عن سمر شهيدة بنت جبيل التي لم تطفئ المعاناة ضحكتها


2024-01-24    |   

عن سمر شهيدة بنت جبيل التي لم تطفئ المعاناة ضحكتها

قبل ساعات قليلة من استشهادها في غارة إسرائيلية في بلدة كفرا جنوب لبنان، يوم الأحد 21 كانون الثاني 2024، كانت سمر جميل السيد محمد (58 عامًا) تُشارك في تشييع أحد أبناء بلدتها بنت جبيل، وتقول للمعزّين ممازحة “سأستشهد قريبًا بغارة إسرائيلية”. وما هي إلّا ساعات قليلة حتى تحققت نبوءة سمر، واستشهدت في غارة إسرائيلية استهدفت سيارة كانت مارّة بالقرب من سيارتها أثناء انتظار ابنها علي على الطريق في كفرا لتصطحبه معها إلى بنت جبيل حيث يعيش في بيت منفصل مع عائلته. كانت إصابة سمر بليغة ففارقت الحياة بعد نقلها إلى مستشفى تبنين الحكومي، فيما نُقل علي إلى المستشفى للمعالجة، بجراح بليغة أيضًا. 

تقول غنوة، ابنة سمر، في اتصال مع “المفكرة القانونيّة” إنّ والدتها كانت لا زالت تتنفس في اللحظات الأولى بعد الاستهداف “أخي أخبرني بذلك، لكنّ الإصابة كانت شديدة فتوفّيت”. ويعزّ عليها كثيرًا أنّها لم تعرف “شو كان بدها أمي تقول في لحظاتها الأخيرة”.

استشهدت سمر صاحبة الوجه الأسمر والعيون العسلية، والتي كانت كما تصفها ابنتها، “تحب الفكاهة وتعرف كيف تُكافح الملل، وابتسامتها لا تُفارق وجهها”. لكن وراء تلك الابتسامة الدائمة مُعاناة وظروف صعبة كانت جزءًا من قصّة حياة والدتها التي تسرد غنوة وصديقة سمر المقرّبة سناء لـ “المفكرة” شيئًا منها.  معاناة بدأت ولم تكن قد أتمّت السابعة من العمر مع اعتقال إسرائيل والدها وتحمُّلها المسؤولية مع والدتها باكرًا. معاناة روتها لأبنائها بسرد ممزوج بالفكاهة، حتّى لُقّبت بعد موتها بالمظلومة المكافحة والصبورة، ولكن أيضًا المرحة والحبّوبة أيضًا.

حملت الهمّ صغيرة

تقول غنوة ابنة سمر: “جدي والد أمّي، كان مقاومًا ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في السبعينيات، يومها اختطفه العدو الإسرائيلي واختفى أثره”. وتتابع: “منذ ذلك الحين، اضطرّت أمي أن تكون سندًا لجدتي التي تحمّلت رعاية أولادها الثمانية وإعالتهم وحيدة”. عملت والدة سمر في مطبخ مستشفى صلاح غندور في بنت جبيل (الذي كان يُطلق عليه سابقًا اسم مستشفى الـ 17 في مرحلة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان)، فيما اعتنت سمر، وكانت صغيرة، بأخوتها في غياب الوالدة. وكانت تطبخ للعائلة وتنظّف وتساعد في متطلّبات البيت كافة في غياب أمها، بحسب ما تروي غنوة.

ظروف قاسية واجهت عائلة سمر مع اعتقال والدها، ومع الاحتلال الإسرائيلي لقرى الجنوب، إضافة إلى أوضاع معيشية صعبة، مما أثّر على إمكانية استكمال تعليمها، فتركت المدرسة من الصف العاشر. بعدها تزوجّت سمر وهي في السادسة عشر من عمرها، وأنجبت ستّة أولاد، وقبل نحو 5 سنوات توفّي زوجها عبد الكريم شامي بعد إصابته بمرض السرطان. تروي غنوة أنّه “بعد وفاة والدي أصبحت الظروف على والدتي أقسى من ذي قبل، فارتأت العمل لتؤمّن مدخولًا، وعملت في إعداد المونة، من الزعتر والسمّاق والكمّون والزهورات وبيعها”. ولم يقتصر الفقدُ في حياة الشهيدة سمر على أبيها ومن ثم زوجها، بل تمزّق قلبها أيضًا إثر وفاة شقيقها بلال قبل 8 سنوات، بعدما سقط عن الشرفة. يومها فقدت سمر قطعة من قلبها، ثم خسرت قطعة أخرى منه مع استشهاد ابن شقيقتها في العدوان الإسرائيلي الحالي في تشرين الثاني 2023.

سمر رفضت ترك بيتها

أصرّت سمر على البقاء في بيتها في بنت جبيل وكانت كلّما طلبت منها إحدى بناتها أو أحد أبنائها أن تأتي لتمكث معها في بيتها ومع عائلاتها ترفض الأمر، واختارت أن ترضيهم بزيارات مؤقتة لبضعة أيّام، زيارات تنتهي سريعًا حين تشتاق لمنزلها فتوضّب أغراضها مسرعة، لتعود إلى بنت جبيل رغم خطورة الطرقات. تقول غنوة إنّ “والدتي لم تتحمل أن تعيش في بيت أحد، حاولت أن تجد منزلًا خارج القرى التي تتعرّض للاستهداف الإسرائيلي ولكن من دون جدوى، بخاصّة مع ارتفاع إيجارات المنازل”. ووتابع أنّها “كانت كلّما طلبت منها أن تأتي إلى منزلي في صور ترد عليّ “ما في شي، الوضع تمام وأنا منيحة”. تمنّت غنوة لو أنّ والدتها خرجت من بنت جبيل، “لو أنّها رضيت بأن تأتي وتسكن معي في صور. لكنّ أمّي كانت عزيزة النفس ولا ترتاح في بيت أحد إلّا في بيتها”. تتابع “قالت لي، لا أريد الخروج من منزلي، أنا بخير وأتونّس ببعض الجيران الّذين بقيوا في الحارة”.  

وبين الأمان وعزة النفس، اختارت سمر عزة النفس، فقرّرت أنّ وجودها في منزلها في بنت جبيل مع أغراضها الشخصية ورائحة الزعتر التي تعبق من مطبخها، أفضل لها من أن تكون في مكان لا تشعر فيه أنّها في منزلها.

سناء، صديقة سمر المقرّبة، تؤكد أيضًا أنّها لم تكن ترتاح  في أي بيت غير بيتها. وتُضيف “أعلم أنّ البيت والأرض ليسا أغلى من أصحابها، لكن من معرفتي بسمر أعرف ماذا يعني بالنسبة لها أن تكون في مكان غير بيتها”. وبين سمر وسناء صداقةً عمرها أكثر من  40 عامًا، تقول سناء: “تعرفت عليها عام 1987 حين زرناها أنا وزوجي في منزلها يوم عيد رأس السنة، ومن حينها بتنا صديقتين، نتكلم بشكل شبه يومي ونزور بعضنا البعض، إلّا أنّه خلال الحرب الجارية اقتصر تواصلنا على الهاتف”. تستعيد سناء اللحظة التي عرفت فيها باستشهاد سمر “كنت في المنزل وسمعت بأنّها أُصيبت، كنت أدعو أن تنجو، فكرت بأنّها مصابة لكن لم أتخيل أن أفقدها”. ولاحقًا، “عرفت من الإعلام أنّ سمر استشهدت”.  ويعزّ على سناء أن تفقد سمر، “لا أستوعب أنني فقدتها، لا زلت لا أعرف كيف أتقبل الأمر، كيف سأعود إلى بنت جبيل وسمر ليست في البلدة لأزورها وتضحكني كما تفعل كلما رأيتها”.

نزح عدد كبير من أهالي بنت جبيل في العدوان الأخير بعد أن كثّفت إسرائيل غاراتها على البلدة ورغم ذلك لم تنزح سمر ولعلّها قبل أن يتّصل بها ابنها لتقلّه إلى بيته كانت تجلس على شرفة منزلها ووشاح أسود يُغطي رأسها، ربما كانت تنظّف الزعتر المطحون على صينية تهزّها فتتطاير منها كسرات القش وتحط على الأرض بانتظار أن تأتي بمكنستها تجمعها وترميها في الحاكورة، فيما تدندن بعض كلمات أغنية حفظتها منذ كانت طفلة. ومن حيث تشرف سمر في جلستها على الطريق، تُلقي التحية على العابرين النادرين وترميهم بواحدة من طرفها التي عُرفت بها، مع ضحكة عفوية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني