“فيتو” وزير المالية يعطّل محكمة التمييز: ضمانة جديدة لنظام الإفلات من العقاب


2022-05-26    |   

“فيتو” وزير المالية يعطّل محكمة التمييز: ضمانة جديدة لنظام الإفلات من العقاب

في أواخر الأسبوع الماضي، اقترح وزير العدل هنري خوري مشروع مرسوم جديد لملء المراكز الشّاغرة في رئاسات غرف محكمة التمييز وعددها 7. وكان وزير الماليّة يوسف خليل صرّح في تاريخ 16 نيسان أنه لم ولن يوقّع مشروع اقتراحه السابق، تفادياً لتكريس سابقة البلد بغنى عنها من دون أن يبيّن ماهيتها. وقد فُهم آنذاك أنّ هذه السّابقة تتّصل بما اعتبرهُ إخلالاً بالمناصفة الطائفيّة في توزيع رئاسات غرف التمييز، بحيث انتهى المرسوم إلى تطبيق المناصفة في ملء هذه المراكز (5 رؤساء مسيحيين و5 رؤساء مسلمين) من دون احتساب الرئيس الأول لمحكمة التمييز (وهو حالياً القاضي سهيل عبود). ومن شأن هذا الأمر أن يُؤثّر على تكوين الهيئة العامّة لمحكمة التمييز التي تصبح مكوّنة من 6 مسيحيين و5 مسلمين. وإذ نقلت بعض وسائل الإعلام (الجديد) في 24 أيار حصول تغييرات هامة في المشروع الجديد، اتّضح أنّ التغيير الحاصل طال فقط اسم قاضية تقاعدت خلال الفترة الفاصلة بين المشروعيْن من دون أن يعالج من قريب أو بعيد الإشكالية التي أثارها وزير المالية.

وفي حين تدحض مراسيم تشكيلات سابقة وجود أيّ سابقة في المشروع الذي رفض الوزير خليل التوقيع عليه  (وهذا ما سنعود إليه أدناه)، يُرجَّح أن يكون دافعه الحقيقيّ تمثّل في ْإبقاء التحقيق في قضية المرفأ مُجمّداً إلى ما بعد الانتخابات النيابيّة أو ربّما إلى حين حصول تسوية ما، بما ينسجم مع مصالح القوى السياسيّة التي عيّنته. فعدا عن أنّ تعطيل ملء الشواغر في رئاسات محكمة التمييز يؤدّي إلى التّأثير سلباً على أداء هذه المحكمة المُثقلة بملفّات متراكمة، فهو يحول أيضاً دون انعقاد هيئتها العامة بفعل فقدان النصاب وتالياً دون النظر في الطلبات التعسّفية المقدّمة أمامها بشأن قضية المرفأ. وهي طلبات يشكّل النظر فيها شرطاً لاستئناف التحقيق في هذه القضية. ومن المؤشّرات على ذلك هو تصميم الثنائي حزب الله – أمل المعلن على كفّ يد المحقق العدلي طارق بيطار عن النظر في هذه القضية بوسيلة أو أخرى، وهو أمر تجلّى في أبهى صوره في تعطيل عمل الحكومة طوال ثلاثة أشهر. ومن المؤشرات أيضاً ما ألمحت إليه وسائل الإعلام لجهة رفض تعيين قضاة شاركوا في ردّ طلبات كفّ يد بيطار عن تحقيق المرفأ في رئاسات محكمة التمييز، كما هي حال القاضيتين جانيت حنا ورنده كفوري.

وعليه، وإذ نجح مجلس القضاء الأعلى بعد طول انتظار في تجاوز خلافاته حول أسماء رؤساء الغرف (وبعضها ناجم عن الضغوط التي مورست على أعضائه من قوى سياسية ومصرفية[1])، عاد اقتراح التشكيلات القضائية ليصطدم بفيتو وزير المالية. وعدا عن أنّ هذا الفيتو يؤكّد مرة أخرى الهيمنة التي تمارسها القوى النافذة على القضاء بأشكال متعدّدة، فإنه يعكس أيضاً وبالدرجة نفسها، تغوّل نظام المحاصصة وما يستتبعه من مساومات وفيتوهات في ممارسات الحكم والضرورة الحيوية لتجاوزه. وعليه، وفي انتظار معرفة مآل المشروع الجديد وتحديداً إذا كان وزير المالية سيوقّع عليه، يجدر التوقّف عند  الخلاصات التي نستشفّها من رفض هذا الأخير التوقيع على المشروع السابق.

خليل أول وزير المالية يجهض تشكيلات قضائية نهائية وملزمة

ذكر اتّفاق الطائف الإصلاحات القضائيّة في أسفله تحت عنوان “الإصلاحات الأخرى”. وقد اقتصرتْ هذه الإصلاحات بما يتّصل بالقضاء العدلي على بند أوحد وهو انتخاب عدد من أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وهو الهيئة المخوّلة إدارة المسارات المهنية للقضاة. لم ينتجْ عن هذا البند أيّ أثر إلا بعد 12 سنة وتحديدا في 2001. وفي حين انتهى البرلمان بعد طول نقاش إلى حصر عدد أعضاء مجلس القضاء المنتخبين باثنين فقط (ينتخبان من بين رؤساء غرف التمييز أي ممّن يتربّعون على رأس الهرم) من أصل عشرة، فإنّه أدخل تعديلاً آخر لتعزيز صلاحيات المجلس، أهمّها أن يتولّى هو إعداد مشروع التشكيلات القضائية وأن يكون قادراً عند وجود خلاف مع وزير العدل بشأنه على حسمه بمشروع يكون نهائياً وملزماً بأكثرية سبعة أصوات من أعضائه، على أن يصدر هذا المشروع بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل.

لم يمضِ وقت طويل حتى اكتشف اللبنانيون أنّ هذه الإصلاحات ليست كذلك. فعدا عن أنّ العضويْن المنتخبيْن يبقيان أقلية في مجلس تتولّى السلطة التنفيذية تعيين 8 من أعضائه وأنهما أصلاً يُنتخبان ممّن تمكّنوا من اعتلاء المراكز وصولاً إلى أعلاها من دون أن يواجهوا أيّ عائق سياسي، فإنّ أغلب مشاريع التشكيلات القضائية التي حسمها مجلس القضاء الأعلى بعد هذا الإصلاح تمّ إجهاضها بفعل رفض أحد المسؤولين المعنيين التوقيع على مرسوم إصدارها. ففي حين تمّ خلال العقد الأخير (2012-2022) إقرار مشروعيْ تشكيلات فقط، فإنه تمّ في المقابل إجهاض 6 مشاريع بفعل فيتوهات مارسها تباعاً مسؤولون عدة في مناسبات مختلفة ولأسباب مختلفة وهم وزير العدل ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية[2]. وقد كان آخرها مشروع التشكيلات الذي رده رئيس الجمهورية في 2020 لأسباب عدة أبرزها خشيته من حكم القضاة. وتبعا لرفض خليل التوقيع على مشروع المرسوم المطروح حالياً، فإنّه أصبح أول وزير ماليّة ينضمّ إلى قافلة شاهري “الفيتو” ليرتفع عدد مشاريع التشكيلات المجهضة خلال العقد الأخير إلى 7. وما يزيد من الأمر قابلية للانتقاد هو مضمون المشروعين اللذين تم إقرارهما خلال هذا العقد. ففي حين اقتصر الأول على ملء شواغر في رئاسات ست غرف لدى محكمة تمييز في أواخر 2014، فإن “المفكرة” أسمت المشروع الثاني وهو مشروع تشكيلات شاملة، بتشكيلات الأحزاب الثلاثة، دلالة على حجم المحاصصة الذي شاب مجمل المراكز الهامّة فيه. 

فكأنّما مجلس القضاء الأعلى أمام خيار من اثنين: إما أن يلتزم عند إعداد مشاريع التشكيلات القضائية بقبول التعيينات التي تطلبها القوى السياسية الحاكمة وإما أن يتحمّل إمكانية إجهاض المشاريع التي يضعها. وهذا ما أوجد ممارسات قوامها أن يتمّ تضمين قوائم من صنع القوى السياسية “زي ما هيي” في مشاريع التشكيلات درءاً لإجهاضها أو أن يبادر رئيس مجلس القضاء الأعلى إلى زيارات مكوكية لهذه القوى بهدف التفاوض معها لوضع مشروع مقبول منها. وهذا ما انتهجه بشكل خاص الرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى جان فهد والذي ذهب إلى حدّ الحديث عن عرف يفرضه “مبدأ التعاون بين السلطات”.     

ومن البيّن بالنتيجة أنّ إعمال الفيتو هذا لا يؤدّي فقط إلى وضع اليد على المراكز القضائيّة الهامّة (الحسّاسة مثل مراكز النيابات العامة وقضاء التحقيق) والمسّ باستقلاليته، بل أيضاً إلى تقويض حسن إدارة المرفق القضائي، وتحديداً ملء المراكز الشاغرة ووضع القاضي المناسب في المركز القضائي المناسب، وتشكيل القضاة الجدد خرّيجي معهد الدروس القضائية. وقد يكون الأثر الأخير أخطر آثار إجهاض مشاريع التشكيلات، حيث أنه يؤدي إلى هدر طاقات قضائية شابة وهي طاقات القضاة الذين تخرّجوا من معهد الدّروس القضائية وينتظرون تشكيلهم في المحاكم. وقد بلغ عددهم حالياً 72 قاضياً وقاضية وسيرتفع عددهم قريباً إلى ما يقارب 106 قضاة.

وهذا هو الأمر الذي حدا بـ “المفكرة” إلى تضمين اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي وشفافيته مواد تجعل التشكيلات القضائية بمجرّد إقرارها من مجلس القضاء الأعلى (المكوّن وفق أسس مختلفة) من دون الحاجة إلى أي مرسوم.

المحاصصة الشاملة بقوة “وزير المالية”

الأمر الثاني الذي يكشفه هذا الفيتو وهو لا يقلّ خطورة، يتمثّل في الدور المُتعاظم لوزير المالية وتحديداً من خلال فرض وجوب توقيعه على مجمل المراسيم، إلى جانب رئيسيْ الجمهورية والحكومة. وقد ترافق تعاظم  دور وزير المالية مع تمسُّك ثنائي حزب الله – أمل بتطييف منصبه تمهيدا للاستحواذ عليه، بما يمكنهما من ممارسة الرقابة والاعتراض على كل مرسوم تتخذه السلطة التنفيذية. وللإضاءة على هذا الدور المتعاظم لهذا الوزير والغاية المرجوة منه، يجدر التّذكير بثلاثة أحداث مترابطة وهي الآتية:

الأول، وهو يتمثّل في الأزمة الناشئة عن تجاوز توقيع وزير المالية عند إصدار مرسوم رئاسيّ بمنح سنة  أقدميّة لضباط الجيش الذين تخرّجوا في سنة 1994، رغم أن هذا المرسوم يؤثر فقط على أحقية الضباط بإشغال مناصب معينة، من دون أن يترتب عليه أي نتائج مالية أو أعباء على الخزينة. فآنذاك، أبدى رئيس مجلس النواب السابق نبيه بري اعتراضاً شديداً على إصدار المرسوم من دون توقيع وزير المالية ملمّحاً إلى إمكانية تعطيل الحكومة. وإذ اقترح البعض على هذا الأخير الاحتكام إلى القضاء، أدلى بتصريحه الشهير وهو أنّ الضعيف وحده يلجأ إلى القضاء بمعنى أنّ القويّ يفرض حقّه بيده ولا ينتظر منّة من أحد. وكان من البيّن في هذه الحادثة أنّ ثمّة إرادة في فرض توقيع وزير الماليّة صوناً لمصالح الفريق السياسي الذي عيّنه حتى ولو خرجت تماماً عن صلاحياته وعما يوجبه الدستور. وهذا ما يتأكّد من قرارات مجلس شورى الدولة اللبناني التي أوضحتْ أن توقيع وزير المالية يكون لازماً بالنسبة إلى “المراسيم التي تترتب عليها بصورة مباشرة وحتى بصورة غير مباشرة نتائج مالية أو أعباء على الخزينة” حصراً. وقد عادتْ أزمة مماثلة لتشتعل عند إصدار مرسوم تعيين القناصل في 2018.     

الثاني، وقد حصل في شباط 2022 وتمثّل هذه المرّة ليس في إصدار مرسوم رئاسي من دون توقيع وزير المالية، إنما في رفض هذا الأخير التوقيع على مرسوم تعيينات اتُّخذ في مجلس الوزراء. وقد بدا تصرّف وزير المالية هنا أكثر خطورة حيث أن الأخذ أو التسليم به إنما يؤدي إلى شلّ عمل الحكومة ويجعل إرادة وزير منفرد أقوى من إرادة الحكومة مجتمعة.

الثالث، الموقف الذي أعلن عنه نبيه بري في 2018 لجهة أن وزارة المالية تدخل ضمن حصة الطائفة الشيعية، مدّعياً أن هذا الأمر ينتج عن اتفاق الطائف من دون تقديم أي دليل على ذلك. وهو الموقف الذي عاد ثنائي حزب الله – أمل ليتبنّيانه بمناسبة مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتشكيل ما سمّي “حكومة مهمة”. وقد نجح الثنائي بالفعل في تسمية من اختاراه ليكون وزيراً للمالية وهو يوسف خليل في حكومة نجيب ميقاتي. ومن البيّن أنّ تخصيص وزارة لطائفة بعينها إنّما يخرج عن الأعراف السائدة بل يناقض صراحة المادة 95 من الدستور التي تنفي إمكانية تخصيص أي مركز لأي طائفة.

وعليه، يظهر بوضوح أنّ منصب “وزير المالية” تحوّل وفق استراتيجية الثنائي المذكور إلى حصّة يستحوذان عليها ليس فقط بالنظر إلى تحكّمه بوزارة هي العصب الماليّ للدولة، بل أيضاً بالنظر لما ألصقا به من صلاحية مبتدعة قوامها وجوب توقيعه على جميع المراسيم، سواء دخلت أو لم تدخل ضمن اختصاصه، وسواء اتخذت في مجلس الوزراء أو خارجه، وسواء كان التوقيع عليها ملزماً ومقيداً أو لم يكن كذلك.

من هذه الزاوية، نفهم أن رفض وزير المالية التوقيع على التشكيلات القضائية (النهاية والملزمة) إنما يأتي منسجماً مع التصوّر السياسي لدور هذا الوزير والذي يجعله بمثابة الأداة التي من شأنها أن تعطّل أي قرار إداري لا يراعي تماماً المصلحة السياسية لثنائي حزب الله – أمل. وما يعزز هذه القراءة هو أنّ مرسوم التشكيلات لا يرتب أيّ نتائج مالية مما يجعل توقيع وزير المالية عليه أمراً خارجاً عن صلاحياته.

حجة غير صحيحة تأذن ببدء مساومات حول الحصص

أخيراً، تجدر الإشارة إلى أمر ثالث نستشفّه بشكل خاصّ من الأسباب التي أدلى بها وزير المالية لرفض توقيع المرسوم ومفادها أنه يُرسي سابقة لبنان بغنى عنها. فمن البيّن من مراجعة التشكيلات السابقة أن هذا التعليل غير صحيح، حيث ذهبتْ جميع مشاريع التشكيلات، منذ 2009 إلى تعيين رؤساء لغرف التمييز وفق مبدأ المناصفة من دون احتساب الرئيس الأول لمحكمة التمييز من ضمنها.

وعليه، في تشكيلات 2009 و2010، تمّ تعيين عشرة رؤساء غرف لمحكمة التمييز على أساس المناصفة، إلى جانب الرئيس الأول لمحكمة التمييز آنذاك القاضي غالب غانم. الأمر نفسه حصل في تشكيلات 2017 حيث عيّن رؤساء الغرف إلى جانب رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق جان فهد. وقد وقع على هذه المراسيم وزراء محسوبون على الفريق نفسه الذي عيّن الوزير خليل، ومنهم الوزير علي حسن خليل في 2017. وأمام هذا الواقع، فإن موقف الوزير خليل يشكل نذيراً بأننا قد نكون أمام مساومة جديدة في إطار تقاسم المناصب والسلطة، مساومة لا تجد القوى السياسية حرجاً في تعطيل العدالة خدمة لمصالحها.   


[1]  يُضاف إلى ذلك مخاوف جدّية من أن جمعية المصارف قد تدخّلت في صناعة هذه التشكيلات بصورة مباشرة أو غير مباشرة لاستبعاد القضاة الذين اتخذوا مواقف لمصلحة المودعين (ومن أبرزهم جانيت حنا)، أو لتعيين قضاة مقربين من جمعية المصارف مثل حبيب رزق الله (وهو صهر رئيسها السابق جوزف طربيه).

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجزرة المرفأ ، قضاء ، المرصد القضائي ، البرلمان ، سلطات إدارية ، قرارات قضائية ، مرسوم ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني