قراءة في التأمين الصحّي الشامل ببورسعيد: هل يشكّل نموذجاً يعوّل عليه؟


2021-08-18    |   

قراءة في التأمين الصحّي الشامل ببورسعيد: هل يشكّل نموذجاً يعوّل عليه؟
(الصورة منقولة عن موقع مصراوي)

على مدى عقود، عانى المصريّون من مشاكل في التعامل مع التأمين الصحّي والمستشفيات العامّة وكانت السلبيات متعدّدة ومتشعّبة، حتى أنّ التحرّكات الفردية لحلّ أزمة مع مستشفى أو منشأة طبّية لم تعط نتيجة. ودفعت تراكمات الإهمال التي أصابت التأمين الصحي المواطن إلى تركها والتوجّه إلى المستشفيات الخيرية أو إلى طبيب خاص. وبحسب نتائج استطلاع أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام “بصيرة”، كانت سوء المعاملة التي تلقّاها المرضى من فريق العمل، السبب الرئيسي وراء عدم الرضا (41% من المستطلعين) وتلا ذلك عدم توافر الأدوية (22%) ثم عدم توافر المعدّات، فضلاً عن الزحام في مرافق التأمين الصحّي (13%).

فكان الحلّ في تدشين منظومة تأمينية أكثر شمولاً تحلّ محل النظام القائم لتحسين صحّة المصريين. وفي يناير 2018، صدر قانون التأمين الصحّي الشامل، وأحد أهدافه تفادي أخطاء القوانين المتعدّدة للتأمين الصحّي في مصر. وكلمة “شامل” لأنه يهدف إلى شمل الجميع وهو إلزامي لكلّ المصريين، ويتلقّى فيه الجميع درجة واحدة من العلاج والخدمة والرعاية، بعكس النظام القديم الذي كان يقتصر على بعض فئات المجتمع مثل طلّاب المدارس والأطفال دون السن المدرسي والموظفين في القطاع الحكومي[1]. لم يفرّق قانون التأمين الصحي الشامل بين المصريين، حيث يشمل كل المصريين، بما في ذلك العمالة المنظّمة المدرجة في التأمينات الاجتماعية وتعمل وفق عقد عمل، كذلك شمل العمالة غير المؤمّن عليها والعمالة اليومية. ولا يشترط إلّا تقديم بطاقة الرقم القومي (الهوية الشخصية) ثمّ تسجيلها في مكاتب التابعة للهيئة، والتي تفتتح في حال شمول المحافظة في مرحلة التطبيق، ومن ثمّ تحديد مستوى الدخل لمعرفة إذا كان قادراً أو غير قادر، وإذا كان قادراً تستقطع قيمة الاشتراك الشهري من الراتب الأساسي وإن لم يكن قادراً، لا يدفع أي اشتراكات ويستفيد مثل غيره من الخدمات نفسها.

ويطبّق النظام بشكل تدريجي على ست مراحل تشملّ كلّ منها عدداً من المحافظات، وذلك بهدف تحديد أوجه القصور في كلّ مرحلة لتفاديها وتحسين مستوى الرعاية الصحية في المراحل المقبلة. وقد تمّ اختيار محافظة بورسعيد كأوّل محافظة يطبّق فيها النظام الجديد.

نركّز في هذه المقالة على مواطن القوّة والجوانب التي تستلزم التحسين في النظام الجديد بناء على تجربة محافظة بورسعيد. مع الإشارة إلى أنّ منافذ تقديم الخدمة التابعة لوزارة الصحة والمستشفيات الجامعية، ومنافذ تقديم الخدمة التابعة للهيئة العامة للتأمين الصحي، آلت إلى منظومة التأمين الصحي الشامل، ويبدأ تأهيل هذه المنافذ وفقاً لمعايير الجودة والاعتماد خلال مدّة لا تتجاوز ثلاثة أعوام من تاريخ دخول المحافظة الواقعة المنشأة فيها نطاق تطبيق القانون.

زيادة الوحدات والمراكز الصحّية

يبدأ المستفيد من خدمة التأمين الصحّي الشامل بالذهاب إلى الوحدات الصحّية أو المراكز والمستشفيات التابعة للمنظومة التي يختارها طبقاً لحالته، ويمكن الحجز عبر الخط الساخن 15344، وفي الغالب يكون التركيز على وحدات طب الأسرة التي تصنّف كمقدّمة الخدمة الصحّية الأوّلية، ويكون فيها طبيب الأسرة مسؤولاً عن تشخيص وتحويل المرضى إلى تخصّصات أخرى أو علاجهم ضمن تخصّصات وحدات الأسرة.

وخلال عام ونصف العام ارتفع عدد وحدات طب الأسرة في بورسعيد إلى 32 وحدة، تحتوي كلّ وحدة على تخصّصات (الباطنة، الأطفال، أمراض النساء، التطعيمات، تنظيم الأسرة، الأسنان، المعمل، الصيدلية). وطبّ الأسرة يعدّ المرحلة الأولى التي يمرّ بها المريض، ليقرّر الطبيب مدى حاجة المريض إلى مرحلة أخرى ثانية أو ثالثة[2] أي إلى طبيب متخصّص (الرّمد والعظام على سبيل المثال) أو يحتاج إلى تلقّي رعاية صحية في إحدى المستشفيات.

بيروقراطية تُبطئ المعاملات

أظهرت المقابلات التي أجريناها مع عدد من المرضى في بورسعيد وجود عراقيل تبطئ عمل المنظومة الجديدة أبرزها البيروقراطية والروتين الإداري وإشكاليات أخرى مرتبطة بضرورة المرور بطبيب الأسرة قبل العرض على طبيب اختصاص معيّن عبر جوابات تحويل.

فريدة عمر مثلاً اعتقدت أنّ المنظومة الجديدة ستكون مغايرة للتأمين الصحّي العام (النظام القديم) وأنّ اتجاه الدولة نحو الميكنة سيقلّل تدريجياً التعامل الورقي الروتيني، إلّا أنّها اصطدمت بالممارسات القديمة ذاتها التي تؤدّي إلى استنزاف الوقت والجهد من أجل ورقة أو قرار التحويل. تقول فريدة لـ”المفكرة القانونية”[3]: “كلّ مرحلة تأخذ وقتاً سواء للانتظار أو للحصول على ورقة لتلقّي الخدمة”. وبالتالي، يقف بطء الحصول على الخدمة عائقاً أمام المريض. وتضيف فريدة: “أنا أستنزف الوقت للحصول على خدمة يفترض أن تقدّم في أسرع وقت، لو كشفت عند طبيب خاص هيكون أسهل”.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ التأمين لا يغطّي زيارة الأطبّاء في عياداتهم الخاصّة حيث ارتفعت كشفيّاتهم بعد تطبيق منظومة التأمين الصحّي الشامل. وأعلنت الحكومة أنّها تسعى إلى التوسّع في تطبيق منظومة التأمين الصحّي الشامل وذلك بالتعاقد مع المنشآت الطبية الخاصّة وعيادات الأطباء لتعمل بجانب المنشآت الطبية المملوكة للحكومة.

وبرزت مشاكل تتعلّق بـ”طبيب الأسرة” وذلك نظراً لاختلاف آلية عمل المنظومة الجديدة عن التأمين الصحّي القديم. فالنظام الجديد يُلزم عرض المريض أوّلاً على طبيب الأسرة ثم تحويله إذا لزم الأمر إلى طبيب اختصاص، بينما في النظام القديم، كان بإمكان المريض التوجّه إلى طبيب الاختصاص المراد من دون المرور بطبيب الأسرة الذي يعتبر حجر الزاوية في نموذج الرعاية الصحية الأساسية الحديثة، وعلاجه لأفراد الأسرة جميعاً يساعد أكثر على فهم العوامل كافة التي تؤثّر على صحة الفرد.

ومجدداً يدخل الروتين الإداري المرتبط بالجوابات التي يصدرها هذا الطبيب لتحويل المريض إلى طبيب متخصّص أو إلى مستشفى، ما يجعل تقبّل المرور بطبيب الأسرة أصعب.

يقول أحمد عبد الله لـ”المفكرة”: “أعتقد أنّ التغيير والانتقال من مآسي مستشفيات التأمين الصحّي التقليدية ليس سهلاً لكن ما يروّج عن أنّ التجربة (الجديدة) أثبتت نجاحها بشكل كامل ليس صحيحاً، فالروتين مستمرّ. فلكي أحصل على جواب من طبيب الأسرة يجب أن أذهب قبل الثامنة صباحاً لحجز دور بالرغم من أنّ الدوام الرسمي هو 12 ساعة من 8 صباحاً حتى 8 مساءً، ولا يمكن الحصول إلّا على خطاب واحد للتحويل للكشف على تخصّص واحد فقط، يعني أنا لو محتاج أكشف تخصصين هحتاج يومين”.

فالعرض على تخصّصات أخرى غير موجودة في وحدة الأسرة يستلزم أن يكتب الطبيب جواب تحويل، حينها يذهب المريض إلى مستشفى يختارها وتكون خاضعة لنظام التأمين الصحي الشامل. في هذه الحالة يحصل المريض على جواب واحد فقط، لكن يجب أن يذهب عند الـ7 صباحاً[4] حتى يتمكّن من حجز دور للحصول على الجواب، وأحياناً يكتفي طبيب الأسرة بعدد محدّد في التحويلات.

ماذا عن العمّال المؤقتين وغير المنتظمين؟

لم يذكر قانون التأمين الصحّي الشامل آليّة صريحة وواضحة لضمّ العمالة غير المنتظمة أو الموسمية التي لم يؤمن عليها، لعدم إدراجهم في منظومة تأمينية، لكنه تطرّق إلى نقطتين في مادتين، الأولى في المادة الثانية حينما ذكر المشرع تحمّل الدولة تكاليف علاج غير القادرين، وتلك الفئات تحدّدها لجنة تتشكّل من وزارتي التضامن الاجتماعي والماليّة والجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء.

كما ذكر المشرّع في المادة (41) “التزام العامل لدى نفسه والمهني والحرفي من غير ذوي المرتّبات المنتظمة ورب الأسرة غير الخاضع لقوانين التأمين الاجتماعي بسداد اشتراكه واشتراك[5] الزوجة غير العاملة والتي ليس لها دخل ثابت، ومن يعيش في كنفه من الأبناء والمعالين”، وذكرت المادة ذاتها أنّ تلك الفئة يمكن أن تعفى في حال شمولها ضمن الفئات غير القادرة.

ستعمّم المنظومة المطبقة في بورسعيد على كلّ المحافظات على مراحل ومن المفترض أن تواجه نحو 8 ملايين عامل مؤقت/ غير منتظم. يقول محسن نشأت، رئيس جمعية الباعة الجائلين والأعمال الحرّة في بورسعيد، لـ”المفكرة” إنّ هناك نحو 25 ألف بائع متجوّل وعامل حرّ يندرجون تحت العمالة الموسمية في بورسعيد ويدفع جميعهم الاشتراكات التي نصّ عليها القانون من دون شمولهم ضمن الفئات غير القادرة[6].

ويضيف: “خصم الاشتراكات أصبح إلكترونياً سواء على المعاش لمن أمّن على نفسه ذاتياً أو حينما يجري الشخص إجراءً حكومياً “مميكناً” (إلكترونياً) سيظهر المبلغ المراد سداده إذا تخلّف عن السداد حتى يقدّم أوراقاً تثبت عدم ملكيّته أراضٍ أو عقارات أو عدم وجود مصدر دخل ثابت لديه”.

ويلفت نشأت إلى أنّ الباعة الجائلين من الشاق عليهم دفع اشتراك شهري لهم ولذويهم، لأنهم ضمن العمالة غير المنتظمة التي يفترض أن يشملها القانون ضمن الفئات غير القادرة، موضحاً: “البائع الجائل ممكن يشتغل يوم وعشرة لا، وعدد كبير من الباعة الجائلين، بسبب التغيرات التي أعقبت انتشار فيروس كورونا كوفيد19 لم يعد يعمل كالسابق”.

الإيجابيات وأوجه القصور في المنظومة الجديدة

إذا أردنا تقييم التجربة الأولى ببورسعيد، يمكن القول إنّ المنظومة الجديدة أحدثت إيجابيات تمثّلت في الارتقاء بمستوى الخدمة بالكامل في المستشفيات، بدءاً من مؤشرات الأمان مروراً بموظّفي الاستقبال والطاقم الطبي في مراحل عملية التسجيل والتوجيه، مع وجود أماكن مناسبة للانتظار في معظم المستشفيات، ووجود نظام محدّد لدخول المرضى إلى غرف الكشف[7]، ومن ناحية نظافة المستشفيات والوحدات الصحية وارتفاع مستوى البنية التحتية والمباني والأجهزة والمعدّات التي تقدّم الخدمات[8]. وربما أبرز ما ظهر خلال الأشهر الماضية كان الاهتمام بمعايير الجودة المختلفة نظراً لوجود هيئة مختصة بمراقبة الجودة في مستشفيات التأمين.

في المقابل، كان سقف التوقعات مرتفعاً بخصوص إنهاء الإجراءات أو التعامل مع مقدّمي الخدمة بشكل يخلو من الصعاب. ولكن بحسب ما يقول الدكتور علاء غنّام، عضو لجنة إعداد مشروع قانون التأمين الصحّي الشامل لـ”المفكرة”[9]، فإنّ التعقيد مستمرّ وذلك نتيجة نقص الخبرة لدى الإدارة.

كما رصدت دراسة[10] وجود أوجه قصور في تقديم الخدمة في بورسعيد، وتضمّنت تعقيد إجراءات التحويل، وطول فترات الانتظار وسوء تنظيم عملية التسجيل والفحص الأوّلي رغم وجود مناطق انتظار متعدّدة، وهو ما أثار ردود فعل سلبية لدى المواطنين.

يعلّق غنّام على إشكالية التأخّر وتعقيد الإجراءات التي يعاني منها عدد كبير من المستفيدين ببورسعيد خلال الفترة السابقة، بالقول إنّها يمكن أن تعالج وإنّ تصحيح الأخطاء يجب أن يرتكز على الجهات الرقابية المتمثلة في البرلمان. كما اقترح تأسيس روابط للمرضى للوقوف على أوجه القصور.

يمكن حلّ بعض الإشكاليات السابقة إذا فعّلت منظومة التأمين الصحي الشامل نظم الميكنة الإلكترونية التي هي بالفعل جزء من خطة الدولة، لكنها لم تطبّق في الإجراءات إلا لتحصيل الأموال، بالرغم من وجود اتفاق بين وزارتي الصحة والاتصالات، على وضع نظام إلكتروني لتقديم الخدمة الطبية للمواطنين بشكل متطوّر، ولكي ترتبط بيانات المستفيد من الخدمة لدى جميع الجهات الحكومية.

وعليه فإنّ العمل على التحوّل الإلكتروني سيسهّل إحالة المواطنين من الوحدات الصحّية إلى أقرب المستشفيات بشكل إلكتروني، كما يفترض أن تحدّث تجربته في المحافظة الصغيرة قبل أن ينتقل النظام الجديد إلى المراحل الأخرى في محافظات أكبر حجماً وأكثر عدداً بينها محافظات من الأكثر فقراً، فهل تتفادى الهيئات الثلاث أوجه القصور التي حدثت في بورسعيد ويعالج الأمر أم يستمر الوضع كما هو عليه.

  1. حدّد القانون الذي صدرت لائحته التنفيذية في مايو 2018، مدّة تطبيقه في كلّ المحافظات بـ15 عاماً بحد أقصى، فيما تشير تصريحات رسمية إلى أنّ الحكومة تعمل على أن يغطّي الجمهورية خلال 10 سنوات.
  2. يعرّف القانون مستويات الرعاية الصحّية على النحو التالي: المستوى الأوّل: خط الدفاع الأوّل ضد المرض، ويهتمّ بالجانب الوقائي والإحالة وتعزيز الصحّة ومكافحة انتشار المرض في مرحلة ما قبل الإصابة به، وتتولّى العيادات المجمّعة والمرافق الصحّية تقديم خدمات الرعاية الصحية الأوّلية وهي خدمة شاملة تهتم بعافية الفرد والمجتمع. المستوى الثاني: ويشمل مرحلة تشخيص المرض وعلاجه، وتتولّاه المستشفيات. المستوى الثالث: يشمل مرحلة إعادة التأهيل للحالات الخاصّة من المرض وتتولّاه مراكز الكلى التخصّصية، ومراكز القلب والمراكز ذات الطبيعة المماثلة.
  3. جرى الحديث يوم 14 يونيو 2021.
  4. دراسة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية “تجربة التأمين الصحّي الشامل في بورسعيد”
  5. نسبة اشتراك المواطنين في القانون الحالي تتراوح بين 1 إلى 5% للشخص المؤمّن عليه وأصحاب المهن الحرة، وكذلك أعضاء المهن الحرّة. أما الأرامل والمستحقين للمعاشات وأصحاب المعاشات فيتمّ خصم 2% من قيمة المعاش الشهري. في المتوسط تصل قيمة اشتراك الأسرة، إلى 7% من إجمالي دخلها الشهري.
  6. جرى الحديث يوم 24 يونيو 2021
  7. الدراسة السابقة.
  8. دراسة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية “تجربة التأمين الصحي الشامل في بورسعيد”
  9. جرى الحديث يوم 23 يونيو 2021
  10. الدراسة السابقة.
انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، تحقيقات ، البرلمان ، مؤسسات عامة ، تشريعات وقوانين ، الحق في الصحة ، الحق في الصحة والتعليم ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني