من ثورة 14 جانفي إلى ثورة 17 ديسمبر: لمن يثأر قيس سعيّد؟


2021-12-17    |   

من ثورة 14 جانفي إلى ثورة 17 ديسمبر: لمن يثأر قيس سعيّد؟

أسماء سلايمية – محامية متحصلة على ماجستير بحث في القانون العقاري وباحثة في مجال اللامركزية

“اعتزازا بنضال شعبنا من أجل الاستقلال وبناء الدولة والتخلّص من الاستبداد استجابة لإرادته الحرّة، وتحقيقا لأهداف ثورة الحرية والكرامة ثورة 17 ديسمبر 2010-14 جانفي2011، ووفاءً لدماء شهدائنا الأبرار ولتضحيات التونسيين والتونسيات على مرّ الأجيال، وقطعا مع الظلم والحيف والفساد… فإننا باسم الشعب نرسم على بركة الله هذا الدستور. “[1]

هكذا حسم دستور 27 جانفي 2014 مسألة التاريخ الرسميّ للثورة التونسيّة. تاريخ أجمعت عليه كلّ الأطياف السياسيّة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ينطلق من 17 ديسمبر 2010، تاريخ انطلاق شرارة الثورة الأولى إلى لحظة سقوط النظام حينها بفرار بن علي، يوم 14 جانفي 2011.

على مرّ العشريّة السابقة، اختلفت القراءات والسرديّات المتعلّقة بصيرورة الثورة، تحوّلاتها، إنجازاتها وإخفاقاتها، ولم يغبْ تاريخ الثورة التونسية أو عيدها عن هذا النقاش[2]. بقوّة التدابير الاستثنائيّة، قرّر سعيّد حسم النقاش لفائدة 17 ديسمبر في مطابقة لقراءته الشخصية للثورة التونسية عبر إصدار أمر رئاسي يتعلّق بتغيير عيد الثورة من 14 جانفي الى 17 ديسمبر مبرّرا ذلك بأنّ “الانفجار الثوري انطلق من سيدي بوزيد ولكن للأسف احتُويت الثورة حتّى يتمّ إقصاء الشعب عن التعبير عن إرادته وعن الشعارات التي رفعها”.

17 ديسمبر-14 جانفي: وهم حسم توافقي

لم أكن أعي وأنا بصدد صياغة هذا المقال حول رمزيّة 17 ديسمبر و14 جانفي أن يعيدني هذا الموضوع إلى سنوات عشر مضتْ، غفلت حينها عن مدى الاختلافات التي شابتْ قراءتنا للثورة التونسية منذ انطلاقها. كنت أعتقد أنّ الموضوع يقتصر على قراءة في موقف قيس سعيّد من عيد الثورة والتاريخ لأجد نفسي أصيغه فوق رمال متحرّكة، أمام هول التناقضات منذ الوهلة الأولى للثورة لكلّ الفاعلين في المركز كانوا أو في الجهات. وجدتُ نفسي في خضمّ العيدين، وبين صخب التأريخ بالبدايات أو بالنهايات، أمام الثورة الاجتماعية في الجهات المحرومة وثورة المركز السياسية.

قبل الخوض في دلالات عيد الثورة، على اختلاف تواريخها، من الضروري الرجوع عشر سنوات إلى الوراء، لحظة اختيار عيد “الشباب والثورة” الذي تمّ تكرسيه بمقتضى الأمر عدد 317 المؤرخ في 26 مارس 2011 من قبل الرئيس المؤقت السابق، فؤاد المبزع. ومن المفارقات في تاريخ الثورة التونسيّة أنّ سليل النظام السابق هو من حدّد يوم عيدها.

اختير حينها التأريخ بالنهايات، بهروب بن علي، ببلوغ الثورة التونسية لحظتها المفصليّة: لحظة سقوط النظام، وإن يختلف البعض اليوم فيما إذا كان فعلا قد سقط يومها أو تلحّف بالسياق الثوري ليعيد تنظيم صفوفه. في الواقع، طُرحت منذ سنوات مسألة ما إذا كان الأجدى التأريخ باللحظة الثورية، لحظة 17 ديسمبر، على غرار ثورة 25 يناير بمصر وثورة 17 فيفري بليبيا أم يجب خطّها بلحظة بلوغها الذروة على غرار الثورة الفرنسية بتاريخ سقوط سجن الباستيل في 14 جويلية 1789.

أثار اختيار التأريخ بالنهايات جدلا على المستوى الجهوي خاصّة في سيدي بوزيد، حيث اعتبر عديد الفاعلين الاجتماعيين أنّ اختيار 14 جانفي كعيد يعدّ تنكّرا لتضحيات المناطق المهمّشة التي انطلقت منها الشرارة الأولى. كما أنّ الثورة مسار يتمّ تأريخه بالبدايات ولا ينتهي إلاّ بتحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية، ومن هنا يستقي تاريخ 17 ديسمبر قيمته الاعتباريّة و رمزيّته[3]. تمّ تدعيم هذه القراءة على أرض الواقع من خلال دعوة الفروع الجهوية للمنظمات الراعية للحوار الوطني بسيدي بوزيد سنة 2015 في بلاغ مشترك صادر بسيدي بوزيد، إلى تعليق العمل يوم 17 ديسمبر 2015 باعتباره يوم عطلة رسمية وعيدا وطنيا وجب الاحتفاء به حضورا ومشاركة”.

ومن المفارقات أنه لم يتمّ الإجماع على هذه القراءة فاختلف حولها جرحى الثورة أنفسهم، حيث اعتبر أحد من أصيب قرب وزارة الداخلية في جانفي 2011 أن الثورة ولدت في سيدي بوزيد، وترعرعت في القصرين ودفنت في تونس، لكنها تبقى ثورة 14 جانفي.

بلغ الجدل أسوار المجلس الوطني التأسيسي لدى النقاش حول توطئة الدستور حيث اعتبر بعض النواب أنّ “الثورة تذكر ببداياتها لا بنهاياتها فلا تمسك الثورات من أذنابها”[4]، ومن الضروري “التنصيص على ثورة 17 ديسمبر. فلا يوجد سبب نستحي منه لأن نؤرخ للثورة ونذكرها بتاريخها في التوطئة كي تبقى فكرة التوازن الجهوي في أذهان كل من يمسك السلطة في المستقبل”، مشدّدا على أنّ “من حاولوا التأريخ ب14 جانفي لهم في ذلك مغازٍ عدّة”[5].

حتّى في البدايات، لأصحاب الحقوق قول. فلا ننسى الوقفة الاحتجاجيّة لأهالي شهداء وجرحى الحوض المنجمي أمام المجلس الوطني التأسيسي الصادحين بشعار “ما نحبّوش تاريخ مزيّف، البداية هي الرديّف[6] في إشارة إلى انتفاضة الحوض المنجمي في 2008. كذلك يعتبر أهالي شهداء وجرحى تالة أنمهدالثورة باعتبار الثورة لم تكنْ لتكون لولا الحصار الذي ضُرب على تالة في جانفي 2011 وشكّل منعرجا مفصليّا للثورة. واستعمل جرحى سيدي بوزيد وأهاليها  نفس التسمية -مهد الثورة-باعتبار أن الشرارة الأولى كانت حرق محمد البوعزيزي لنفسه يوم 17 ديسمبر 2010 وسقوط أول شهيد كان بمدينة منزل بوزيان باستشهاد محمد العماري يوم 24 ديسمبر 2010.

لئن حسم بعض المؤرخين في تونس التسمية هل هي ثورة أم انتفاضة معتبرين أن مقاييس الثورة تنطبق على ما حدث في تونس من قبيل مشاركة قطاعات واسعة (معطلين عن العمل، أساتذة، محامين، طلبة..) ووجود وهن في السلطة وانشقاقات مهّدت لانتقال ديمقراطي، فإنهم أقرّوا بالاختلاف حول تحديد يوم عيد الثورة وذلك لغياب المصادر كما دفعوا إلى التروي وصياغة رؤية شاملة للثورة قد تستغرق سنوات قبل الانتهاء منها[7].

 لكن الدستور التونسي حسم الجدل بين الجهات المتنازعة والمؤرخين معلنا في توطئته التاريخ الرسمي للثورة. حسم توافقي لا فقط سياسي، وإنما أيضا لأن 17 ديسمبر -14 جانفي تحمل معها كل المراحل الحاسمة التي مرّت بها الثورة التونسيّة انطلاقا من بوزيد وتالة مرورا بالقصرين وصفاقس وصولا إلى العاصمة، حيث سقط النظام.

قيس سعيدّ وهوس الرمزيات

يخطّ قيس سعيّد اليوم، بقوّة التدابير الاستثنائيّة، تاريخا جديدا للثورة التونسية ينطلق من قراءته الشخصيّة “للانفجار الثوري غير المسبوق” الذي خرج من الجهات وصولا إلى العاصمة، مسقط اختطافه وإجهاضه[8]. على ضوء هذه القراءة، فإنّ كلّ ما يقدّمه سعيّد من تصوّر للنظام السياسي التونسي الذي يبتغيه قاعديّا، مواقفه المعارضة لدستور 2014، بالإضافة الى تخوين كلّ الفاعلين في العشريّة السابقة من دون استثناء.

لئن كان خطاب سعيّد ثائرا على النخبة والمطالب السياسيّة، منتصرا-في ظاهره-إلى المطالب الاجتماعيّة، فإنّه في باطنه إعادة إنتاج لنفس العقم الذي شهدته العشريّة السابقة. في الواقع، لم يخرج سعيّد منذ 25 جويلية عن النقاش القانوني البحت حول النظام السياسي الذي يجب اعتماده. أربعة أشهر منذ التدابير “الاستثنائية”، لم تزعزع قناعة الرئيس الراسخة بأنّ “المشكل في تونس اليوم دستوري، نتيجة دستور 2014 الذي ثبت أنه لم يعد صالحا ولا يمكن أن يتواصل العمل به لأنه لا مشروعية له”. أربعة أشهر منذ إطلاق سعيّد لحقبة “تصحيح المسار” والوعد بالاستجابة لمطالب تونس العمق، تونس “الحرشة” قابلتها حلول قانونية وتعليق الشعب بقشّة الرمزيّة.

ولعلّ أبرز مثال على ذلك خطابه يوم 13 ديسمبر 2021، خطاب بدا فيه الرئيس مهووسا بدلالة الرمزية وذلك على عكس مسار الثورة التونسية والثورات العربية التي قطعت مع فكرة القائد أو الزعيم الذي يقود التحركات ويؤطرها. قدّم سعيّد نفسه كرئيس منقذ للمسار من أيدي السياسيين “الأشرار” الذين عبثوا بمقدرات الشعب وبحثوا عن الكراسي وحادوا عن الثورة. ولم يكتفِ بتغيير عيد الثورة بل واصل عند إعلانه لخريطة الطريق للفترة الانتقالية باختياره تاريخ 25 جويلية 2022 -عيد الجمهورية-لإجراء الاستفتاء حول التعديلات الدستورية و17 ديسمبر من نفس السنة تاريخا للانتخابات التشريعية السابقة لأوانها. هذه النزعة المفرطة نحو توظيف الرمزية والاستحضار المتواصل لتواريخ فارقة للبلاد التونسيّة، يمكن أن يُقرأ على أنّه عجز عن مقارعة التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعية والاحتماء منها بالتركيز على الرموز والمسائل الدستوريّة.

عندما يتأسس خطاب سعيّد على سرديّة الإنقاذ من “سواد” العشريّة السابقة والاستجابة إلى مطالب تونس العميقة، البلاد المحرومة والجهات المهمّشة التي ترمز لها 17 ديسمبر، يصبح التساؤل مشروعا عمّا إذا كان الخروج من المأزق الاقتصادي والاجتماعي يمرّ عبر المقاربة الدستوريّة وإصدار مزيد من النصوص. كما يصبح التساؤل مشروعا عمّا إذا كانت غالبيّة الشعب التونسي، إبّان مساندتها ل25 جويلية، قد طالبت بتغيير الدستور والنظام السياسي كحلّ لأزمته.

في الواقع، لم يغادر سعيّد مربّع المقاربة القانونيّة -السياسيّة التي طغت على المشهد العامّ طيلة سنوات. سعيّد عن وعي أو عن غير وعي يعيد إنتاج الرابع عشر من جانفي 2011، التاريخ الذي يكره، تاريخ “اختطاف ثورة الشعب”، بقوّة التدابير الاستثنائية وإدامتها.

في المحصلة، يقابل سعيّد بين 17 ديسمبر بكلّ ما يحمله من مطالب اجتماعيّة واقتصاديّة نابعة عن الجهات المحرومة، و14 جانفي بكلّ المطالب السياسيّة التي أطّرتها الوسائط التقليدية على غرار الاتحاد العامّ التونسي للشغل والأحزاب السياسيّة والمنظمات الوطنيّة والتي أدّت إلى فضّ اعتصام القصبة 2 وتركيز الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. لكن اختزاله مشاكل تونس في دستورها، لن يؤدّي سوى إلى مزيد تأجيل الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية.

من المفارقات، أنّ مخرجات 14 جانفي التي يرفضها سعيّد ويصبو لهدمها بهدف إنشاء مشروعه، كانت وفيّة لمهماتها ومسمياتها، مهما اختلفنا على تقييم أدائها، وإن اقتصرت على التصويت على جملة من المراسيم المنظّمة لعمل الأحزاب والجمعيات والإعلام السمعي البصري والقانون الانتخابي وتنظيم الانتخابات. في حين أنّ الغطاء الثوري والرمزيّة الذي يتلحّف به سعيّد والوعود بالاستجابة لشعارات الثورة وتحقيق العدالة الاجتماعية يتمّ إغراقه بنقاش دستوري-سياسي لا متناهٍ، نقاش يعيد إنتاج 14 جانفي بصورة مشوّهة ويظهّر عجزا تاما عن مجابهة المسألة الاقتصادية والاجتماعية.


[1] توطئة الدستور التونسي.

[2] دعوة الأمين العامّ للاتحاد العامّ التونسي للشغل، نور الدين الطبّوبي يوم 16 ديسمبر 2019 الى اعتبار 17 ديسمبر عيدا وطنيّا بكامل تراب الجمهورية وليس بولاية سيدي بوزيد فقط.

[3] يعبّر عن ذلك الشاعر محمد الجلالي من سيدي بوزيد الملقّب بشاعر الثورة:

“لن نؤرّخ بالهروب وبالرحيل، بل نؤرخ بانبلاج الصبح، من جرح المعذّب والقتيل”.

[4] مداخلة النائب المؤسس إبراهيم الحامدي، مداولات المجلس الوطني التأسيسي، الجزء الأوّل، ص 120.

[5] مداخلة للنائب المؤسس مبروك الحريزي، مداولات المجلس الوطني التأسيسي، الجزء الثاني، ص 1012.

[6] الوقفة الاحتجاجية لأهالي شهداء وجرحى الحوض المنجمي أما المجلس التأسيسي تنديدا بعدم ادراج شهداء الحوض المنجمي ضمن المرسوم 97 الخاص بقائمة شهداء الثورة.

[7] أنظر تدخل المؤرخ عبد اللطيف الحناشي في مائدة مستديرة نظمتها دار الكتب الوطنية يوم الخميس 12 جانفي 2017

[8] اعتبر رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال ترؤسه لمجلس الوزراء اليوم الخميس 18 نوفمبر 2021 بقصر قرطاج أن عيد الثورة هو يوم 17 من ديسمبر وليس يوم 14 جانفي الذي اعتبره تاريخ إجهاضها

انشر المقال

متوفر من خلال:

عدالة انتقالية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني