في جذور الدعم الشعبي لقرارات سعيّد


2021-08-13    |   

في جذور الدعم الشعبي لقرارات سعيّد
الرئيس التونسي قيس سعيد

  • نشرت النسخة الأولى من هذه المقالة بتاريخ 13/08/2021 وعدل عليها بتاريخ 12/02/2021                                                                                                                                               

استيقظ الشارع التونسي يوم 25 جويلية على وقع احتجاجات وسخط في عديد المناطق من البلاد، تطوّر بعضها إلى صدامات مع قوّات الأمن، كما انتهت في جهات عدّة باستهداف وحرق مقرّات حزب حركة النهضة. لقد ترجمت هذه التحرّكات الغضب المستفحِل في البلاد تجاه الطبقة السياسية الحاكمة، وعلى رأسها حركة النهضة، وحملت رسالة واضحة مفادها تحميلها المسؤوليّة السياسية لما آلت إليه الأوضاع في العشريّة الأخيرة. في مساء اليوم ذاته، أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن حزمة من الإجراءات، أهمّها إقالة رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي وتجميد عمل البرلمان معتمداً على قراءة تعسّفية و/أو فضفاضة للفصل 80 من الدستور. سال الكثير من الحبر حول (لا) دستوريّة و(لا) قانونيّة هذه الإجراءات، ممّا يستوجب قراءات متعدّدة الجوانب في جذور هذه اللحظة السياسية وأسباب الاحتفالات العارمة بها رغم عدم وضوح الرؤية بعد.

مأزق التصوّرات للانتقال الديمقراطي

إنّ تقييمات الباحثين في الشأن التونسي والمعلّقين عليه على امتداد سنوات تقود بشكل شبه كلّي نحو استنتاج نجاح أو فشل الانتقال الديمقراطي في تونس، بخاصّة عندما يتعلّق الأمر بالجامعيين والصحافيين الأجانب. آخرها تأكيد انتهاء هذا المسار يوم 25 جويلية الفارط. وتجد هذه المقاربة جذورها في دراسات الدَمَقرطة، أو الانتقال الديمقراطي، التي ترى أنّ الانتقالات الديمقراطية تتبع مساراً محدّداً يُختَم بتدعيم الديمقراطيّة عبر تعزيز وتطوير المؤسّسات الديمقراطية من خلال حكومات مُنتخَبة[1]. غير أنّ هذه المقاربة، على تواصل اعتمادها، قد أثبتت حدودها في تقييم وفهم المسارات والأشكال المختلفة للتحوّلات التي تقع بين القطيعة مع الاستبداد ونجاح الديمقراطيّة، أي نقطة اللاعودة إلى الديكتاتورية[2].

إن الجزم الإشكالي بأنّ الانتقال الديمقراطي مسار خطّي متواصل، وبأنّه رهين شكليّات من قبيل انتخابات تمثيلية، يعيق أيَّ محاولة لفهم أعمق لعقبات إنجاز انتقال حقيقي وفعلي يمثّل تطلّعات عموم الشعب، ويتوقّف عند قراءات سطحية لعدم رضاء المواطنين عن الديمقراطيّة أو الخطر على المؤسّسات والمسار. في جانب آخر، على مستوى الممارسة اليومية، أكّد معظم السياسيين في تونس إلى حدود الأسابيع الماضية نجاح الثورة والانتقال بناء على إجراء انتخابات شفّافة ونزيهة وإرساء مؤسّسات ديمقراطية رغم عدم استكمال بعضها. بينما تمسّك النشطاء ومكوّنات المجتمع المدني بإبراز التباين والنقائص في البناء الديمقراطي، لغياب تمثيلات فعلية لأولويّات الشعب من مسائل اقتصادية واجتماعية، ولعدم استكمال بناء المؤسّسات والإصلاحات القانونية والهيكلية اللازمة. بين هذا وذاك، أحالت مجموعة من الوجوه السياسية والأكاديمية الأزمة إلى شكلانيّة توزيع السلط في الدستور التونسي بوصفها مصدراً رئيسياً للأزمة السياسية في قراءة مطنبة في البعد القانوني متجاوزة دور الفاعلين السياسيين.

في هذه الأثناء، رغم الاحتفاء بالتجربة التونسية المبنية على التوافقات السياسية، التي أخرجت البلاد من عديد المآزق السياسية، لم تتجاوز هذه المسارات كونها تنازلات بين النخب السياسية. وفشلت في تناول الاختلالات الهيكلية المنتِجة للصعوبات الاقتصادية. وكرّست السياساتُ التوافقية مقاربةً قطاعية متصلّبة يغلّب الجميع فيها مصالحه الفئوية في إطار مقايضات بين الأحزاب والمنظّمات المهنية والنقابات وغيرها. في هذه المفارقة، بين طبقة سياسية منعزلة عن الواقع تعمل على تحقيق مصالحها وتحافظ على نفوذها عبر الانتخابات والتقاطع مع رؤوس الأموال والتوافقات بدون برامج وتصوّرات للتغيير، وتحرّكات داعمة للمطلبيّة الاقتصادية والاجتماعية وما تمثّله من عمق لشعارات ثورة ديسمبر–جانفي ولعُلوِيّة القانون والمساواة أمامه تكمن أزمة الانتقال الديمقراطي في السياق التونسي.

عشريّة من الغضب المتواصل والإجابة دائماً أمنية

شهدت تونس عديد التحرّكات على امتداد السنة الفارطة. فقد احتجّتْ شرائح عدّة إثر إعلان مجلس نوّاب الشعب اعتزامه التصويت على قانون حماية الأمنيين سيّئ السمعة في أكتوبر الفارط. وقد عُرف هذا القانون بالاسم المقدّم لصيغته الأصلية سنة 2015 وهو قانون “زجر الاعتداءات” على القوّات المسلّحة. وهو يكرّس إفلات عناصر الأمن من العقاب ويحدّ من الحرّيّات في التفاف كبير على مكتسبات ما بعد 2011. تلتْ هذه الاحتجاجات سلسلةٌ أخرى في المناطق الداخلية والأحياء المهمّشة للعاصمة في ديسمبر 2020 ثمّ في الأشهر الأولى من 2021. كما تعالتْ في مناسبات عدّة صرخات غضب وهبّات في مختلف المناطق، مثل تحرّكات الفلّاحين أو المعطّلين عن العمل. تعاملت الحكومة كعادتها مع الاحتجاجات من منطلق أمني بحت في ظلّ اعتداءات وتجاوزات متعدّدة من نقابات قوّات الأمن التي ساهمتْ بدورها في تنامي امتعاض الشباب جرّاء التضييق المتكرّر على الحرّيّات الشخصية، وأنتجت سلسلة جديدة من التظاهرات المناهضة لهذا التمشّي والمطالِبة بإطلاق سراح الموقوفين الذين ناهز عددهم ما يقارب ألفَيْن من الشباب، ثلثهم من القصّر حسب مصادر حقوقية عدّة.

لا يُخفى عن أيّ مُتابع للشأن التّونسي استمرار احتجاجات التونسيين والتونسيات في كلّ أصقاع البلاد على امتداد العشريّة الأخيرة رغم المُكتسبات على المستوى السياسي. يمثّل العامل الاقتصادي والاجتماعي القاسم المشترك والقلب النابض لهذه التحرّكات على امتداد سنوات، إذ تدهورت الوضعيّة الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين بصفة مرعبة جرّاء سياسات التقشّف التي أضعفت الخدمات العمومية الأساسية من صحّة وتعليم، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة التضخّم مقابل تجميد الأجور والانتدابات وانتشار التشغيل الهشّ وضعف الأجور في القطاع الخاصّ المنظَّم. لم تنفكّ هذه الحركات عن محاولات التطوير والتجديد في صيغ التنظّم وفي مطلبيّتها رغم هيمنة التحرّكات ذات الطابع المحلّي أو الجهوي، نتيجة طبيعية لعقود من التهميش والإقصاء الاقتصادي والاجتماعي. ولعلّ أبرز أمثلة عن هذه الأخيرة تجارب واحة جمنة واعتصام تنسيقيّة الكامور، ثمّ بروز تنسيقيّات جهوية أخرى رغم محدوديّتها عددياً وزمنياً.

تشترك التحرّكات النابعة من الفضاء المحلّي في التفاف المواطنين على اختلاف تمثّلاتهم السياسية حول قضيّة جامعة جوهرها مسألة الوصول إلى الثروة وكيفيّة توزيعها وطرح تصوّرات بديلة لمسألة التنمية الجهوية، بين مطالب بالتصرّف المحلّي في وسائل الإنتاج لخدمة المحلّيات ومطالب بحصّة المحلّية من الثروة الوطنية المنتجة، باختزال وبدون الخوض في التفاصيل والنقائص. في المقابل، عند كلّ تحرّك، يسارع كهنة المعبد إلى اتّهام القائمين به بتهديد وحدة الدولة والخروج عن القانون، بالإضافة إلى تصريحات ذات طابع تمييزي فيها احتقار وتعالٍ، بالتوازي مع حملة أمنية ومواجهات مع المحتجّين قبل رضوخ السلطة السياسة إلى بعض المطالب، بدون التعاطي الجدّي مع المساعي لفتح النقاش حول سياسيات الدولة التنموية.

فاقمت آثار جائحة كورونا الهشاشة الاقتصادية لشريحة واسعة من الشعب التونسي وكشفت ضحالة منظومة الخدمات الصحّية. ومرّة أخرى، حتّى في خضمّ أزمة صحّية بالأساس، كان تعامل الدولة من منطلق أمني بحت عبر إقرار حظر الجولان وإصدار خطايا مالية وأحياناً اعتقالات، تنفّذ فقط على عموم الشعب ويُستثنى منها أصحاب النفوذ ورؤوس الأموال. ولعلّ أبرز مثال عن العقل الأمني المدير للجائحة هو شراء الحكومة التونسية مدرّعات في خضمّ الأزمة الصحّية الخانقة. ولئن وُجدت عوامل عدّة ساهمت في التعامل الكارثي مع الجائحة، أدّى تزامنها مع الأزمة السياسية بين أركان السلطة في جانب وبين الأحزاب المهيمنة على المشهد في جانب آخر، إلى اقتناع شرائح واسعة بالفجوة الكبيرة بين أولويّات الناخبين وأولويات مَن انتُخبوا أو عُيِّنوا ثمّ انتُخبوا.

مؤسّسات الدولة رهينة السياسيين

عاشت البلاد على امتداد أشهر على وقع أزمة سياسية بين رأسَيْ السلطة التنفيذية. فقد تمادى كلّ من رئيسَيْ الجمهوريّة والحكومة في محاولاتهما لتسجيل أهداف سياسية كلٌّ على حساب الآخر، مع تحميله المسؤوليّة كاملة. النزاع حول الصلاحيّات الذي ظهر بداية بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان انتقل سريعاً إلى قصر الحكومة منذ “تمرّد” هشام المشيشي على قيس سعيّد، ورفض هذا الأخير أن يتمّ “عزله” عن التأثير في الموازنات السياسية. إن هذا العبث المتواصل بالإدارة في خضمّ حرب تموقعات خلال أزمة اقتصادية وصحّية خانقة هو بالأساس نتاج عدم رغبة الفاعلين السياسيين في إيجاد حلول مشتركة والتعاون من أجل مصلحة التونسيين.

في السياق نفسه، فضّلت حركة النهضة الدخول مكرهة إلى حكومة إلياس الفخفاخ والعمل على الإطاحة بها. ثم فضّلتْ استقطاب هشام المشيشي إلى صفّها مع المحافظة على إمكانيّة التضحية به، على أن تخاطر بسحب الثقة من الحكومة ومحاولة تشكيل حكومتها مع التحالف القائم تحت قبة البرلمان، خوفاً من الفشل الذي سيؤدّي إلى حلّ البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة من المرجَّح أن يتصدّرها الحزب الدستوري الحرّ. إنّ السعي المتواصل إلى تجنّب انتخابات تشريعيّة مبكرة ومحاولة إيجاد حلول قانونية لأزمة هي بالأساس سياسية يثبت تعامل النخب السياسية مع السلطة على أنّها غاية في حدّ ذاتها.

هذه الأزمة هي الأخيرة ضمن سلسلة من العقبات المصطنعة والخلافات السياسية. وقد كان من الممكن تجاوز بعض عوامل الأزمة الحالية، مرحلياً وقانونياً على الأقلّ، لو تمّ استكمال إرساء المحكمة الدستورية باعتبارها المكلّفة بفضّ النزاعات بين السلط الثلاث. يُذكر أنّ الفصل 148 من الدستور، المتعلّق بالأحكام الانتقالية، ينصّ على إرساء المحكمة الدستورية خلال السنة الأولى الموالية للانتخابات التشريعية الأولى، أي قبل 15 نوفمبر 2015. ورغم المصادقة المتأخّرة على قانونها الأساسي، في تاريخ 8 ديسمبر 2015، لم يُنتخَب سوى عضو واحد إلى حدّ الآن، رغم انعقاد ثماني جلسات انتخابية في البرلمان المسؤول عن انتخاب ثلث أعضاء المحكمة الاثني عشر.

ليس هذا التراخي من قِبل الطبقة السياسية في إرساء المحكمة الدستورية سوى عنصر واحد من تعطّل استكمال ركائز النظام الدستوري، الذي لا يزال غير مكتمل رغم مضيّ ستّ سنوات على ولادة الجمهوريّة الثانية. فلا يزال مسار اللامركزية بدوره غير مكتمل، ورغم تنصيص مجلّة الجماعات المحلّية على نموذج ذي ثلاثة مستويات، مجالس بلدية ثم جهوية ثم إقليمية، تجاوزت المجالس البلدية قرابة نصف عهدتها النيابية دون استكمال المستويَيْن الآخرَيْن. كما تخلّفت الحكومات المتتالية عن إصدار الأوامر الحكومية المتعلّقة بالجماعات المحلّية التي ينصّ الفصل 385 من مجلّة الجماعات المحلّية على إصدارها في غضون تسعة أشهر من المصادقة عليها، أي قبل 15 فيفري 2019.

كما أضاف الدستور ركيزة تعديلية جديدة، وهي الهيئات الدستورية المستقلّة، التي لا تزال هي الأخرى محلّ خلافات سياسية. إذ لم يتمكّن البرلمان إلى الآن من انتخاب أعضاء الهيئات المستقلّة، باستثناء الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات من بين خمس هيئات، من ضمنها الهيئات المسؤولة عن حقوق الإنسان، وعن التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة. وعوضاً عن استكمال إرساء هذه الهياكل، فضّلت الطبقة السياسية الإبقاء على الهيئات الوقتية لتسهيل المناورات السياسية والتشكيك في شرعيّتها، بالإضافة إلى الحدّ من فاعليّتها كما بيّنت إقالة رئيس الحكومة لرئيس الهيئة العليا لمكافحة الفساد.

من الواضح أنّ تعاقب الأزمات الهيكلية المعيقة لتسيير شؤون البلاد والمعطّلة لاستكمال مؤسّساتها ناتج عن حرب التموقعات التي تخوضها النخب السياسية ضدّ بعضها والتي لا تتوانى فيها عن توظيف هياكل الدولة. وكما تُبيِّن العناصر المذكورة أعلاه، يستمرّ تعطيل استكمال المؤسّسات فقط لتسهيل المقايضات والتوافقات السياسية الضيّقة في إطار المحاصصة والسعي وراء التموقعات، وهو السبب الرئيسي وراء مقاومة النخب السياسية لتغيير أطر الحوكمة فعلياً. تحجب إذاً مصالح السياسيين تطلّعات التونسيين وتدهور معيشتهم، ممّا يغذّي سخط المواطنين تجاه الممارسة الحالية للديمقراطيّة.

معياريّة جديدة ممكنة؟

بالإضافة إلى مساهمتها في تعميق الهوّة التمثيلية الفعلية الحاملة للإشكالات الحارقة للتونسيين، يعود القصور السياسي للأحزاب الحاكمة على امتداد العشريّة الماضية وفشلها في تكريس تطلّعات الشعب إلى غياب تحوّل معياري فعلي على مستوى السلطة وممارساتها. ويُقصَد هنا بالمعياري، ما هو نموذج دارج للمُمارسة والتصوّر والخطاب، وما هو قيمة مُثلى منشودة. ومن هذه الزاوية، يُقصد بالتحوّل المعياري جملة المراجعات الصائغة و/أو المعدِّلة للتصوّرات وأساليب الخطاب المحدِّدة لممارسة الأحزاب والنخب للحياة السياسية، ولدورهم كطبقة سياسية ودور السلطة وعلاقتها مع المواطن. إنّ غياب أيّ تغيير عن تصوّر الأحزاب الحاكمة لدور السلطة في خدمة تطلّعات الشعب وضرورة القطع مع التعامل القمعي المتعالي في منظومة الحكم ما بعد 2011 هو الذي أنتج حالة الإحباط المتفشّية في الأوساط الشعبية. وبصفة خاصّة، انتشر الإحباط في صفوف الشباب التونسي كما تبيّن الاستبيانات والدراسات العديدة، حيث عبّر 73.9% من الشباب عن اعتقادهم أنّ أصواتهم غير مسموعة، ورأى 55.2% منهم أنّهم لا يحظون بالاحترام و60.5% منهم أنّهم مهمّشون، كما رأى 83.1% منهم أنّ المجتمع التونسي مجتمع لامساواة، و83.6% منهم أنّه مجتمع غير منصف[3].

من جهة أخرى، ورغم تكريس دستور 2014 شعارات وتطلّعات الثورة، ومنها التزام الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات (الفصل 12)، فإنّ هذه المبادئ لم تُترجَم سياسات فعلية ذات تأثير على المعيشة. وفي السياق نفسه، سُنَّت بعض القوانين في محاولة لتهدئة الرأي العامّ مثل قانون الاقتصاد التضامني الاجتماعي الذي لم يُفعَّل بعد، وقانون المسؤوليّة المجتمعية للشركات الذي لا يعدو كونه مجرّد دعوة للشركات للمساهمة في التنمية. كما عُطّل تفعيل القوانين، غالباً جرّاء عدم إصدار الأوامر الحكومية الضابطة لها. وعِوض طرح إنفاذ تغيير حقيقي في سبل ووسائل الحوكمة والتنمية التجأت الأحزاب الحاكمة إلى تهدئة المطالب الشعبية عبر تحويلها إلى نصوص قانونية مفرَغة من مضامينها.

هذا الالتفاف على مساعي التغيير، بالإضافة إلى التعاطي الأمني مع الاحتجاجات والتعامل مع السلطة كغنيمة، كما بيّنّا أعلاه يؤكّد تنامي الفجوة بين المواطن ومشاغله من جهة وبين النخب السياسية المهيمنة من جهة أخرى، واستمرار السياسات نفسها المنتهجة لعقود قبل الثورة. وقد أكّدت استطلاعات الرأي الصادرة خلال الأشهر الأخيرة الماضية هذه التوجّهات، حيث تصدّر الفاعلون السياسيون المناهضون للنخب أو المارقون عن المنظومة القائمة، سواء قيس سعيّد أو الحزب الدستوري الحرّ وغيرهم، نوايا التصويت بعد صعودهم المُباغت في انتخابات 2019.

من هذا المنطلق، يمكن قراءة صعود قيس سعيّد وبرنامجه للبناء الجديد، إذ يطرح تمثيليّة انتخابية مباشِرة، مع إمكانيّة سحب الوكالة من الممثّلين المنتخَبين، ممّا يكرّس مسؤوليّتهم أمام الناخبين. إنّ ترذيل الممارسة السياسية المتواصل واعتبار السلطة غاية في حدّ ذاتها أتاح المجال أمام مشروع قيس سعيّد، بالإضافة الى سمعته كشخص نظيف اليد، كي يكتسح الانتخابات الرئاسية. في السياق نفسه، إنّ ثنائيّة الشرعيّة والمشروعيّة وعلويّة القبول الشعبي للسياسات المتَّبعة مقابل علويّة الالتزام بالقواعد القانونية والأطر الدستورية، التي ما انفكّ سعيّد يطرحها، تعكس تصوّراً غير مهيمن على الطبقة السياسية لماهيّة الفعل السياسي ولدور السلطة وعلاقتها بالشعب.

بعد مضيّ أكثر من شهرين على إعلان الحالة الاستثنائية، وتنامي بوادر القلق لدى الحقوقيين والفاعلين السياسيين جرّاء بعض الإجراءات المتَّخذة وغياب الوضوح، يمكن لهذه العوامل أن تساهم في فهم جذور الدعم الشعبي لقرارات قيس سعيّد ولأيّ إجراءات يمكن أن يتّخذها بغضّ النظر عن قانونيّتها و/أو خطورتها. فعلياً، نحن أمام لحظة سياسية محدِّدة لمستقبل البلاد ستؤدّي بالضرورة إلى تحوّلات في نظام الحكم والعلاقة بين السلط. أمّا عن إمكانيّة الانزلاق إلى الاستبداد أو التأسيس لبناء تعدّدية فعلية تخدم تطلّعات الشعب، الأسابيع القادمة وحدها ستكشف ذلك.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

[1] Thomas Carothers, “The End of the Transition Paradigm,” Journal of Democracy 13, no. 1 (2002), pp. 5-21.

[2] Ibid.

[3] المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومحامون بلا حدود، “البعد الاجتماعي في فهم ظاهرة التطرف العنيف”، نوفمبر 2020.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، أحزاب سياسية ، حرية التعبير ، تونس ، حراكات اجتماعية ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني