قطار الرئيس السريع أو فنّ القفز فوق المشكلات


2022-03-01    |   

قطار الرئيس السريع أو فنّ القفز فوق المشكلات
المصدر: من موقع رئاسة الجمهورية التونسية فيسبوك

مثّل تصريح رئيس الجمهورية في 27 جانفي 2022، بضرورة تسريع إنجاز الدراسات الأوليّة الخاصة بإنشاء قطار سريع يربط بين شمال تونس وجنوبها على امتداد الخط الساحلي. وهذا هو الوعد الأوّل الذي يمسّ مباشرة إحدى مشاكل الحياة اليومية المتراكمة للتونسيّين ولا يتعلّق بوعيد التطهير ومراسيم الحلّ والإعفاء. ردّ بنك الاستثمار الأوربي على طلب رئيس الجمهورية للقيام بتمويل هذا المشروع خلال القمة السادسة للاتحادين الأفريقي والأوروبي في بروكسل، داعيا الحكومة التونسيّة إلى تعزيز وتطوير شبكة السكك الحديدية الحالية وأسطول القطارات المتقادم. وقد عرّى الردّ الأوروبي طبيعة منظومة حكم ما بعد 25 جويلية 2021، وخصوصا فلسفة حكم رئيس الجمهورية القادم إلى قصر قرطاج محمّلا بحزمة من “الرؤى الجديدة”. “رؤى” لا ترى الإصلاح إلاّ بالهدم، ولا ترى حلّ المشاكل إلا بكنسها تحت السجّاد أو القفز عليها نحو مشاريع تُحفر أساساتها على أرض رخوة، إن وُجدت.

مشروع القطار السريع: الوعد الورطة

كانت فكرة قطار سريع TGV  يربط شمال البلاد بجنوبها، حاضرة في ذهن رئيس الجمهوريّة منذ شتاء سنة 2021. حين أعلن، خلال زيارة أدّاها في 27 فيفري 2021 إلى ولاية القيروان، أنّه يعمل على بلورة مشاريع كبرى على غرار مدّ الطرقات السريعة وربط أقصى شمال البلاد التونسية بأقصى جنوبها عبر الشبكة الحديدية السريعة. تصريح سقط من ذاكرة التونسيّين آنذاك، حين كان الرئيس سعيّد على رأس أحد السلطات الثلاث، وفي زمن سياسي مغاير، قبل أن يصبح هذا الأخير الممسك بكلّ شيء. وكما فكرة البناء القاعدي التي حملها معه منذ سنة 2012، حتى وصوله إلى الحكم، لم ينسَ رئيس الجمهورية “مشروعه”. وعليه، أمر وزير النقل ربيع المجيدي، في 27 جانفي 2022، بضرورة التسريع بإنجاز الدراسات الأولية الخاصة بالقطار السريع.

قرار يأتي بعد شهر تقريبا من الكشف عن قانون المالية لسنة 2022، والذي يعطي صورة واضحة عن واقع البلد ماليا واقتصاديّا. حيث لا يمكن لأيّ حكومة سواء هذه السنة أو في المدى القريب أن تفكّر في مشروع ضخم بمثل هذا الحجم في ظلّ المؤشرات الاقتصادية والمالية الكارثيّة، حيث سيبلغ العجز المتوّقع 6.2% أي ما يعادل 8548 مليون دينار. وما يزيد من قابلية هذا القرار للانتقاد هو أن الرئيس سعيّد يعلم أنّه لا يمكن أن يراهن على إمكانيات بلاد تفاوض صندوق النقد الدولي من أجل قرض يمكّنها من الالتزام بتعّهداتها الماليّة الداخليّة والدوليّة وأنّه لا مناص من طرق أبواب الخارج. وعليه، بدا ما قاله رئيس الجمهورية في إعلانه الأوّل عن المشروع؛ لجهة “أنّ تونس تمتلك كل المقومات من أجل تنفيذ هذه المشاريع، خلافا لما يروّج له البعض بأن بلادنا يتهدّدها الإفلاس المالي والحال أنها تعاني من الإفلاس السياسي”، خطابا شعبويا معدا للاستهلاك الداخليّ.

هنا، كانت القمة السادسة للاتّحادين الأفريقي والأوروبي ببروكسل في 17 فيفري 2022، فرصة للرئيس سعيّد للبحث عن مموّل لوعده ومشروعه. وكما جرتْ العادة، سمع التونسيّون بخبر تقدُّم رئيس الجمهورية بطلب إلى رئيس بنك الاستثمار الأوروبي فيرنر هوير لتمويل مشروع القطار السريع، ورفض هذا الأخير الفكرة، من قِبل ممثل بنك الاستثمار الأوروبي في تونس والجزائر، جان لوك ريفيريو. لم يقتصر ردّ هذا البنك، الذي بلغت استثماراته في تونس خلال العشرية الأخيرة فقط 2.5 مليار أورو، على الرفض. بل قدّم تعليلا عرّى أمام رئيس الجمهورية التونسيّة واقع قطاع النقل الحديدي في بلده. حيث اعتبر بنك الاستثمار الأوروبي أن على تونس التركيز على تحسين الشبكة الحضرية الموجودة عوض إنشاء مشاريع جديدة، نظرا لحاجة النقل العمومي إلى خطة إعادة تأهيل كبيرة. كما رأى البنك أنّه من الأجدى التفكير في قطار سريع يشقّ دول المغرب العربي بدل الاقتصار على الربط بين مدينتي تونس شمالا وصفاقس جنوبا.

لا يقتصر الإحراج في رفض المشروع وتمويله، بل في كون الأوروبيّون يرون من الخارج ما يتجاهله رئيس الجمهورية وهو أمام عينيه. فواقع قطاع النقل الحديدي وشبكة السكك الحديديّة في تونس تمثّل وجها آخر من أوجه فشل الدولة في لعب دورها الاقتصادي والاجتماعي وتوفير حدّ أدنى من الرفاه والانتظام والديمومة لإحدى أهم الخدمات الأساسيّة وهي النقل العمومي والحديديّ بالأساس.

سكك تونس تهترئ

في 02 أوت 1872، عرفت تونس تدشين أوّل خط حديدي بطول 16 كيلومترا يربط بين مدينة تونس وضاحية حلق الواد. منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم، تطوّرت شبكة السكك الحديدية ليبلغ طولها إلى حدود سنة 2017 ما يقارب 2165 كيلومترا تُستغلّ لنقل المسافرين والبضائع ويعمل عليها أسطول نقل يبلغ 138 قاطرة إضافة إلى آلاف العربات. لكنّ هذه الأرقام التي تشير إلى تطوّر كميّ كبير خلال قرن ونصف، لا تعكس حقيقة التدهور الذي يعيشه قطاع النقل الحديدي، سواء على صعيد البنية التحتيّة أو المشاكل المالية.

إذ تشير المعطيات المنشورة لدى المعهد الوطني للإحصاء، إلى تراجع الخطوط المستعملة إلى 1777 كيلومترا سنة 2017، وتاليا تقلّص سير حركة المرور الحديدي للنقل (معدّل المسافة المقطوعة للمسافر باستخدام القطار سنويّا) من 11302 كلم سنويا سنة 2009 إلى 8307 كلم سنويا سنة 2017 وانخفض حجم النشاط بالنسبة للخطوط البعيدة من 16.6 مليون مسافر إلى 6 مليون مسافر تقريبا خلال نفس الفترة. معطيات تكشف تقهقر اعتماد التونسيّين على القطار في تنقلاتهم نظرا لعدّة عوامل، على غرار تقادم الأسطول وطول مدّة السفرات حيث تستغرق الرحلة بين تونس وقابس مثلا، والتي تبعد عن العاصمة 425 كيلومترا 7 ساعات في حين تُقطع نفس المسافة في 4 ساعات تقريبا باستخدام السيّارة. تراجع حركة نقل المسافرين، انعكس بدوره على مقابيض الشركة الوطنية للسكك الحديدية، التي انخفضت إلى 49212 مليون دينار سنة 2017 في حين كانت تبلغ 54656 مليون دينار سنة 2010.

أزمة النقل الحديديّ لا تتعلّق فقط بنقل المسافرين، بل يبدو ثقلها أكبر على مستوى شحن البضائع، وخصوصا الفسفاط. إذ تشير بيانات المعهد الوطني للإحصاء إلى تراجع كميّات البضائع المنقولة عبر القطارات من 9318 ألف طن سنة 2009 إلى 3448 طن سنة 2017 وهو ما أدى إلى انخفاض الإيرادات من 63968 مليون دينار إلى 38468 مليون دينار.

انخفاض المداخيل أثر بشكل كبير على الوضعية المالية للشركة الوطنية للسكك الحديديّة وأسطولها. فهذه المُنشأة العمومية المسؤولة عن التصّرف واستغلال شبكة النّقل الحديدي و”تطويرها”، تعيش إحدى أصعب الأزمات المالية منذ نشأتها. حيث بلغت الخسائر المتراكمة 788 مليون دينار في سنة 2020، وارتفعت مديونة الشركة إلى 1478.7 مليون دينار في بداية سنة 2020. هذه الوضعية رفعت قيمة العجز بين إيرادات الاستغلال وأعباء الاستغلال سنة 2020 إلى 61.9%.

الوضع المالي الصعب للشركة الوطنية للسكك الحديديّة، انعكس أوّلا على أسطولها[1] الذي يبلغ معدل عمره 35 سنة. كما لا تتجاوز جاهزية 112 عربة مسافرين مخصّصة للخطوط البعيدة 45% إضافة إلى تقادم أعمارها البالغ 35 سنة. كما لا تتجاوز جاهزية أكثر من 1000 عربة مخصّصة لنقل الفسفاط نسبة 49%. كما امتدّ الوضع المالي الصعب ثانيا ليثقل كاهل مؤسسات عمومية أخرى ويفاقم من أزماتها المالية هي الأخرى. حيث بلغت ديون الشركة الوطنية للسكك الحديدية تجاه الصناديق الاجتماعية سنة 2019 ما يفوق 161 مليون دينار، وتجاه منشآت عمومية أخرى على غرار شركات الكهرباء والغاز والمحروقات وغيرها 100.4 مليون دينار.

أمّا الدولة، التّي لم تضفْ سوى خطّ واحد بطول 65 كم منذ خروج الاحتلال الفرنسيّ، فتبدو غير مهتمّة بشكل جديّ بإنقاذ هذا القطاع الحيويّ تخفيفا لأعباء الخسائر المتراكمة على توازنات المالية العمومية، أو استجابة لاحتياجات مواطنيها وحقنا لدمائهم. إذ أدّى اهتراء شبكة السكك الحديدية التي يعود عمر بعض خطوطها إلى 120 عاما وتقادم الأسطول إلى ارتفاع حوادث القطارات التي بلغ معدّلها سنويّا 100 حادث لعلّ آخرها وأشهرها حادث اصطدام قطارين في الضاحية الجنوبية لتونس في 07 أكتوبر 2021 والذي أدّى إلى إصابة 33 شخصا بجروح متفاوتة. ردّ فعل الدولة ورئيسها كان بإصدار أمر رئاسي[2] ينهى تكليف السيد بلقاسم الطايع بمهام رئيس مدير عام الشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية.

حلّ لا يختلف في جوهره مع التعاطي الرسمي مع مختلف المشكلات المتراكمة في البلاد، إما الحلّ أو الإعفاء أو ابتداع حلول أخرى بعيدة عن الاحتياجات الحقيقيّة للتونسيّين أو ترحيل الأزمات. فبينما تسيل دماء التونسيّين على قضبان السكك الحديديّة، ويصرخ مسؤولو الشركة الوطنيّة للسكك الحديديّة وموظّفوها منذ سنين مطالبين بوضع برنامج إصلاح حقيقيّ ورصد تمويلات للاستثمار والتجديد، تذهب الدولة باحثة عن تمويل لقطار سريع لم تجهز بعد حتّى دراسة جدواه. 


[1]  جلسة الاستماع الى وزير النقل معز شقشوق حول ملف شركة السكك الحديدية التي عقدتها لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام يوم الإثنين 5 جويلية 2021
[2]  أمر رئاسي عدد 136 لسنة 2021 مؤرخ في 8 أكتوبر 2021
انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، حرية التنقل ، مقالات ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني