للرئيس دستور يحمي تسلّطه، للشعب ثورةٌ دقّت ساعة تصفيتها


2022-07-12    |   

للرئيس دستور يحمي تسلّطه، للشعب ثورةٌ دقّت ساعة تصفيتها

“قولوا نعم حتى لا يصيب الدولة هرم، وحتى تتحقق أهداف الثورة، فلا بؤس ولا إرهاب ولا تجويع ولا ظلم ولا ألم”. هكذا أنهى الرئيس رسالته إلى الشعب التونسي، التي أصدرها صباح يوم 5 جويلية 2022، واعدًا بجنّة على الأرض إذا ما مرّ مشروع دستوره. جملةٌ سرعان ما تحوّلت إلى أداة للدعاية الرئاسيّة في الشوارع والساحات، في خرق جديد للقانون واستعادة لمشهد استفتاء الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي قبل عقدين من الزمن، في صيف 2002. جاءت الرسالة، كمشروع الدستور، وفيّة لأسلوب سعيّد، في عنفه وانتقائيّته وتبريريّته وتهرّبه الممنهج من نقاش المضامين، وصولا إلى تعمّد المغالطة، وهو ما دفعنا إلى مناقشتها نقطة نقطة.

كان من المفترض، حسب مرسوم الرئيس نفسه الذي نقّح بموجبه القانون الانتخابي منذ شهر، أن تصدر مذكّرة تفسيريّة “توضّح محتوى النص المعروض على الاستفتاء وأهدافه”، وذلك قبل انطلاق حملة الاستفتاء. لم يلتزمْ سعيّد بالضوابط المضمونيّة للمذكّرة التفسيريّة، التي جاءتْ أقرب إلى البيان الانتخابي، ولا بالآجال، حيث نشر رسالته بعد يومين من بداية الحملة. ليس ذلك سوى تفصيل بسيط في عهدٍ انتفتْ معه أبسط قواعد دولة القانون، وأصبحت إرادة الأمير هي القاعدة التي لا يعلو عليها نصّ.

اختار سعيّد لرسالته عنوانًا: “للدولة وللحقوق والحرّيات دستور يحميها، وللشعب ثورةٌ يدفع عنها من يعاديها”. ولئن ليس استجداء الثورة جديدا على سعيّد، حتّى أنّه ظهر في توطئة الدستور وتكرّر في رسالته، فإنّ  الحديث عن أعدائها في سياق الدفاع عن الدستور، قد يُفهم كوَصْمٍ لمعارضي المسار بمعاداة الثورة ودعوة للشعب للحسم في أمرهم. أمّا “حماية الدولة”، فنفهمها من خلال الفقرة الأولى من الرسالة، حيثُ “ذكّرنا” الرئيس بما “نعلمه جميعا”، من “محاولات متكررة لضرب وحدة الدولة والتنظّم داخل مؤسساتها”. لا نعتقد أنّ الرئيس يقصد بذلك التعيينات الحزبيّة ومنطق المحاصصة والاختراق، الذي تواصل بل وتفاقم في عهد سلطة الاستثناء. كما يصعب أن يكون “الانحراف بالمؤسسات عن خدمة المواطنين” وعلى “مبادئ الحياد والمساواة” التي تحكم تسيير المرافق العمومية هو المقصود، لأنّه بلغ في الفترة الأخيرة مع مشاريع الرئيس، وتحديدا الاستشارة ثمّ الاستفتاء، درجة لم نعرف مثيلا لها خلال “العقد الأخير”. إنّما تعني وحدة الدولة، في خطاب سعيّد، وحدة السلطة داخلها في شخص الرئيس. وجود أيّ سلطة مضادّة أو منافسة له، هو ضرب لوحدة الدولة. “فالدولة أنا وأنا الدولة”، كما قال لويس الرابع عشر منذ ثلاثة قرون.

تعني وحدة الدولة في خطاب سعيّد وحدة السلطة داخلها في شخص الرئيس

وصمُ الآخرين، حجّة من انتهت حججه 

واصل سعيّد هجومه على العشريّة التي أنتجت رئاسته، بعنوان الإفلات من المحاسبة وانتشار الفساد. ولئن كانت بعض انتقاداته في محلها، فمن حقنا التساؤل على حصيلته في هذا المجال، بعد سنة من الحكم المطلق. فهل مشروع الصلح الجزائي يندرج ضمن المحاسبة؟ وكيف لمن تغوّلت وزارة الداخلية أكثر فأكثر في عهده، أن يتحدث عن الإفلات من العقاب والفساد، وهي مكمنهما الأبرز؟

تمادى الرئيسُ في استعمال ضمير الغائب، ضدّ من “أفرغوا خزائن الدولة وسائر المؤسسات والمنشآت العمومية”، ليزيد “الفقراء فقرا وإملاقا”، ويزيد “الذين أفسدوا” ثراءً. لم يتفطّن سعيّد، بعد سنة من الحكم المطلق وقرابة 3 سنوات من الرئاسة، إلى أنّ مشاكل البلاد أعقدُ من ذلك بكثير، وأنّ توزيع أموال الفاسدين لن يحلّ شيئا منها. بقي سعيّد حبيس قراءاته التاريخيّة عمّا عاشته تونس خلال القرن 19، حين كان بعض الوزراء “ينهبون الخزائن” ويفرّون إلى الخارج، في الوقت الذي تسارع فيه حكومته لقبول كلّ شروط صندوق النقد الدولي من دون أي اجتهاد أو ابتكار أو تفاوض جدّي، وتستعدّ لتمرير ما تصدّى له البرلمان والرأي العامّ طيلة السنوات الفارطة، وهو فتح ملكية الأراضي الفلاحية للأجانب، بمرسوم رئاسي. 

جاءت الفقرات اللاحقة على المنوال ذاته. فقد خصّص سعيّد نصف رسالته التفسيريّة تقريبا، لمهاجمة من سبقه أو نافسه في الحكم. كالعادة، لم يفوّت الفرصة كي يعود ويبرّر ما قام به في 25 جويلية، كيف لا وقد طال هاجس التبرير توطئة الدستور في حدّ ذاته. أحال سعيّد في رسالته على الممارسات “غير المقبولة بأي مقياس من المقاييس” داخل البرلمان، التي دفعته، بالإضافة إلى “الواجب المقدّس” و”المسؤولية التاريخيّة”، إلى تجميده ثمّ حلّه. اختزل التجربة البرلمانية في السبّ والشتم وهتك الأعراض، مغفلا أهمّية التداول البرلماني الذي سمح لنا بمراقبة ما يجري داخل المؤسسة التشريعيّة وبالتصدّي للنصوص الخطيرة بل وافتكاك انتصارات تشريعيّة عديدة. أمّا الآن، فقد صرنا بفضله نكتشف النصوص التي تحكمنا مباشرة في الرائد الرسمي، صادرة تحت جنح الظلام، من دون أيّ فرصة لمناقشتها أو الطعن فيها.

وبما أنّ كلّ النصوص التي نتجت عن تداول برلماني هي بالضرورة، في فِكر سعيّد، “على المقاس”، فإنّ دستور 2014 لم يشذّ عن القاعدة، إذ “وجد فيه كلّ طرف نصيب”. يبقى أنّه، إذا كان التوافق والتسويات من سمات دستور 2014، فإنّه لهذا السبب بالذات لا يمكن أن يكون على مقاس طرف لوحده. بل كان نتيجة صراع سياسي ومجتمعي شاركت فيه جلّ القوى الحيّة للمجتمع، وحسم الشارع بعض فصوله، فجاءت النسخة النهائيّة معبّرة على المجتمع التونسي في تطلعاته وتناقضاته. أمّا دستور سعيّد، فهو على العكس تماما، صيغ “في الغرف المظلمة”، كي نستعير عباراته، وجاء على مقاس شخص واحد. لكن، كيف لمن يعتبر أنّه يجسّد في شخصه الدولةَ والثورةَ والشعبَ أن يتفطّن لذلك ؟

مسار تأسيسي أبعد ما يكون عن الديمقراطية

يقول سعيّد في اختتام استعراض قراءته للعشرية الفارطة وصولا إلى 25 جويلية 2021، أنّه كان “لا بدّ من التفكير الجدي في وضع دستور جديد”. كما لو كانت قوّة قاهرة فرضت عليه ذلك، أو أنّ الشعب قرّر ذلك، فاقتصر دوره على الانصياع لإرادة خارجة عنه. لكنّ الحقيقة أنّ تغيير الدستور حصل بإرادة سعيّد وحده، وبهدف فرض مشروع البناء القاعدي الذي يحمله منذ السنوات الأولى للثورة. حتى أنّ الاستشارة الوطنية التي يتشبث بها سعيّد، عندما غلبّت  نتائجها “تعديل الدستور” على “صياغة دستور جديد”، لم تعد ملزمة بالنسبة إليه. 

يرى سعيّد في استشارته دليلا على أنّ عملية الوضع كانت ديمقراطية، وفي ذلك مغالطة كبرى. فقد كانت الاستشارة في مختلف مراحلها، من المبادرة إلى صياغة الأسئلة وعرضها وصولا إلى جمع نتائجها، نتيجة مسار انفرادي، فجاءت على مقاس إجابة جاهزة، هي تلك التي يريدها الرئيس. أمّا “حوار” المساندين الكاريكاتوري، فلا حاجة للتذكير بكلّ ما شابه من فضائح ونقائص، إذ يكفي اعتراف الرئيس المنسّق له بأنّ مشروع سعيّد لا يمتّ بصلة لمشروعهم، كي ينزع عنه أيّ مشروعيّة ديمقراطية.

وإذا كانت مرحلة الإقرار، مهما كانت ديمقراطيّة، لا يمكن لها أن تغسل عيوب مرحلة الصياغة، فإنّ استفتاء سعيّد هو في حدّ ذاته أبعد ما يكون على الديمقراطيّة. فهو لا يستجيب لأبسط الشروط الديمقراطية، حيث جاء لشرعنة أمر واقع وليس لإعطاء الكلمة للشعب. فهو خاضع لإرادة منفردة تحكمت في موعده وسؤاله وجِهَة تنظيمه وحتى في قواعده القانونيّة، وهو يأتي في سياق لا تتوفّر فيه أبسط الشروط الديمقراطية من تعدّدية وحرية إعلام وقضاء مستقلّ. استفتاء سعيّد هو أقرب لما كان يقوله هو نفسه في جبّة خبير القانون الدستوري، “أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكرة”.

دستورُ قَبْرِ الثورة

شدّد سعيّد في رسالته على أنّ مشروع الدستور “يعبّر عن روح الثورة”. الدليل، هو مجلس الجهات والأقاليم، الذي سيسمح “بمشاركة الجميع في صنع القرار”، لأنّ “من تمّ تهميشه سيسعى بطبيعته إلى وضع النصوص القانونيّة التي تخرجه من دائرة التهميش والإقصاء”. نحن بوضوح أمام فلسفة البناء القاعدي، التي يعتبرها أصحابها تعبيرا عن الثورة التي انطلقت من الهامش نحو المركز وتجاوزت الأحزاب السياسية والأشكال التنظيمية التقليديّة، وهي رؤية تختزل كلّ المشكل في سؤالي النظام السياسي ونظام الاقتراع، وتتوهّم حلّ معضلة عدم توازن نمط التنمية عبر تغييرهما.

أمّا الحقوق والحريات، ف”لا خوف عليها” ما دامت النصوص القانونية “تضعها الأغلبيّة تحت الرقابة الشعبيّة”. فالبناء القاعدي، الذي يقوم على إمكانيّة سحب الوكالة من النواب، ضمانة كافية للحقوق والحريات. بالإضافة إلى المحكمة الدستوريّة التي تراقب دستوريّة القوانين “بعيدا عن كلّ محاولات التوظيف”. بالنسبة لسعيّد، الخطر على الحقوق والحريات يأتي حصرا من البرلمان. أمّا السلطة التنفيذيّة، فيكفي “حقّ المجلس في مساءلة الحكومة” و”تحديد حقّ الترشح لرئاسة الدولة بمرّة واحدة” لتبديد المخاوف من استبدادها. لا يهمّ إن كانت لائحة اللوم غير ممكنة التطبيق في الواقع، نظرا لشروطها التعجيزية، إذ تشترط أغلبية مطلقة من الغرفتين البرلمانيتين لتقديمها، وأغلبية الثلثين منهما للمصادقة عليها. ولا يهمّ إن كانت المُدد الرئاسيّة، على عكس ما قاله سعيّد في مذكرته، محددة باثنتين في مشروع الدستور وليس بواحدة، وذلك مثال كافٍ لكي ترتدّ تُهَمُ “الافتراء” و”المغالطة” التي أطنب الرئيس في استعمالها عليه. ولا يهمّ إن كان الدستور قد أغلق كلّ سبل مساءلة الرئيس، ولو على الخرق الجسيم للدستور، كما في أيّ نظام ديمقراطي. لا يهمّ إن كان باب الحالة الاستثنائيّة مفتوحا أمام الرئيس من دون أيّ إمكانية لمراقبته أو إنهائها من طرف المحكمة الدستورية، كما في دستور 2014. ولا يهمّ إن كان مشروع الدستور يؤسّس لقضاء خاضع للرئيس ويلغي الهيئات الدستورية المستقلّة. لا يهمّ إن كانت كلّ السلطة لدى الرئيس، فالرئيس يجسّد الشعب، ولا خوف على الحريات من الشعب.

لذلك، من “يدّعي أنّ مشروع الدستور يهيئ للاستبداد” هو بالضرورة من “المفترين”. أمّا من يردّد أن المشروع يهيّئُ لاختلال التوازن بين الوظائف، فلمْ “ينظر في القانون المقارن” ولا “في التاريخ”، وإلاّ لأدركَ أنّ “التوازن يختلّ لا بالنصوص ولكن حين يهيمن حزبٌ واحدٌ أو تحالفٌ واحدٌ على كلّ مؤسسات الدولة”. مرّة أخرى، يرى سعيّد خطر الهيمنة في الأحزاب والتحالفات، ولا يراه في شخص الرئيس. فدستوره يؤسّس لهيمنة الرئيس على كلّ مؤسسات الدولة. هيمنة على البرلمان، عبر إضعافه وإلغاء استقلاليته المادّية والإدارية ونزع أيّ قدرة لديه على مساءلة الحكومة، مقابل فتح المجال للرئيس لحلّه إذا ما وجّه مرّتين لائحة لوم ضدّ حكومته، وإعطاء الرئيس دورا مركزيا في العملية التشريعية عبر المبادرة التشريعية والمراسيم. وهيمنة الرئيس على القضاء، في غياب ضمانة مؤسساتية لاستقلاليّته، وإعطاء صلاحية تسمية القضاة للرئيس، بناء على مجرّد ترشيح من مجلس قطاعي قد لا يكون منتخبا، لا على رأي مطابق من مجلس منتخب ومستقلّ. وهيمنة الرئيس على ما تبقّى من الهيئات الدستوريّة، أي هيئة الانتخابات، التي سيكون بوسعه تعيين أعضائها، كما فعل منذ أشهر في الهيئة الحاليّة. فهو رئيس فوق الجميع، يحكم ولا يساءَلُ، لديه كلّ السلطة من دون تحمّل أيّ مسؤوليّة. 

بلى، سيّدي الرئيس، نحن “ننظر في القانون المقارن”، فلا نجدُ دولةً ديمقراطية واحدة لديها رئيسٌ بمثل هذه الصلاحيات وفوقَ أيّ محاسبة، ولا نجد دولة تضمن الحدّ الأدنى من الحقوق والحريات، يغيب فيها الفصل بين السلط. 

نحن “ننظر في التاريخ”، فنرى أنّ الرجوع إلى الوراء دائما ممكن، وأنّ المكاسب تبقى دائما عرضةً للارتداد. نحن ننظر في تاريخنا نحن، فنرى أنّ الرئاسويّة مرادف للاستبداد، وننظر في تاريخنا الدستوري بالتحديد، فنستخلصُ أنّ دستور 1959 الذي استرجَعْتَ معظم فصول نظامه السياسي، أسّس لدكتاتورية قامت ضدّها الثورةُ التي تدّعي الانتصار لها.

كلاّ، سيّدي الرئيس. هذا ليس دستور مطالب التونسيين، بل دستور نزعات استبداديّة و”فانتازمات” شخصيّة. هذا ليس تحقيقا لأهداف الثورة، بل تصفية لها وعودة لما سبقها من استبداد. هذا ليس علاجا لأمراض الانتقال الديمقراطي بل قبرٌ للحلم الديمقراطي. هذا ليس “إنقاذا للدولة”، بل استرجاعٌ لوجهها الاستبدادي، تمهيدا للتخلي نهائيّا عمّا تبقّى من وجهها الاجتماعي. 

أن يحرص رئيس على دخول التاريخ أو حتى “تصحيح مساره” أمر مشروع، لكن ليس فخرا لأحد أن يخلد اسمه كمن قبر ثورة شعبه.

هذا ليس “إنقاذا للدولة”، بل استرجاعٌ لوجهها الاستبدادي تمهيدا للتخلي عن وجهها الاجتماعي

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني