قضية مالك السلّيمي: عندما يتحوّل ضحايا العنف البوليسي إلى مُتّهَمين


2022-11-29    |   

قضية مالك السلّيمي: عندما يتحوّل ضحايا العنف البوليسي إلى مُتّهَمين

ذهَب الشاب مالك السلّيمي البالغ من العمر 24 سنة، أصيل منطقة حي التضامن وسط العاصمة التونسية ومتحصّل على شهادة في التكوين المهني، ضحيّة مُطاردة أمنية يوم 30 أوت 2022 على الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا، بالتحديد على مستوى الطريق المُحوّل بجهة المنار وسط العاصمة. إذ قامت سيّارة أمنية بمطاردة دراجة نارية على متنها مالك السلّيمي وصديقه فُرات العيّاري ويوسف الكلاَعي، الذين امتثلوا في نهاية المطاف للوحدة الأمنية وقاموا بإيقاف الدراجة. إلا أن أعوان الأمن اعتدوا على مالك بالضرب فحاول الهرب منهم. وحسبما صرّح به صديقه يوسف الكلاعي للمفكرة القانونية، كان “مالك خائفا من الدورية الأمنية، إذ سبق وأن كان ضحية عنف بوليسي. لذلك أصبح يتحاشَى الامتثال لهم وحَاول الهرب منهم. وأثناء المطاردة، قام أحد الأعوان بدفع مالك بقوة ليسقط في منحدر غابي. وعند عدم قدرته على التحرك، اتّصل أعوان الأمن بالحماية المدنية وقاموا باقتيادنا إلى مركز الشرطة بحي إبن خلدون، ثم تمّ إخلاء سبيلنا على الساعة الثانية صباحا”.

إثر تلك المطاردة الأمنية، بقيَ مالك السليمي في المستشفى تحت العناية الطبية المركزة، بسبب ما لحقه من كسور بليغة على مستوى الرأس والرقبة، لتزداد حالته الصحية تعكّرًا. ومكُثَ داخل مستشفى شارل نيكول بالعاصمة على تلك الحالة إلى أن توفّي يوم 13 أكتوبر 2022. وقد تسببت وفاتُه في اندلاع مواجهات عنيفة بين قوات البوليس ومحتجين وسط حي التضامن طالبوا بكشف حقيقة العنف البوليسي الذي أدى إلى وفاة مالك السليمي ومحاسبة الجناة. وقد واجهت السلطات هذه الاحتجاجات باعتقالات في صفوف المحتجين والنشطاء.

حتى هذا اليوم، لم تشهد قضية مالك السليمي تطوّرًا ملحوظا. وقد علمت المفكرة القانونية أنه وقع إسناد إنابة عدلية لفرقة الأبحاث بالقرجاني لإجراء الأبحاث، وقامت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بالحق الشخصي.

إيقاف الشاهد الرئيسي في قضية مالك السليمي

وقعَ فجر الاثنين 17 أكتوبر 2022 إيقاف فرات العياري، شاهد العيان الأساسي في القضية،

دون تمكينه من محاميه ومن حقوقه القانونية. وتمّ احتجازه طوال 18 ساعة دون أي إذن قضائي. وتجدر الإشارة إلى أن فرات مريض سكري من النوع الأول، حسب بلاغ نشرته جمعية تقاطع من اجل الحقوق والحريات على صفحتها الرسمية، ويَعتمد علاجه الرئيسي على حقن هرمون ‏الأنسولين عدة مرات يوميًا بالكميات اللازمة لضبط مستوى السكر بالدم. وهو ما يجعل سلامته في خطر.

في هذا السياق سبق وأن أكد محاميه حمادي الهنشيري أنّ “فرات لم يكن موضوع قرار احتفاظ صادر عن وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بأريانة، وإنما كان على ذمة فرقة أمنية”. وهو خرق واضح للإجراءات الجزائية، و أضاف أنه “لم يقع القبض على فرات وهو يحتج في الشارع أو في مواجهة مع القوات الأمنية وإنما وقع القبض عليه من خلال مداهمة محل سكناه”. يتعَارض تصريح محامي الشاهد مع التّهم المنسوبة إليه والمتمثلة في إحداث الشغب وتأجيج الاحتجاجات. وفي تصريح سابق أدلى به للمفكرة القانونية، كان فرات العياري وصف وقائع الحادثة قائلا: “قامَت فرقة أمنية مُدججة بالسلاح بمداهمة منزلنا بحثا عني من أجل الضغط عليّ وثنيي عن الإدلاء بحقيقة ما جرى، ولم أكُن موجودا يومها. لذلك اصطحبتُ بعدها محاميا عندما ذهبت لمركز الشرطة للإدلاء بأقوالي”.

يُشار أيضا إلى أن اعتقال الناشط الحقوقي “سيف العيادي” ارتبط ارتباطا وثيقا بإيقاف الشاهد الرئيسي فرات العياري. في هذا السياق، صرّح سيف العيادي للمفكرة القانونية: “بعد وفاة مالك السليمي قُمت بزيارة منزل عائلته مع مجموعة من أعضاء الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من أجل الحصول على تكليف القيام بالحق الشخصي، وبعد ذلك قمت بمراسلة فرات العياري (الشاهد الرئيسي) على موقع فايسبوك يوم 17 أكتوبر 2022 على الساعة الثانية صباحا لأطمئن على أحواله وأستعلم منه حول وجود موقوفين من شباب حي التضامن أم لا”. ثم أضاف سيف العيادي بأن فرقة أمنية قامت بإيقافه يوم 19 أكتوبر المنقضي بعد خروجه من ندوة صحفية نظمتها حملة “تعلم عوم”، عندما كان يقل سيّارة تاكسي.

كان الإيقاف أشبه بعملية اختطاف، حيث قامَ أعوان بالزي المدني بإيقاف سيارة التاكسي وإنزال الناشط سيف العيادي بالقوة وإجباره على الصعود على متن سيارة لم تكن حاملة لعلامة سيارة شرطة. تم اقتياد العيادي إلى مركز الأمن بحي التضامن والاحتفاظ به إثر إذن صادر عن وكيل الجمهورية، ووُجّهت له تهمة “تكوين وفاق من أجل الإضرار بالأملاك العامة والخاصة”، وأثناء الأبحاث تم فتح هاتفَهُ الجوال بإذن قضائي للاطلاع على المحادثة التي جرت بينه وبين فرات العياري شاهد العيان الرئيسي في القضية.

 لم يُختم البحث في قضية سيف العيادي، وهو الآن في حالة سراح وحُجّرَ عليه السفر. وقد طلب العيادي رفع  قرار حجر السّفر إلا أن مَطلبه قُوبل بالرفض. في هذا السّياق، أفادَ العيادي للمفكرة القانونية أنّه حُرِِم من حضور الاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان المُنعقد مؤخرا في جنيف، نتيجة منعه من السفر، ووصف هذا التحجير  “بمثابة حرمانه من  حقه  في مساءلة الدولة التونسية”.

عائلة مالك السليمي تُطالب بالعدالة

في ظلّ تفاقم ظاهرتي العنف البوليسي والإفلات من العقاب، تزايدت مخاوف عائلة مالك السلّيمي من عدم محاسبة الجناة والمتسبّبين في وفاة ابنهم، بخاصة بعد الحكم بالسجن لمدة عامين فقط في حق 12 عون أمن وعدم سماع الدعوى في حق اثنين آخرين في قضية مقتل مُشجّع الملاعب عمر العبيدي.[1]

بالاضافة إلى هذا، فإن التصريحات الرسمية تتّجه نحو تبرئة أعوان البوليس في قضية مالك السليمي. فقد أشار فاكر بوزغاية، رئيس مكتب الإعلام والاتصال بوزارة الداخلية، إلى أنّ “ما يُروّج له بخصوص تعرّض الشاب المتوفى مالك السليمي للتعنيف من قبل أعوان الأمن فيه كثير من المغالطات”. مُضيفا بالقول “إن دورية أوقفت الشاب وصديقيه كإجراء روتيني إلا أنه عمد إلى الفرار وقفز من جدار عال وسقط، وقد تم اتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة واستشارة النيابة العمومية بالتدخل لنقل الشاب على جناح السرعة إلى المستشفى”.

هذه التصريحات أثارت تخوفات عائلة الضحية، وهي “لا تبعث على الطمأنينة” حسب ما صرح به للمفكرة القانونية محمّد السليمي عمّ الضحية. وقد عبّر أيضا عن استيائه من قيام وحدة أمنية بإيقاف الشاهد الرئيسي في القضية، قائلا: “على وزارة الداخلية عدم التدخّل في مسار البحث من خلال الضغط على الشهود من أجل تحريف الشهادات التي وقع الإدلاء بها في محاضر البحث الأولية”.

وفاة مالك السلّيمي تؤجج الاحتجاجات بأحياء العاصمة

إثر تشييع جنازة مالك السليمي يوم الجمعة 14 أكتوبر 2022، شهدت أحياء التضامن والانطلاقة وسط العاصمة التونسية احتجاجات وحالة احتقان بسبب غضب متساكني منطقة حي التضامن، الذين  نددوا بالقمع البوليسي وطَالبوا بمحاسبة الجناة، والمتسبّبين في وفاة مالك السلّيمي. تواصَلت المُواجهات بين شبان من منطقة حي التضامن وقوّات البوليس على مدى أربعة أيام. تمّ خلالها استعمال مكثف للغاز المسيل للدموع وسط المناطق السكنية. كما تخللت المواجهات مداهمات ليلية للمنازل وإيقافات عشوائية، وصدور بطاقات إيداع بالسجن في حق العديد من الشبان ومحاكمتهم  بتُهم  ”الاعتداء المدبر ليلًا وإحداث الهرج والتشويش والإضرارعمدًا بملك الدولة”.

 في هذه الأثناء، تمسكت السلطات بالتقليل من شأن الاحتجاجات وعدم إبداء أي استعداد لفتح تحقيقات نزيهة ومسؤولة في قضية مقتل الشاب مالك السليمي. وفي هذا الصدد، وصف رئيس مكتب الإعلام والاتصال بوزارة الداخلية الاحتجاجات بحي التضامن بأنها “أعمال شغب” وأكد على وجود عدد من “المندسّين” الذين شاركوا في الاحتجاجات لغايات سياسية أو لارتكاب عمليات سرقة.

ويُشير هذا التّعاطي الإعلامي إلى أن هناك إرادة رسمية منذ البداية نحو الانزياح بالقضية من أصلها الحقيقي المتمثل في وفاة مُسترابة لأحد الشبان إثر عملية مطاردة وعنف بوليسي، نحو اصطناع رواية وأحداث جديدة متمثلة في “إحداث الشغب” والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة”، لتسهيل عدم مُثول الجُناة أمام العدالة وإفلاتهم مجدّدا من العقاب.

اقتحام محل إقامة طالب بسبب منشورات فايسبوكية

لم تقتصر الإيقافات العشوائية على الشباب المُحتج بل شملت النشطاء وموثقي الاحتجاجات. فقد تم صباح الجمعة 28 أكتوبر اعتقال الطالب أحمد بهاء الدين حمادة، أصيل منطقة حي التضامن، في حدود الساعة الثالثة فجرا، إثر اقتحام محل إقامته بالمبيت الجامعي الخاص بمدينة سوسة، وهو طالب يدرس بالسنة الثانية إجازة بكلية الحقوق والعلوم السياسية بسوسة.

وقد صرّح صديقه في السكن محمد علي اللاّفي للمفكرة القانونية قائلا: “تعرّض أحمد بهاء الدين للضغوطات والضرب عند رفضه الإفصاح عن كلمة سرّ هاتفه الجوال. وصادَرت فرقة أمنية كل محتوياته (حاسوب، هاتف محمول. Modem, مراجع و مجلات قانونية) وتمّ اقتياده إلى فرقة الڨرجاني بالعاصمة على خلفية إنشاء صفحة بعنوان “حي التضامن”، ينشُر فيها أحيانا مطالب الجهة ومقاطع عن الاحتجاجات الأخيرة باعتباره من سكان المنطقة”. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الصفحة لم تتجاوز ألفي متابع قبل عملية إيقاف الطالب أحمد بهاء الدين. وحسب ما أفاد به بقية زملائه في السكن الجامعي للمفكرة القانونية فإنهم تعرضوا أيضا للتهديد من قبل الوحدة الأمنية التي طلبت منهم عدم إبلاغ عائلة أحمد بهاء الدين أو أي جهة أخرى عن عملية الاعتقال.

 وأفاد صديقه محمد علي اللافي أنّه إلى حدود يوم 31 أكتوبر لم يتمكّن المحامي أو العائلة من الاتصال به أو الاطلاع على حالته الصحية. 

وعلى خلفية تمديد فترة الاحتفاظ بالطالب أحمد بهاء الدين بـ 48 ساعة، نفّذ طلبة كلية الحقوق والعلوم السياسية بسوسة يوم الإثنين 2022 وقفة احتجاجية في ساحة الكلية للمطالبة بالإفراج الفوري على زميلهم. وفي يوم 01 نوفمبر 2022 تمَّ إطلاق سراح أحمد بهاء الدين و حفظ التهم في حقه.


[1]للوقوف أكثر حول تفاصيل قضية عمر العبيدي، انظر مقال: أميمة مهدي، حملة “تعلم عوم” في مواجهة النقابات الأمنية، المفكرة القانونية، 05 فيفري 2022.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أجهزة أمنية ، حركات اجتماعية ، حرية التعبير ، الحق في الحياة ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، احتجاز وتعذيب ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني