار الشعبي. لأنه تحت ذريعة الحماية يجري إقصاء النساء وفي نفس الوقت يُمارس الوصم على روّاد الحانات الشعبية، الذين يجري تشبيههم بالوحوش، وبالتالي يجب حماية النساء منهم. هذا المنطق يخلق حاجزا بين النساء والرجال، وبين فئات المجتمع بشكل عام. وينتُج عن ذلك تقسيم بين “اللّكس” Le luxe و”الشعبي” يساهم في تكريس التفاوت ويؤسس لثقافة ممارسة الوصاية”.

بدورها، تشير أسرار بن جويرة إلى أن “هناك تقسيما سياسيا بين المركز والجهات. فالمناطق الأكثر تهميشا والتي لا توجد فيها أساسيات الحياة تقلّ فيها أيضا رخص بيع الكحول، لأنّ الدولة تتعامل مع الكحول “كمنتوج لكس” و”منتوج ضريبي”. الدولة قائمة على المركزة: مركَزة المؤسسات والخمر والمناطق السياحية والمناطق الخضراء، وكل شيء تقريبا.

هل انتهتْ قضايا النساء لتدافعن عن حقكنّ في “البارات الشعبية”؟

تلقّت ناشطات حملة “نَسْوِنها” الكثير من ردود الفعل غير المُرحّبة، خاصة من الأوساط الرجالية. بعضها يحمل اعتراضات أخلاقوية على الحملة بوصفها تأسيسا “للانحلال” وضربا للنظام الاجتماعي القائم. وبعضها الآخر يتطلّع إلى الحملة بوصفها ترفا ثقافيّا وقفزا على قضايا النساء الجوهرية. وتاليا اتُّهمت الحملة بدفاعها عن قضية لا تعتبر أولويّة بالنسبة للنساء. 

بخصوص ردود الأفعال المختلقة، تقول أسرار بن جويرة: “الحملة واعية بردّات الفعل الرجالية المحتجّة. لذلك نحاول عبر النقاش والاقناع اكتساب أنصار جدد للحملة وكسر هذه الحواجز. لكن هناك حقيقة يجب أن نعترف بها: الرجل الذي مُنِحت له امتيازات اجتماعية على حسابي ليس من حقّه أن يحدّد لي أولويّاتي وحاجيّاتي الأساسيّة كامرأة. نحن كنساء نواجه هذا الميز الاقتصادي في الاستهلاك بشكل يومي، ونَدفعه من جيوبنا. النضال من أجل هذه القضية هو في نهاية المطاف نضال ضد هشاشة اقتصادية أشمل، تُعاني منها شرائح واسعة من النساء. ليس هناك فصل بين قضايا النساء. فبقدر مناصرتي لقضية العاملات الريفيّات، بقدر ما أناضل ضد تعرّضي للميز في الفضاء العام”. 

وأضافت بن جويرة قائلة: “المتحزّبون عموما لا ينخرطون في مثل هذه القضايا على غرار حملة “نَسْوِنها” لأنّ هدفهم الرئيسي هو العمل على الجمهور الانتخابي. لذلك يجري اتهامنا بضرب الثقافة والأخلاق والدعوة إلى السكر والانحلال. بالنسبة إليهم، يجب العمل على خطاب ملائم للشعب بغضّ النظر عن مصالحنا ورؤيتنا الخاصة لمشاكلنا واختياراتنا في الدفاع عن قضايانا”. 

بدورها، أشارت مريم بريبري إلى أن بعض ردّات الفعل تستبطن وصاية مسبقة على قضايا النساء، حتّى في الأوساط المحسوبة على اليسار والحركة التقدمية. تقول في هذا السياق: “لا يمكننا المرور إلى المعركة الكبرى إلا بتجاوز عراقيلنا الذاتيّة الموجودة داخل الفضاء النخبوي أو “اليساري”. هناك نوع من الوصاية على قضايا المفقّرين والمهمّشين. المعارك النسوية ليست مفصولة، والنضال من أجل النساء الريفيّات يمرّ عبر تحسين شروطهنّ الاقتصادية مثل التغطية الاجتماعية والمواد الصحية، والكفاح ضد استنزاف المائدة المائية الذي تعتبر المرأة الريفية المتضرر الأكبر منه. هناك ميل للقضايا الأسهل والأسرع والأكثر رفاهيّة. والدفاع عن حقّنا من أجل التواجد في الحانات الرجالية معركة ليست سهلة، هي معركة طبقية ومُتعلقة بالعدالة الاجتماعية. هناك ميل للمساواة الشكلية، وأصبحنا نشعر في بعض الأحيان أن وجودنا أصبح مجرد ديكور. لأن المعركة انحصرت في بعض الأحيان في 50-50 (التناصف). وهكذا تُصبح قضايا النساء في بعض الأحيان مجرّد نقطة داخل بلاغ أو بيان”. 

وتضيف بريبري قائلة: “هناك تقسيم مفتعل بخصوص القضايا النسوية، بين النساء في المدينة والريف، وبين المركز والهامش. فنحن في نهاية المطاف جئنا من فضاءات هامشيّة وهشّة، ونحاول خلق طرق مقاومة ودفاع جديدة بانتقال من وسط اجتماعي إلى آخر: من المجتمع الذكوري الريفيّ الذي لا يحترم حقّكِ في الميراث وحقّكِ البسيط في إبداء رأيكِ داخل العائلة، وصولا إلى الاستغلال الوحشيّ داخل المصانع والابتزاز الجنسي. وننتقل أيضا إلى فضاءات ومهن أخرى لنظل نكابد نفس حالة الهشاشة”. 


لقراءة هذه المقالة باللغة الانجليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، حرية التنقل ، أملاك عامة ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تونس ، حراكات اجتماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني