كي لا نحمّل الدستور وزر السياسة


2022-01-27    |   

كي لا نحمّل الدستور وزر السياسة
صورة لماليسه الرحموني من تحرّك 13 أوت 2012 | المصدر: موقع arabsthink.com

“جمهورية، إن استطعتم الحفاظ عليها”. هكذا أجاب بنجامين فرانكلين، أحد أبرز الآباء المؤسسين للديمقراطية الأميركيّة، مواطنة سألته بعد مصادقتهم على الدستور في اجتماع فيلادلفيا سنة 1787: “ماذا منحتمونا؟” ربّما لم يحلم مؤسسو الجمهورية الثانية في تونس أن يدومَ الدستور الذي صادقوا عليه ليلة 26 جانفي 2014 مئات السنين أسوة بالدستور الأميركي، لكنّ أكثر المتشائمين حينها لم يكن ليتوقّع سقوطه بمثل هذه السرعة. إذ لم تكد تمرّ ثماني سنوات حتّى علّق ثاني رئيس جمهورية منتخب وفق أحكامه، قيس سعيد، معظم أبوابه، وشرع في مسار تغييره خارج الشروط والإجراءات التي يضبطها. هكذا، لم تجد الجمهورية الثانية مؤسسات تحصّنها ولا قوى مجتمعيّة حيّة تستميت للحفاظ عليها. دفع الدستور ثمن أزمة اقتصادية واجتماعية، عمّقتها وانضافت إليها أزمة وبائيّة، وفشلٍ سياسيّ فقد معه خطاب “الديمقراطية التونسية” سحره. إلاّ أنّ سقوط دستور 2014 لم يكن ممكنا لولا هيمنة خطاب معادٍ له، لا يرى فيه سوى “دستور حركة النهضة” الذي وضعته على مقاسها لتضمن بقاءها في الحكم، ويحمّله في الوقت ذاته مسؤولية أزمات الحكم المتواصلة وحالة الشلل السياسي. فإذا كانت “التهمة” الأولى لا تفضحُ سِوى ضعف ذاكرة (كي لا نقول عدم نزاهة) من يتبناها، فإنّ الثانية تهمل العمق السياسي للأزمات فلا ترى المشكل إلاّ في النصّ، وتتوهّم الحلّ في تغييره.

لعلّ الذكرى تنفع المواطنين والمواطنات

يكاد رئيس الدولة لا يفوّت فرصة لازدراء دستور 2014، مردّدا عبارته المعتادة : “الدستور الحقيقي خطّه الشباب على الجدران”. هو يلخّص بذلك رؤيته للانتقال الديمقراطي بوصفه خيانة للثورة لا بداية استجابة لجزء من أهدافها. لكنّ الصورة التي استعملها دلالة على دستور لا يوجد سوى في مخيّلته، تنطبق، على عكس ما يقول، على دستور 2014. هذا الأخير لم يُكتب في غرف مغلقة وبإرادة منفردة، ولم ينحصر النقاش فيه في قصر باردو، وإنما كتب في الساحات والشوارع التي استطاعتْ فرض إرادتها على الأغلبيّة. من مسيرة 13 أوت 2012، التي دعت إليها الجمعيات النسوية تزامنا مع صدور المسودّة الأولى، مطالبة بالتنصيص الواضح على المساواة، وسحب مفهوم “التكامل” بين المرأة والرجل في الأسرة، وصولا إلى اعتصام باردو الذي ساهم في الوصول إلى حوار وطنيّ تنازلت خلاله النهضة في معظم النقاط الخلافيّة في الدستور، لعب الشارع دورا هامّا في تعديل الكفّة. كما ساهمتْ مواكبة منظمات المجتمع المدني اليوميّة للمسار التأسيسي، التي لم تكن ممكنة لولا خوضها معركة من أجل فرض الحدّ الأدنى من الشفافية على أعمال اللجان، ومشاركتها في الحوارات التي دعا إليها المجلس الوطني التأسيسي في العاصمة والجهات وحتى مع الجاليات التونسيّة في الخارج، وضغطها المتواصل داخل المجلس وخارجه، في الوصول إلى دستور يضمن بوضوح الحقوق والحرّيات، ويكرّس آليات فعلية لحمايتها. من ذلك مثلا ضمانات استقلاليّة السلطة القضائيّة، التي ظلّت محلّ مقاومة من حركة النهضة حينها حتّى الأيّام الأخيرة للمصادقة على فصول الدستور، ثمّ استطاعت الهياكل الممثلة للقضاة فرضها. 

دور الشارع والمجتمع المدني في تعديل الكفّة لم يكن ممكنا لولا وجود النواب الديمقراطيين داخل المجلس الوطني التأسيسي الذين لعبوا، من جهتهم، دورا حاسما في الوصول إلى هذه الصيغة من الدستور. فخلافا للانطباع الموجود، لم يكن باستطاعة حركة النهضة فرض إرادتها بسهولة في أعمال اللجان، خاصّة وأنّ عددا هامّا من نواب حليفيها في الترويكا كانوا يلتقون مع الكتلة الديمقراطيّة المعارضة في المسائل الدستورية، سواء المتعلّقة بالحقوق والحريات أو بالنظام السياسي. وحتّى حين حاول المقرّر العامّ للدستور الحبيب خضر توجيه صياغة بعض الفصول، وفرض مضامين لم يتم الاتفاق عليها، فقد باءت محاولاته بالفشل. من ذلك اعتبار الإسلام “دين الدولة”، بشكل يفرض تأويلا معيّنا للفصل الأول، التي سُحبت، لصالح الحفاظ على صيغة الفصل الأول لدستور 1959، وإضافة فصل ثانٍ يكرّس بوضوح مدنيّة الدولة، ويربطها بأعمدتها الثلاثة المناقضة للدولة الدينيّة، وهي المواطنة، وإرادة الشعب، وعلويّة القانون.

لا يسعنا المجال للعودة إلى مختلف المكاسب التي اقتلعتها القوى الديمقراطيّة والحقوقيّة. عديدة هي فصول الدستور والجمل في توطئته، التي لا تزال تحمل، أحيانا بتناقضاتها، قصّة المخاض العسير الذي عاشته. لكنّ أهمّية مسار صياغة دستور 2014 ليست فقط تاريخيّة. إذ يمثّل تطوّر النصّ من المسودّة الأولى إلى غاية النسخة المصادق عليها حجّة قويّة لتأويله في اتجاه حقوقيّ. كما يجعل هذا المخاض من دستور 2014 نموذجا لعقد اجتماعي صيغ لا فقط عبر مشروعية الانتخابات التأسيسية، وإنّما بمشاركة واسعة، ونضالات وتضحيات، على عكس مسار تغييره حاليا الذي يخضع فقط لإرادة الفرد. فقيمة الدساتير ليست في “وضوح” فصولها أو نقائها من الحشو اللغوي أو من التناقضات، بقدر ما هي في مشاركة قوى المجتمع في صياغتها واجتماعها حولها وتملّكها لها.

جنيالوجيا خطاب مهيمن

كيف تحول إذن الدستور الذي صادق عليه 200 نائب من أصل 216، من بينهم جميع ممثلي الكتل الديمقراطيّة و”الحداثيّة”، واقتصر الاعتراض عليه على من زايدوا على تنازلات حركة النهضة في المسائل الهووية، إلى “دستور النهضة” ؟

لا شكّ أنّ عوامل عديدة ساهمت في تشكّل هذا الخطاب، ليس أقلّها “التروما” المرتبطة، لدى فئات واسعة من التونسيين، بسنوات حكم الترويكا المنبثقة عن المجلس الوطني التأسيسي، وما تخللها من صعود للتطرّف الديني واعتداءات على الحريات واغتيالات سياسيّة. كما ساعدتْ نتائج انتخابات 2014 في خلق هذا الانطباع، إذ أدّى صعود نداء تونس والباجي قائد السبسي لا فقط إلى تراجع الإرادة السياسية لتطبيق الدستور، وإنما أيضا إلى انهيار تمثيلية القوى السياسيّة التي قادتْ المعركة التأسيسيّة ضدّ حركة النهضة داخل المجلس الوطني التأسيسي. من جهته، ورغم تأكيده في كلّ مرّة على التزامه بالدستور، لم يضيّع الرئيس الراحل فرصة ليذكّر بأنه لم يكن شريكا في صياغة الدستور، وأن نواب النهضة هم من “كتبوه”.

لكنّ هذا الخطاب لم يصبح مهيمنا إلاّ في السنتين الأخيرتين، أي بعد انتخابات 2019. فقد أفرزت هذه الأخيرة قوّتين سياسيّتين جديدتين، وهما قيس سعيّد في قرطاج، والحزب الدستوري الحرّ الذي انتزع تمثيلية في البرلمان استغلتها زعيمته عبير موسي لتصدّر المشهد السياسي. اجتمع الاثنان، رغم تناقض منطلقاتما وأهدافهما، على مهاجمة الانتقال الديمقراطي برمّته، ككتلة واحدة لا تتجزأ، واختزالها، تصريحا أو تلميحا، في حكم النهضة. ساهم بقاء النهضة في الحكم، بالرّغم من تراجعها الانتخابي الحادّ واعتمادا على تحالفات مثيرة للجدل، في ترسيخ هذا الانطباع، الذي عمّقه تولي زعيمها راشد الغنوشي رئاسة البرلمان، واستعماله لمنصبه لخدمة مصالح حزبيّة وتوسيع صلاحياته. شاركت الأطراف الثلاثة، كلّ من جهتها ولحساباتها، في تأزيم الأوضاع بشكل غير مسبوق، وانقطعت سبل الحوار تماما بينها، فاتجهت أصابع الاتهام مرّة أخرى للدستور بوصفه سببا للأزمة وعاجزا عن حلّها.

النظام السياسي، عامل شلل أم شماعة للفشل؟

ربّما من المفيد، قبل مناقشة ما إذا كان للدستور دور في أزمات الحكم بعد انتخابات 2019، أن نعود إلى الخماسيّة السابقة، التي بدأ خلالها تطبيق بابي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. فقد عرفنا خلالها الفرضيتين الأساسيّتين اللتين يقوم عليهما النظام السياسي التونسي، أسوة بالنظام شبه الرئاسي في فرنسا، وهما توافق رئيس الجمهورية مع الأغلبية البرلمانيّة، أو التعارض بينهما. في الأولى كما في الثانية، لم نعرف أزمة دستوريّة تذكر. فقد قَبِل الحبيب الصّيد، على الأقلّ في الفترة الأولى، بدور ثانوي بالمقارنة مع رئيس الجمهوريّة الراحل الباجي قائد السبسي، ثم اكتفى هذا الأخير، عندما فقد الأغلبية داخل البرلمان، بصلاحياته الدستورية في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجيّة والمبادرة التشريعيّة. فرغم مسؤولية القوى الحاكمة خلال تلك الخماسيّة على عدم إرساء المؤسسات الدستورية، وعلى رأسها المحكمة الدستورية، وهو ما ساهم بلا شكّ في هشاشة بنيان الجمهورية الثانية، إلاّ أنها، على الأقلّ في مجال النظام السياسي، أبدت حدّا أدنى من الالتزام بالقاعدة الدستورية، وهو ما غاب بعد 2019. أمّا عدم ختم الرئيس الراحل، أياما قبل وفاته، تنقيح القانون الانتخابي، وبغضّ النظر عما شاب العمليّة من شكوك حول صحّة قائد السبسي ومدى تمتّعه بملكة القرار، فهو ليس ناتجا عن قصور القاعدة الدستورية. إذ لا يمكن لدستور أن يفترض حالات عدم تطبيقه ويرتّب لكلّ منها جزاء. ما كان ينقص، في الواقع لا في النصّ، هو المحكمة الدستوريّة التي يعني غيابها استحالة إعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور. يبقى أنّ الخماسيّة الفارطة، وإن لم تعرف أزمة دستورية حادّة، كرّست انطباع الشلل السياسي. لكن هذا الشلل ليس ناتجا عن النظام السياسي، وإنّما عن بؤس المنظومة السياسيّة، إذ لم يكن الحكم وسيلة لتطبيق مشروع سياسي، وإنما كعكة تقتسم، وهو ما لم يتغيّر كثيرا اليوم، باستثناء استئثار شخص واحد بالكعكة.

أما الأزمات التي استفحلتْ منذ انتخابات 2019، فأسبابها هي الأخرى سياسيّة بامتياز. فبوجود رئيس جمهورية يريد أن يحكم من دون أن ينافس في الانتخابات التشريعيّة، مقابل زعيم حزب يسعى للمسك بكلّ خيوط السلطة انطلاقا من رئاسة البرلمان، تصبح الأزمة حتميّة. لا يمكن لأيّ دستور أن ينظّم مثل هذا العبث. بل أنّ رئيس الجمهورية لم يحاول أصلا استعمال الآليات الدستورية لفضّ صراعه مع المشيشي الذي اختاره بنفسه، عبر طلب ثقة البرلمان، وفضّل اللجوء إلى تأويلات خطيرة ولادستوريّة كقيادته للقوى المسلحة الأمنيّة ورفض أداء الوزراء اليمين الدستوريّة وصولا إلى تجميد البرلمان وتغيير الدستور عبر الحالة الاستثنائيّة. يبقى أنّ غياب إمكانيّة حلّ البرلمان دون انخراطه في العملّية، عبر عدم منح الثقة لحكومة، ساهم، بالإضافة إلى طريقة تعامل الفاعلين السياسيّين، في انسداد أفق الحلّ. لكن، حتى إن افترضنا وجودها واستعمالها من طرف رئيس الجمهورية، هل كانت الأزمة ستحلّ إذا ما أصرّ هذا الأخير على خيار عدم دعم قائمات في الانتخابات التشريعيّة السابقة لأوانها؟ الجواب هو طبعا بالنفي.

إنّ فصول باب السلطة التنفيذيّة هي بلا شكّ أضعف فصول الدستور صياغة. لكنّ الصياغة السيّئة لا تعني بالضرورة خيارات سيّئة. فلا وجود سلطة تنفيذية برأسين، ولا انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة مع حصر صلاحيّاته في الدفاع والعلاقات الخارجيّة والمبادرة التشريعيّة، يمثّل استثناء تونسيا ولا عامل أزمات، طالما توفّر في الفاعلين السياسيّين الحدّ الأدنى من احترام الدستور والنزاهة والحكمة. خيارات النظام السياسي في تونس، باستثناء تلك المتعلّقة بحلّ البرلمان، ليست سيّئة، وباستطاعتها أن تبني ديمقراطيّة. لكنّ الإشكال هو، مرّة أخرى، في الممارسة السياسيّة، التي كانت ستنتج الفشل ذاته، مهما كانت الخيارات الدستوريّة. لا يعني ذلك عدم الحاجة إلى إصلاحات سياسيّة، أو عدم القدرة على التأثير في الممارسة السياسية عبر النصوص التشريعية، لكنّ الإصلاح يحتاج شرطين لا يتوفران في الوضعية الحالية: تشخيص دقيق، وإطار ديمقراطي.

إنّ التشخيص الذي يعتبر الدستور سببا للأزمة ليس فقط خاطئا وظالما، وإنّما هو يعبّر عن عجز أصحابه عن مقارعة التحديات الاقتصاديّة والاجتماعية. إذا استعرنا أدوات علم النفس، هو نوع من الإزاحة (déplacement)، أي آلية دفاعيّة لاشعوريّة، ينزع فيها العقل إلى استبدال المشكل الأصلي، هربا من مواجهته، بمشكل مفترض يظنّ أن حلّه متاح. إلاّ أنّ سهولة التفسير، وإن بدت مقنعة، لا تساهم سوى في تأبيد المشكل الحقيقي، وربما خلق مشاكل أخرى. تغيير الدستور بإرادة منفردة، مهما حاول صاحبها تجميلها وإلباسها رداءً ديمقراطيا، ليس فقط هروبا من الأولويات الحقيقيّة والعاجلة، وإنما سينتج لامحالة تراجعا حادّا في ضمانات الفصل بين السلط والديمقراطيّة، التي من دونها يستحيل ضمان الحقوق والحريات، وسينفي أهمّ مكسب بعد الثورة، وهو مشاركة مختلف فئات المجتمع في صياغة شروط عقدهم الاجتماعي وعيشهم المشترك. إذ لا يمكننا العودة، بعد مخاض دستور 2014، بكلّ ما حمله من صراعات ونضالات، إلى عهد الدساتير المصاغة في الغرف المغلقة، والممنوحة بإرادة السلطان.

انشر المقال

متوفر من خلال:

دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، حريات ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، حرية التجمّع والتنظيم ، عدالة انتقالية ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني