تجميد توقيع وزير المالية تفتيتٌ للسلطة التنفيذية: هكذا كُسر “مجلس الوزراء” بأمر زعيم وبشهادته


2022-02-12    |   

تجميد توقيع وزير المالية تفتيتٌ للسلطة التنفيذية: هكذا كُسر “مجلس الوزراء” بأمر زعيم وبشهادته
من ارشيف المفكرة القانونية

بعد جلسة مجلس الوزراء التي عقدت في 10 شباط الفائت والتي انتهت إلى إقرار مجموعة من التعيينات رغم اعتراض ثنائي حزب الله وحركة أمل عليها، أثير موضوع امتناع وزير المالية التابع سياسيا لرئيس مجلس النواب نبيه بري عن توقيع المراسيم المتعلقة بتلك التعيينات[1] كتعبير عن رفض قيام مجلس الوزراء باتخاذ قرارات لا يتم التوافق عليها مسبقا بين أركان النظام.

وبالحقيقة هذه ليست المرة الأولى التي يتحوّل فيه توقيع وزير المالية إلى سلاح سياسيّ يدخل في ترسانة وسائل الضغط المتبادلة التي يملكها الزعماء من أجل التفاوض على تحقيق المكاسب وحماية مصالحهم الخاصة في النظام. فقد أثير هذا الموضوع سابقا في حزيران سنة 2018 عندما حصل خلاف بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب حول مرسوم تعيين قناصل فخريين وهل يحتاج ذلك إلى توقيع وزير المالية. وانتهي الأمر حينها كما يحصل غالبا بتسوية سياسية تراعي مصالح جميع الأطراف.

لكن النزاع الذي نشب اليوم هو أكثر خطورة لناحية تداعياته الدستورية. فمرسوم تعيين قناصل فخريين هو مرسوم عادي بينما التعيينات الأخيرة يجب أن تتم بمراسيم تتخذ بعد موافقة مجلس الوزراء، أي أن امتناع وزير ما عن التوقيع على المرسوم يعني عمليا تعطيل قرارات مجلس الوزراء ومنح هذا الوزير صلاحية نقض تؤدي إلى شلّ عمل الحكومة بحيث تصبح إرادة وزير منفرد أقوى من إرادة غالبية الوزراء، وهو ما يخلّ ببديهيات النظام البرلماني التي تقوم على مبدأ التضامن الوزاري.

وقد عبّرت المادة 28 من المرسوم رقم 2552 تاريخ 1 آب 1992 (تنظيم أعمال مجلس الوزراء) بشكل صريح عن هذا المبدأ إذ نصت على التالي: “إن قرارات مجلس الوزراء ملزمة لجميع أعضاء الحكومة وفقا لمبدأ التضامن الوزاري وعلى الوزير المختصّ تبعا لذلك الالتزام بتوقيع مشاريع المراسيم تنفيذا لهذه القرارات”.

وقد اعتبر مثلا العميد “جورج فيديل” أنه في حال جرى تصويت ما داخل جلسة لمجلس الوزراء على الأقلية أن تقبل وتنضمّ لرأي الأكثرية إذ لا توجد “معارضة” داخل الحكومة. فقط عبر استقالته يتمكن الوزير من استعادة حريته والتعبير عن رفضه لقرارات الحكومة[2].

وقد حصل هذا الأمر بالفعل عندما رفض وزير العمل شربل نحاس لأسباب مبدئية وقانونية التوقيع على ما بات يعرف بمرسوم بدل النقل رغم إقراره في مجلس الوزراء سنة 2012. وانتهى الأمر حينها بتقديم شربل نحاس لاستقالته وصدور المرسوم رقم 7573 تاريخ 23/2/2012 حاملا توقيع وزيل العمل بالوكالة نقولا فتوش.

وهكذا يتبين لنا أنّ التسوية التي جرتْ بين أركان النظام في سنة 2012 على حساب حقوق العمّال أفضتْ إلى التضحية بوزير العمل الذي رفض التوقيع على مرسوم أقرّه مجلس الوزراء لأسباب مبدئية بينما امتناع وزير المالية اليوم عن توقيع مراسيم التعيينات يدخل ضمن منطق التحاصص بين الزعماء. فبدل أن يعمد وزير المالية إلى الاستقالة أو حتى أن تتم إقالته كونه يخرق مبدأ التضامن الوزاري، سيقوم أركان النظام بالتفاوض لإيجاد مخارج تحافظ على التوازن القائم بينهم حتى لو أدى ذلك إلى ضرب مؤسسات الدولة وخرق المبادئ الدستورية.

إن رفض توقيع وزير ما على المراسيم التي يقرّها مجلس الوزراء تعيد مجددا طرح مسألة غياب أي نص دستوري يفرض على الوزراء التوقيع على المراسيم أسوة بالمادة 56 من الدستور التي تفرض على رئيس الجمهورية توقيع المراسيم التي تتخذ في مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما وإلا تعتبر نافذة حكما ويتم نشرها دون توقيع رئيس الجمهورية.

وقد رفض مجلس شورى الدولة في رأي استشاري له حول تعديل النظام الداخلي لمجلس الوزراء إضافة الفقرة التالية إلى المادة 28: “وفي حال تمنع أحد الوزراء عن التوقيع ضمن مهلة عشرين يوما من تاريخ إيداعه مشروع المرسوم يعتبر المرسوم نافذا دون توقيعه”. وقد علل المجلس رفضه هذا وفقا للتالي: “وبما أن توقيع وزير المختص على المرسوم هي الطريقة الدستورية التي بموجبها يتولى الوزير (…) إدارة مصالح الدولة وتطبيق الأنظمة والقوانين (…) فتوقيع الوزير المختص المرسوم ليس أمرا شكليا لازما فحسب بل انه من المقومات الجوهرية لتكوين المرسوم الصادر. وعلى هذا فإنّ خلو مرسوم ما من توقيع الوزير المختصّ يجعل من المرسوم عملا إداريا باطلا” (رأي رقم 14 تاريخ 18/11/1993). وهكذا صدر مرسوم تعديل النظام الداخلي لمجلس الوزراء في 31 كانون الثاني 1994 من دون إضافة هذه الفقرة عملا برأي مجلس شورى الدولة.

ولا شك أن رأي مجلس شورى الدولة ينسجم مع النظام القانوني الحالي المعول به في لبنان كون فرض مهلة على الوزير تحتاج إلى نص دستوري ولا يمكن أن تتم بمرسوم أو حتى بنص تشريعي. فقد نصت المادة 54 من الدستور بشكل واضح على التالي: “مقررات رئيس الجمهورية يجب أن يشترك معه في التوقيع عليها رئيس الحكومة والوزير أو الوزراء المختصّون ما خلا مرسوم تسمية رئيس الحكومة ومرسوم قبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة”.

تعتبر هذه المادة من المسلمات في النظم البرلمانية كون رئيس الدولة غير مسؤول أمام السلطة التشريعية ما يفرض اقتران جميع المراسيم الصادرة عنه بتوقيع الحكومة التي تتحمل مسؤوليتها وتخضع للمحاسبة السياسية أمام مجلس النواب.

وقد اعتبر مجلس شورى الدولة في أكثر من قرار له “أنّ توقيع الوزير المختصّ المرسوم ليس أمرا شكليا لازما فحسب بل أنه من المقوّمات الجوهرية لتكوين المرسوم الصادر لتعلقه بالصلاحية. وعلى هذا، فإنّ خلو مرسوم ما من توقيع الوزير المختصّ يجعل هذا المرسوم عملا إداريا باطلا لصدوره عن سلطة غير صالحة” (قرار رقم 133 تاريخ 4/12/1997). لذلك تعتبر قضايا الصلاحية من الانتظام العامّ التي توجب على القضاء الإداري إثارتها عفوا.

وقد تم اعتبار نقل السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء من “الإصلاحات” الكبرى التي أدخلها اتفاق الطائف في الدستور اللبناني بحيث باتت قرارات هذا الأخير ملزمة للجميع بمن فيهم رئيس الجمهورية الذي لم يعد يملك القدرة على تجميد المراسيم التي تقرها الحكومة كونه بات ملزما بالتوقيع عليه خلال مهلة محددة.

لكن غياب نص دستوري يفرض هكذا مهلة على رئيس الحكومة والوزراء أثار مسألة طبيعة قرارات مجلس الوزراء وهل هي تحتاج إلى مراسيم كي تصبح نافذة. وقد عقد مجلس النواب في 29 أذار سنة 2000 جلسة مخصصة لمناقشة الاستجواب التي تقدم به النائب نقولا فتوش “عما إذا كانت قرارات مجلس الوزراء بالمطلق تعتبر نافذة عملاً بأحكام المواد 17 و56 و65 من الدستور اللبناني” أو هي تحتاج إلى مراسيم. وقد رد رئيس الحكومة حينها سليم الحص معتبرا أن “القاعدة العامة تبقى أن مقررات مجلس الوزراء لا تكتسب قوّة النفاذ ما لم تصغ بشكل قرارات موقعة من الوزير أو بشكل مراسيم تصدر وفقاً للأصول”. علاوة على ذلك رفض رئيس الحكومة إمكانية قيام مجلس النواب بتفسير المواد الدستورية التي تتعلق بهذا الموضوع خلال الجلسة المخصصة لمناقشة الاستجواب معتبرا “أن أي تفسير لهذه المواد الدستورية يستلزم إصدار قانون دستوري”. وقد أثار هذا الرد حفيظة رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي قرر بعد نقاش مستفيض رفع الجلسة معلنا التالي: “هذا انقلاب على الطائف ولن يمرّ من المجلس النيابي أبداً، إنني أقول هذا سلفاً وإني أعطي رأيي، لقد دفع الثمن غالياً في لبنان من أجل هذا الأمر، ومن أجله قامت الفتنة في لبنان، هذه التفسيرات الزمخشرية، فليسمحوا لي فيها”. وبعد استئناف الجلسة مساء، وفي ظل اصرار بعض النواب ورئيس الحكومة على أن قرارات مجلس الوزراء تحتاج إلى مراسيم، سارع رئيس مجلس النواب نبيه بري للتعبير عن اعتراضه الشديد بقوله: “ليس بإمكان الرئاسة أن تسجّل على المجلس الكريم على الإطلاق، أن موضوعاً من هذا النوع نوقش وحصل فيه كلام مثل الذي حصل صباحاً. برأيي أنا وكما عبرت صباحاً، أنني أعتبر هذا انقلاباً على الطائف، وهذا قد دفع ثمنه الكثير الكثير، لأنه فعلاً وواقعاً، وكما تفضل دولة الرئيس حسين الحسيني وقال إن هذه قصة وفاقية، ومجلس الوزراء إذا لم يكن مؤسسة، فلا ضرورة أبداً أن نطالب بنظام داخلي له، فإذا لم يكن مؤسسة فلماذا النظام الداخلي؟ أكثر من ذلك، إذا كانت قرارات مجلس الوزراء لا تتمتع بالصفة التنفيذية، فماذا يهم رئيس الجمهورية حينها، ولماذا سيعيدها إلى مجلس الوزراء؟”.

وبعد اصراره على أن مجلس النواب هو الذي يفسّر الدستور، وصل رئيس المجلس بري إلى الخلاصة التالية: “إنشاء الحق يتم في مجلس الوزراء وليس بمرسوم وإعلان الحق يتم بمرسوم” وينتهي إلى التفريق بين المراسيم العادية والمراسيم التي تحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء فيعتبر: “الوزير المختص قال أنا لن أوقعه (اأي المسرسوم العادي)، أو رئيس الحكومة قال أنا لا أريد أن أوقعه، أو رئيس الجمهورية قال أنا لا أريد أن أوقعه، فليست هناك مشكلة، لأنه مرسوم عادي أي أنه لم يكن نتيجة لقرار مجلس الوزراء، أما إذا كان نتيجة لقرار مجلس الوزراء فإن الأمر يختلف، لماذا؟ لأن الحق قد أنشىء في مجلس الوزراء، فإذا لم يوقع المرسوم فهذا يعني أنه قد كسر قرار مجلس الوزراء”.

وبغض النظر عن موقف رئيس مجلس النواب الذي لا يتمتع بأي قيمة قانونية كونه لا يوجد أي نص يفرض على الوزراء توقيع المراسيم، وأن التفريق بين إنشاء الحق وإعلان الحق هو مجرد صيغة بلاغية لم يأخذ بها القضاء الإداري، يتبيّن لنا أنّ الرئيس بري شدّد في مناقشات جلسة المجلس النيابي المنعقدة في 29 آذار 2000 بشكل قويّ على أنّه لا يجوز كسر قرارات مجلس الوزراء من قبل وزير يرفض التوقيع عليها، وهو اعتبر أيضا أن هذه النقطة هي من أهم تعديلات اتفاق الطائف التي حولت مجلس الوزراء إلى مؤسسة جماعية بعد حرب أهلية طويلة دفع ثمنها الجميع، وبالتالي لا يحق لأحد نقض قرارات مجلس الوزراء عبر التمنع عن توقيع المراسيم التي تقرها الحكومة.

وهكذا يتبين لنا كيف ناقض رئيس مجلس نواب نفسه إذ بات اليوم يطلب من وزير المالية التابع له سياسيا التمنع عن توقيع قرارات مجلس الوزراء، أي انه يريد منه كسر قرارات الحكومة والتفريط بالمبدأ الذي تم دفع ثمنه غاليا طيلة سنوات الحرب وفقا لتعبيره هو، ما يؤكد ان الصراع السياسي في لبنان غالبا ما يتخذ شكلا دستوريا لكنه في الحقيقة مجرد توازن هش بين الزعماء الذين يستخدمون المنطق الدستوري خدمة لمصالحهم المتقلبة ولا يتورعون عن تعطيل المؤسسات بغية تحسين موقعهم التفاوضي داخل النظام.


[1]  وبغض النظر عن الكيفية التي تمت فيها اقرار تلك التعيينات والتسريبات التي تناقلتها وسائل الإعلام حول ما جرى في مجلسة مجلس الوزراء ما يخالف مبدأ سرية مداولات الحكومة.

[2] “Si un vote a lieu, la minorité est censée se rallier à l’avis de la majorité. Il n’ya pas d’opposition dans le Cabinet. Ce n’est qu’en démissionnant que les dissidents peuvent retrouver leur liberté d’action et de critique » (Georges Vedel, Manuel élementaire de droit constitutionnel, Recueil Sirey, 1949, p. 444, réédition Dalloz, 2002).

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، البرلمان ، سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، مرسوم ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني