قانون المستعمِر: الإصلاحات القضائية الإسرائيلية من منظور تاريخي وسياسي


2023-05-22    |   

قانون المستعمِر: الإصلاحات القضائية الإسرائيلية من منظور تاريخي وسياسي
المحكمة العليا الاسرائيلية- ويكيبيديا

في 4 كانون الثاني 2023، بعد أقلّ من أسبوع على أداء الحكومة الإسرائيلية الأخيرة اليمين الدستورية، أعلن وزير العدل ياريف ليفين عن عملية إصلاح وإعادة هيكلة مثيرة للجدل للمنظومة القضائية. وهذه الإصلاحات المقترحة التي باتت تُعرف باسم خطة ليفين تتألف من عناصر تقنية وتغييرات قانونية عدة، غير أنّ جوهرها يكمن في تقييد نفوذ المحكمة العليا الإسرائيلية مع تعزيز سلطة البرلمان – الكنيست – لتمرير القوانين مع عدد أقل من العقبات.[1] وفي حال اعتماد هذه الإصلاحات، فهي ستؤدي إلى ترجيح كفة الحكومة على حساب السلطة القضائية. فبينما كان بإمكان المحكمة العليا في الماضي إبطال بعض القوانين بعد إقرارها من قبل الكنيست في حال تعارضها مع أحد القوانين الأساسية لدولة إسرائيل، من شأن الإصلاحات المقترحة منح الحكومة قدراً أكبر من السلطة للحكم من دون أي عوائق.

ومنذ الإعلان عن هذه الخطّة، شهدتْ إسرائيل تظاهرات حاشدة استنكر فيها المتظاهرون تحوّل النظام إلى حكم استبدادي. وقد اتّهِم هؤلاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتضارب صارخ في المصالح نظراً إلى أنّ الإصلاحات القانونية ستمنحه الفرصة للحصول على حصانة برلمانية في محاكمته التي لا تزال مستمرة في تهم تتعلّق بالفساد، الأمر الذي كان يحاول الضغط لتحقيقه منذ أوائل العام 2020 على الأقل.[2] توصف أيضاً الحكومة الجديدة باليمينية الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل، نظراً إلى أنّه، إلى جانب حزب الليكود بزعامة نتنياهو، يضمّ الائتلاف الحاكم حزب القوة اليهودية بزعامة إيتامار بن غفير والحزب الصهيوني الديني بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وكلاهما من المستوطنين القوميين المتطرّفين في الضفة الغربية، ومعروفان بماضيهما في التحريض على العنف العنصري ضد الفلسطينيين.[3]

على ضوء هذه الخلفية، تبدو الاحتجاجات الإسرائيلية وكأنّها تضع المعسكر الليبرالي كمدافع عن “سيادة القانون” في وجه صعود تيار يميني متطرّف غير مسبوق. هذه هي الرواية الشائعة التي يتناقلها العديد من المعلّقين الدوليين الذين يراقبون التظاهرات ويناقشون مستقبل “الديمقراطية” في إسرائيل. غير أنّنا إذا ما تعمّقنا في هذه المسألة، ندرك أنّ الدفاع عن المحكمة العليا هو أبعد ما يكون عن موقف ديمقراطي أو مناهض للسلطوية والاستبداد. يجب وضع القانون بشكل عام، والمحكمة بشكل خاص، ضمن السياق التاريخي والسياسي ذي الصلة الذي تعمل فيه. والسياق ذو الصلة هنا هو الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني.[4] إذا ما ركز المراقبون على الشعب الفلسطيني في النقاش، فإن سجلّ المحكمة العليا يظهر بوضوح أنّها لطالما كانت داعمة للممارسات الإسرائيلية الاستعمارية والعنف العسكري.

ماذا تعني المحكمة العليا الإسرائيلية بالنسبة إلى الفلسطينيين

من وجهة نظر الفئة المستعمَرة، لم تختلف النتيجة كثيراً سواء مع القيادات اليمينية أو اليسارية للمشروع الاستعماري الصهيوني. فحزب عمال صهيون المهيمن، اليساري في ظاهره، بقيادة دافيد بن غوريون هو الذي نفذ في العام 1948 التطهير العرقي لأكثر من 750,000 نسمة من السكان الأصليين، وهي النكبة بالنسبة إلى الفلسطينيين، للشروع في بناء دولة إسرائيل الاستيطانية. وتعليقاً على المتظاهرين الإسرائيليين “المؤيدين للديمقراطية” المنحدرين من هذا التقليد السياسي، كتب المؤرخ إيلان بابيه أنّ “صهيونيّتهم الليبراليّة قائمة على سلسلة من التناقضات: إسرائيل كمحتلّ مستنير، ومطهّر عرقي مُحسِن وخيري، ودولة فصل عنصري تقدّمية”.[5] ويضيف أنّ المسؤولين العسكريين الإسرائيليين “الذين ارتكبوا جرائم حرب لا حصر لها في قطاع غزة، وقبل ذلك في الضفة الغربية ولبنان، يضطلعون اليوم بدور حاسم في كتلة المعارضة الناشئة”.[6] إنهم يخشون من أن يؤدّي تقويض المحكمة العليا من خلال الإصلاحات القضائية، إلى تحويل إسرائيل إلى دولة منبوذة عالمياً، كما فعل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في الماضي، فتفقد شرعيتها كدولة ليبرالية وديمقراطية.

تضطلع المحكمة العليا الإسرائيلية بوظيفتين رئيسيتين: وظيفة محكمة استئناف ووظيفة محكمة عدل عليا.[7] وهي قد كسبت تأييداً شعبياً واسعاً من خلال الوظيفة الثانية. كما اكتسبت لكونها أعلى سلطة قضائية في إسرائيل مكانة بارزة لمراجعتها الإجراءات التي تتخذها الحكومة والجيش داخل الأراضي المحتلة منذ العام 1967. غير أنّ سجلّها في هذه الأراضي المحتلة يعبّر عن طبيعتها غير الديمقراطية والاستعمارية. فصلاحيّة المحكمة تشمل المناطق الواقعة تحت الاحتلال العسكري حيث يقيم حوالي خمسة ملايين فلسطيني من دون حقوق مواطنة في الدولة التي تنبثق منها هذه السلطة القضائية. وهي تقوم بالتالي بسنّ تشريعاتها بشأن رعايا غير مواطنين خاضعين للاحتلال؛ الفلسطينيون ملزمون بقوانين الدولة المستعمِرة لكن من دون التمتّع بحقوق سياسية. المحكمة، إذاً، لا تعترف بأنّ سيطرة النظام الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة هو احتلال، وإنّما توافق على موقف الدولة بأنّها أراضٍ “متنازع عليها”. لكن الإجماع الراسخ بموجب القانون الدولي هو أنّ هذه الأراضي هي أراضٍ محتلة، إلا أنّ دولة إسرائيل لم تتعهّد سوى باحترام تنفيذ “البنود الإنسانية” لاتفاقيات جنيف.

من الأمثلة المعاصرة حيث قامت محكمة العدل العليا بفرض عقوبات على العنف العسكري الإسرائيلي كان خلال تظاهرات مسيرة العودة الكبرى في العامين 2018/19. عندما نظم الفلسطينيون سلسلة من الاحتجاجات السلمية على طول السياج الأمني الحدودي المحيط بقطاع غزة – وذلك للمطالبة بإنهاء الحصار المستمر منذ عام 2007 والعودة إلى أراضيهم ومنازلهم التي انتُزعت منهم في عام 1948 – جاء رد الجيش الإسرائيلي من خلال قنّاصة أطلقوا النار لقتل وإصابة المدنيين، فضلاً عن الصحافيين والمسعفين.[8] ولإخماد هذه المسيرات، قتل الجيش الإسرائيلي 214 فلسطينياً وجرح أكثر من 36.000 – ومن بين هؤلاء الجرحى، تم تسجيل أكثر من 8.000 إصابة بالذخيرة الحية.[9] والجدير بالذكر أنّ أحد القنّاصين الإسرائيليين اعترف بإصابة “42 رُكبة في يوم واحد”، موضحاً كيف أصبح تشويه المتظاهرين سياسة متعمّدة ومحسوبة.[10] بعد شهر من التظاهرات التي استمرّت لمدة عام، كان بإمكان المحكمة العليا فرض القيود والحد من استهداف المتظاهرين العزّل. لكن عندما طلبت المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان إعادة النظر في سياسة إطلاق النار التي انتهجها القنّاصة، رفضت المحكمة العرائض المقدّمة، منحازةً إلى سلوك الجيش الإسرائيلي.

أما ممارسات العنف الأخرى التي ارتكبتها الدولة وسمحت بها المحكمة العليا على مرّ السنوات، فتتراوح، على سبيل المثال لا الحصر، بين منع لمّ شمل العائلات[11] إلى استخدام التعذيب.[12] أما في ما يتعلق بممارسة الاعتقال الإداري من قبل الجيش الإسرائيلي، فهي لم تسمح أبداً بتقديم التماس للطعن في اعتقال الفلسطينيين لأجل غير مسمّى من دون محاكمة.[13] في العام 2019، وافقت المحكمة أيضاً على سياسة إسرائيل الصارمة القاضية باحتجاز جثامين القتلى الفلسطينيين.[14] فقد اعتمد النظام الإسرائيلي، لعقود من الزمن، هذا الإجراء المتمثل في احتجاز جثامين القتلى الفلسطينيين – وبعضها محتجز في معهد غرينبيرغ للطب الشرعي، التابع لجامعة تل أبيب – “كأوراق تفاوض ومساومة” للإكراه على تقديم تنازلات أثناء المفاوضات أو في صفقات تبادل أسرى محتملة.[15]

في ما يتعلق بمسألة التوسّع الاستعماري، تساهم المحكمة العليا في سياسة تهجير الفلسطينيين. لقد أصبحت منطقة مسافر يطا مؤخراً هدفاً بارزاً للاحتلال الإسرائيلي في المنطقة (ج) من الضفة الغربية. فمن المقرر طرّد 1200 فلسطيني قسراً من جنوب الخليل؛ وهي منطقة لطالما سعى المستوطنون الإسرائيليون إلى استيطانها. في شهر أيار 2022، رفضت المحكمة العليا الطعون لاستئناف أوامر الإخلاء المعلّقة في مسافر يطا، وقبلت بشكل أساسي حجة الدولة الإسرائيلية بأنّ الأرض عبارة عن موقع تدريب عسكري مغلق لا يحقّ للسكان الفلسطينيين العيش فيه.[16]

تقرّ المحكمة العليا، إذًا، بتعريف الدولة على أنّها “يهودية وديمقراطية”، كما تؤكد أنّ هذا التعريف يستلزم الحفاظ على غالبية يهودية في إسرائيل.[17] ومن الآثار المقصودة وراء ذلك استبعاد إمكانية عودة اللاجئين الفلسطينيين كما المطالبة بمنازلهم وأراضيهم داخل حدود دولة إسرائيل. كما أخضع التعريف أيضاً فلسطينيي 48 (المعروفون باسم المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل أو فلسطينيي الداخل) لعقود من التمييز. تاريخياً، تعاملت الدولة الإسرائيلية ونظامها القانوني مع الأقلية الفلسطينية في أفضل الأحوال كمواطنين من الدرجة الثانية، وأخضعتهم، في أسوأ الأحوال، للممارسات الاستعمارية نفسها والقمع العسكري عينه الموجه ضد فئات أخرى تتمتع نظرياً بعدد أقلّ من الحقوق المكرسة في القانون.

كان لا بدّ من منح الجنسية للفلسطينيين الذين بقوا في مناطقهم ولم يُطردوا في العام 1948 كحلّ وسط ضروري للحصول على الاعتراف الدولي الليبرالي بسيادة دولة إسرائيل الاستيطانية الجديدة.[18] غير أن المواطنة والجنسية لم تعنِ قط المساواة الكاملة في ظلّ دولة تقوم على الطبقية العرقية، حيث يتمتع اليهود بمكانة مميزة وفوقية على العرب الفلسطينيين. إنّ فهم العرق كبناء اجتماعي والعنصرية كأسلوب حكم يساعد على فهم عدم التكافؤ والتفاوت في المكانة بين مواطنين متساوين ظاهرياً. في العام 2021، أعادت المحكمة العليا التأكيد على شرعيّة التمييز العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين من خلال إقرار دستورية قانون الدولة القومية للعام 2018. وفقاً لمركز عدالة (المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل)، يكرّس القانون “السيادة اليهودية على المواطنين الفلسطينيين” و”يتّسم بخصائص الفصل العنصري ويتطلّب أفعالاً عنصرية كقيمة دستورية”.[19] وبحسب الباحثة لانا طاطور، فإن قانون الدولة القومية “يؤكد الواقع” كما يعيشه ويختبره الفلسطينيون. وهذا الواقع هو عبارة عن عقود من الاحتلال والفصل العنصري والاستعمار.[20]

في العام 2022، أبدتْ المحكمة العليا أيضاً تأييدها لتعديل يعود إلى العام 2008 لقانون المواطنة الصادر في العام 1952 يسمح بسحب الجنسية من فلسطينيي 48 المتهمين “بخيانة الأمانة” – وهو مفهوم واسع وفضفاض يواجه الفلسطينيون المتهمون “بالإرهاب” على أساسه خطر الترحيل.[21] في العام 2021، وتحت ذريعة مماثلة، تمّ تجريد صلاح حموري، وهو فلسطيني يقيم في القدس، من حقوق إقامته.[22] من خلال تعديل لقانون الدخول إلى إسرائيل تم إقراره في العام 2018، ألغت وزارة الداخلية هويته المقدسية وإقامته الدائمة.[23] أوقف حمّوري في البداية رهن الاعتقال الإداري على خلفية تهم تتعلق بـ “الإرهاب” بسبب عمله في مجال حقوق الإنسان مع مؤسسة “الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان”، وهي منظمة غير حكومية فلسطينية، تُعنى بمساعدة السجناء صنّفتها إسرائيل بأنها “منظمة إرهابية” إلى جانب خمس منظمات حقوقية فلسطينية أخرى. وبعد رفض المحكمة العليا الإسرائيلية طلب الطعن في قرار إلغاء حقوق إقامته بذريعة “خيانته الأمانة” المزعومة، تمّ إبعاد حموري عن وطنه.[24]

القدرة التحرّرية المحدودة للمحكمة العليا

على الرغم من وضوح سجلّها في فرض العقوبات على عنف الدولة الممارس ضد الفلسطينيين، أصبحت المحكمة العليا مؤسّسة ذات شعبيّة كبيرة. من خلال السماح للعرائض والالتماسات المقدّمة من السياسيين والمجتمع المدني للطعن في شرعيّة السياسات الحكوميّة، أصبحت المحكمة موقعاً رئيسياً للمنافسة السياسية والمناظرات العامة العلنية. كما يُنظر إليها في الغالب على أنّها “ناشطة” (activist) – بالمعنى الإيجابي والسلبي للكلمة.[25] غالباً ما ينتقد معسكر اليمين الصهيوني الديني المحكمة لعرقلتها مشروعه الاستيطاني التوسعي. وهي تستمدّ نصنيفها بأنّها “ناشطة” جزئيا من بعض المراجعات القضائية التي تؤدي أحياناً إلى أحكام لصالح مقدّمي طعون يسعون إلى حماية الفلسطينيين. على سبيل المثال، حكمت المحكمة مؤخّراً، في نيسان 2023، ضدّ محاولة أقدم عليها مستوطنون إسرائيليون لطرد عائلة فلسطينية من منزلها في حي سلوان في القدس الشرقية.[26]

غير أنّ المحكمة العليا ترفض التعامل مع المسائل الهيكلية للظلم، التي تعتبرها مسائل عامة. فمسألة شرعية المستعمرات وحواجز التفتيش وجدار الفصل العازل كلّها مسائل عامة ترفض المحكمة النظر فيها. بدلاً من ذلك، تسمح المحكمة بالنظر في مسائل تتعلق بعنصر واحد فقط: إما مستوطنة واحدة أو حاجز تفتيش واحد أو مسلك جزئي من جدار الفصل.[27] بالتالي، فهي تحجب السياق التاريخي والسياسي الذي تندرج ضمنه هذه المسائل. بحسب الباحث القانوني نمر سلطاني، من خلال هذا النوع من الخطوات القانونية والخطابية، تشرّع المحكمة العليا فعلياً الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي. فهي قد تتدخل لصدّ أكثر التجاوزات الإسرائيلية عنفاً، ولكن من دون إلحاق أي أذى بالمشروع الاستعماري بشكل عام. ويخلص سلطاني إلى أنه “ما من سبب يدعو الفئة المستعمَرة إلى الوثوق بالمؤسسات الاستعمارية المعنية بسيادة القانون.”[28]

بعض المنظمات الفلسطينية لا تزال مصرّة على قيمة “المقاومة القانونية” من خلال النظام القضائي الإسرائيلي، على الرغم من إدراكها أنه من غير المرجّح أن تحقق محاكم الدولة القامعة أيّ إجراءات حقيقيّة باتجاه إحقاق العدالة أو التحرير. فقد أشار المحامي الفلسطيني حسن جبّارين، أحد مؤسسي مركز “عدالة”، إلى أنّ تقديم الطعون إلى المحكمة العليا نادراً ما يؤدّي إلى إنصاف قانوني محلي للضحايا الفلسطينيين. فما يمكن للطعون تحقيقه هو حشد الأدوات التي تتخطّى وظيفة المحاكم المحلية. وبالاستناد إلى القضايا المرفوعة خلال انتفاضة الأقصى (2000-2005)، يشير جبارين إلى تأثيريْن إيجابييْن رئيسييْن تمكّنت هذه الطعون من تحقيقهما: إنشاء سجل تاريخي للأحداث والوقوف بالتالي في وجه محاولات قمع تغطية عمليات الجيش الإسرائيلي؛ وحشد الدعم الدولي، على سبيل المثال في الأمم المتحدة أو في المحاكم الدولية، من خلال ترسيخ الطعون في مبادئ القانون الدولي.[29]

ورغم ذلك، يستخدم مؤيّدو المحكمة العليا عملها كدليل على شكل قانوني ومنظم للحكم الإسرائيلي. وللدّفاع عن سلوكه المعادي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، غالباً ما يشير النظام الإسرائيلي إلى قرارات المحكمة كدليل على “حماية حقوق السكان المحليين”.[30] بالإضافة إلى ذلك، يخشى منتقدو الإصلاحات القضائية لخطة ليفين، أن يؤدّي تقويض سلطة المحكمة إلى تعريض الجنود الإسرائيليين وإخضاعهم لولاية المحكمة الجنائية الدولية واختصاصها. فقد أطلق أستاذ القانون الأمريكي والمناصر الشهير الداعم لإسرائيل ألان ديرشوفيتز مؤخراً على المحكمة العليا تسمية “القبة الحديدية القانونية” – وذلك في تشبيه لنظام الدفاع الجوي الذي يعترض الصواريخ التي تطلقها الجماعات المسلحة في قطاع غزة على إسرائيل. بحسب ديرشوفيتز، عندما تنظر المحكمة في سلوكيات الجنود الإسرائيليين، فذلك قد يفشل محاولات المحكمة الجنائية الدولية في فتح تحقيق في جرائم الحرب.[31] فوفقاً لمبدأ “التكامل” للمحكمة الجنائية الدولية، لا يمكن القبول بقضية تكون قيد التحقيق من قبل دولة إذا ما كانت خاضعة لولاية هذه الدولة.

إن شرعنة المحكمة العليا للممارسات الإسرائيلية الاستعمارية والقمع الإسرائيلي العسكري، المقترنة بإمكاناتها التحرّرية المحدودة، تدفع إلى توخي الحذر في ما يتعلق باستخدام الوسائل القانونية كأداة أساسية للمقاومة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التعامل مع نظام قانوني جائر لا يحقق سوى القليل من العدالة للفلسطينيين، قد يؤدي إلى عواقب غير مقصودة ويعزز شرعية هذا النظام. في نهاية المطاف، يواصل الفلسطينيون الاستفادة واستخلاص الدروس من مجمل مخزون النضالات ضد الاستعمار والتدابير التي تبنتها أيضاً حركات تحريرية أخرى ناجحة ضد الهيمنة الاستعمارية، والتي تشمل، إلى جانب المقاومة القانونية في المحاكم الوطنية والدولية، تكتيكات أخرى مثل الإضرابات والتظاهرات والكفاح المسلّح والحملات العالمية مثل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.

عندما نلاحظ أنّ فلسطينيي 48 غائبون إلى حد كبير عن الاحتجاجات المناهضة للحكومة، تنهار بسرعة مقولة إنّ ثمّة استبدادا متمرّدا قد فجّر فقاعة الديمقراطية الليبرالية. فقد خرج فلسطينيو 48 بكامل قوّتهم خلال الانتفاضة الشعبية في العام 2021، المعروفة باسم “انتفاضة الوحدة”، والتي شاركت فيها جميع الفئات الفلسطينية المتشرذمة، داخل فلسطين التاريخية وفي الشتات، في مقاومة الاستعمار والنظام الإسرائيلي.[32] لذلك ليس من المستغرب أن يكون لديهم تحفّظات على الانضمام إلى التظاهرات “المؤيّدة للديمقراطية” والجهود المبذولة لإنقاذ المحكمة العليا الحالية.

كان مهندسو التطهير العرقي لفلسطين في العام 1948 يطمحون هم أيضاً إلى دولة ديمقراطية ليبرالية. فقد اعتبروا حكم الأقلية المستوطنة شكلاً غير شرعي في النظام الدولي آنذاك؛ وهذا جزء من سبب لجوئهم إلى الطرد الجماعي للفلسطينيين حتى يتمكنوا من بناء دولة قومية ذات غالبية يهودية بسمات ليبرالية وديمقراطية. بالصيغة الحالية، لا يبدو المتظاهرون الإسرائيليون بعيدين عن ذلك التاريخ وإنما هم يعززون الإرث القاضي بإلغاء الوجود الفلسطيني. وفي حين أنّ نتيجة هذا الصراع بين القطبين الليبرالي واليميني الديني للمجتمع الاستيطاني الإسرائيلي لن تُحسم قبل جلسة الكنيست الصيفية على الأقل، فإن الحفاظ على المحكمة العليا يعني تأمين موقعها في تشريع عملية استعمار فلسطين.

(ترجمة غادة حيدر)

لقراءة المقال باللغة الانكليزية اضغط هنا


[1]  للاطلاع على تحليل مفصل لخطة ليفين، يُرجى مراجعة سوسن زاهر، (2023) ” The Impact of Israel’s Judicial Reforms on Palestinians – A Legal Perspective” (تأثير الإصلاحات القضائية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني – منظور قانوني)، مؤسسة روزا لوكسمبورغ، متوفر على الرابط https://www.rosalux.ps/the-impact-of-israels-judicial-reforms-on-palestinians-a-legal-perspective-7482/.

[2]  هنريت شقر، (2023) “Israel’s attorney general accuses Netanyahu of breaking the law” (المدعي العام الإسرائيلي يتهم نتنياهو بخرق القانون)، رويترز، متوفر على الرابط https://www.reuters.com/world/middle-east/israels-attorney-general-netanyahu-involvement-judicial-overhaul-is-illegal-2023-03-24/ (تمت زيارة الرابط في 26 نيسان/أبريل 2023)؛ بي بي سي نيوز (2020)، “Benjamin Netanyahu asks for immunity from prosecution” (بنيامين نتنياهو يطلب الحصانة من المحاكمة) منشور، متوفر على الرابط https://www.bbc.co.uk/news/world-middle-east-50968109.

[3]  هآرتس (2022) ” Netanyahu’s Government, the Most Right-wing in Israel’s History, Takes Office” (حكومة نتنياهو، الحكومة اليمينية الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، تستحوذ على السلطة)، متوفر على الرابط https://www.haaretz.com/israel-news/2022-12-28/ty-article-live/far-right-finance-minister-will-also-be-in-charge-of-west-bank/00000185-5865-d6a2-adf5-79e5d1c50000.

[4]  على سبيل المثال، يُرجى مراجعة عمر جباري سالامانكا ومجموعة من المؤلفين (2012)، ” Past is Present: Settler Colonialism in Palestine.” (الماضي هو الحاضر: الاستعمار الاستيطاني في فلسطين.) Settler Colonial Studies ، 2 (1)، 1-8؛ أريج صباغ – خوري، (2022)، ” Tracing Settler Colonialism: A Genealogy of a Paradigm in the Sociology of Knowledge Production in Israel” (تتبع الاستعمار الاستيطاني: أنساب نموذج في سوسيولوجيا إنتاج المعرفة في إسرائيل)، Politics & Society، 50 (1)، 44-83.

[5]  إيلان بابيه (2023) “Fantasies of Israel” (أوهام وتخيلات إسرائيل)، New Left Review، متوفر على الرابط https://newleftreview.org/sidecar/posts/fantasies-of-israel

[6]  المرجع السابق.

[7]  إن دوام وجود المحكمة العليا هو إرث من فترة الانتداب البريطاني (1922-1948).

[8]  جاسبير بوار وغسان أبو ستة، (2019) “Israel is trying to maim Gaza Palestinians into silence” (إسرائيل تحاول تشويه فلسطينيي غزة لإسكاتهم)، قناة الجزيرة الإنجليزية، متوفر على الرابط https://www.aljazeera.com/opinions/2019/3/31/israel-is-trying-to-maim-gaza-palestinians-into-silence

[9]  مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، (2020)، ” Two Years On: People Injured and Traumatized During the ‘Great March of Return’ are Still Struggling” (بعد مضيّ عامين: الأشخاص الذين أُصيبوا بجروح وصدمات خلال “مسيرة العودة الكبرى” لا يزالون يكافحون)، متوفر على الرابط https://www.un.org/unispal/document/two-years-on-people-injured-and-traumatized-during-the-great-march-of-return-are-still-struggling/

[10]  هيلو جليزر، (2020) ، “’42 Knees in One Day’: Israeli Snipers Open Up About Shooting Gaza Protesters” (42 ركبة في يوم واحد: قناصة إسرائيليون يتحدثون بصراحة عن إطلاقهم النار على متظاهري غزة)، هآرتس، متوفر على الرابط https://www.haaretz.com/israel-news/2020-03-06/ty-article-magazine/.highlight/42-knees-in-one-day-israeli-snipers-open-up-about-shooting-gaza-protesters/0000017f-f2da-d497-a1ff-f2dab2520000

[11]  مازن مصري، (2013) ” Love Suspended: Demography, Comparative Law and Palestinian Couples in the Israeli Supreme Court” (الحب المعلق: الديموغرافيا والقانون المقارن والأزواج الفلسطينيون في المحكمة العليا الإسرائيلية)، Social & Legal Studies، 22 (3) 309-334.

[12]  أردي إمسيس، (2001) ” Moderate Torture on Trial: Critical Reflections on the Israeli Supreme Court Judgement concerning the Legality of General Security Service Interrogation Methods” (تعذيب معتدل في المحاكمة: تأملات نقدية في حكم المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن شرعية أساليب الاستجواب المعتمدة من قبل أجهزة الأمن العام)، 19 Berkeley J. Int’l Law. 328؛ نيلس ميلزر، (2018) “UN expert alarmed at Israeli Supreme Court’s ‘license to torture’ ruling” (خبير دولي يبدي القلق بشأن “التصريح بالتعذيب” من المحكمة العليا الإسرائيلية)، متوفر على الرابط https://www.ohchr.org/en/press-releases/2018/02/un-expert-alarmed-israeli-supreme-courts-license-torture-ruling

[13]  محمد الكرد (2023)، ” Israeli Protesters Say They’re Defending Freedom. Palestinians Know Better.” (المتظاهرون الإسرائيليون يقولون إنهم يدافعون عن الحرية. غير أن تجربة الفلسطينيين تمنعهم من تصديق ذلك.)، متوفر على الرابط https://www.thenation.com/article/world/israel-protests-supreme-court-palestinians/

[14]  مؤسسة الحق (2019) ” Israeli High Court of Justice Upholds Israel’s Policy of Withholding the Bodies of Palestinians Killed” )محكمة العدل العليا الإسرائيلية تؤيد سياسة إسرائيل في احتجاز جثامين القتلى الفلسطينيين)، متوفر على الرابط https://www.alhaq.org/advocacy/15175.html

[15]  نورا عريقات وربيع إغبارية (2023)، ” The Jurisprudence of Death: Palestinian Corpses & the Israeli Legal Process” (فقه الموت: الجثث الفلسطينية والإجراءات القانونية الإسرائيلية)، Jadaliyya، متوفر على الرابط https://www.jadaliyya.com/Details/44797

[16]  المرجع السابق.

[17]  مازن مصري، (2017) “ The Dynamics of Exclusionary Constitutionalism: Israel as a Jewish and Democratic State” (ديناميات الدستورية الإقصائية: إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية)، لندن: Bloomsbury Professional، 3.

[18]  شيرا روبنسون، (2013) “ Citizen Strangers: Palestinians and the Birth of Israel’s Liberal Settler State” (المواطنون الغرباء: الفلسطينيون وقيام دولة إسرائيل الاستيطانية الليبرالية)، ستانفورد: Stanford University Press.

[19]  مركز عدالة، (2020) “Israel’s Jewish Nation-State Law” (قانون الدولة القومية للشعب اليهودي في إسرائيل)، متوفر على الرابط https://www.adalah.org/en/content/view/9569

[20]  لانا طاطور، (2021) “The Nation-State Law: Negotiating Liberal Settler Colonialism” (قانون الدولة القومية: التفاوض حول الاستعمار الاستيطاني الليبرالي). Critical Times، 4 (3): 578.

[21]  مركز عدالة (2022)، ” Q&A: Israeli Supreme Court allows government to strip citizenship for ‘breach of loyalty’” (أسئلة وأجوبة: المحكمة العليا الإسرائيلية تسمح للحكومة بسحب الجنسية على خلفية “خيانة الأمانة) متوفر على الرابط https://www.adalah.org/en/content/view/10693#:~:text=Minority%20in%20Israel-,Q%26A%3A%20Israeli%20Supreme%20Court%20allows%20government%20to,citizenship%20for%20’breach%20of%20loyalty’&text=On%2021%20July%202022%2C%20an,11(2)(b)

[22]  عندما تم احتلال القدس الشرقية وضمها في العام 1967، أقدمت إسرائيل على منح الفلسطينيين الإقامة الدائمة في المدينة ولكن من دون منحهم المواطنة.

[23]  مؤسسة الحق (2018)، ” Punitive Residency Revocation: the Most Recent Tool of Forcible Transfer” (عقوبة إلغاء الإقامة: أحدث وسيلة للترحيل القسري)، متوفر على الرابط https://www.alhaq.org/advocacy/6257.html#:~:text=On%207%20March%202018%2C%20the,’breached%20allegiance’%20to%20Israel.

[24]  كلوي بينويست (2023)، ” Salah Hammouri: A Case Study of the Occupation and Western Complacency” (صلاح حموري: دراسة حالة عن الاحتلال وتهاون الغرب)، متاح على الرابط https://www.palestine-studies.org/en/node/1653637

[25]  نمر سلطاني، (2016) “The “Passive Virtues” of Israel’s “Activist” Supreme Court” (“الفضائل السلبية” للمحكمة العليا الإسرائيلية “الناشطة”)، ملفات النكبة، متوفر على الرابط https://nakbafiles.org/2016/11/17/the-passive-virtues-of-israels-activist-supreme-court/

[26]  The New Arab، (2023) ” Palestinian family in Jerusalem’s Silwan win Israeli Supreme Court battle to save home” (أسرة فلسطينية في حي سلوان في القدس تفوز بمعركة المحكمة العليا الإسرائيلية لإنقاذ منزلها)، متوفر على الرابط https://www.newarab.com/news/silwan-family-win-israeli-supreme-court-battle-save-home

[27]  نمر سلطاني، (2014) “Activism and Legitimation in Israel’s Jurisprudence of Occupation” (النشاط والتشريع في فقه الاحتلال الإسرائيلي)، Social & Legal Studies، المجلد 23(3)، 325.

[28]  المرجع السابق، 333.

[29]  حسن جبارين، (2010) ” Transnational Lawyering and Legal Resistance in National Courts: Palestinian Cases before the Israeli Supreme Court” (المحاماة العابرة للحدود الوطنية والمقاومة القانونية في المحاكم الوطنية: قضايا فلسطينية أمام المحكمة الإسرائيلية العليا)، Yale Human Rights & Development Law Journal، 13، رقم 1، 240.

[30]  ديفيد كريتزمر ويائيل رونين، (2021) The Occupation of Justice: The Supreme Court of Israel and the Occupied Territories (“احتلال العدالة: المحكمة العليا الإسرائيلية والأراضي المحتلة)، أكسفورد: Oxford University Press، 2.

[31]  مايكل ستار، (2023) ” Dershowitz: High Court an ‘Iron Dome’ that protects IDF soldiers from ICC” (ديرشوفيتز: المحكمة العليا كقبة حديدة تحمي جنود جيش الدفاع الإسرائيلي من المحكمة الجنائية الدولية)، Jerusalem Post، متوفر على الرابط https://www.jpost.com/israel-news/article-728277

[32]  لانا طاطور (2021) ” The ‘Unity Intifada’ and ’48 Palestinians: Between the Liberal and the Decolonial” (انتفاضة “الوحدة” وفلسطينيو 48: بين الليبرالي والغير استعماري)، مجلة الدراسات الفلسطينية، 50 :4، 84-89.

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، فئات مهمشة ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني