عن أي اقتراع حر نتحدث في ظل أزمة غير مسبوقة؟ الرشى والزبائنيّة غطّت سماء الاستحقاق الانتخابي


2022-05-17    |   

عن أي اقتراع حر نتحدث في ظل أزمة غير مسبوقة؟ الرشى والزبائنيّة غطّت سماء الاستحقاق الانتخابي

صباح الأربعاء 11 أيار 2022، قبل 3 أيام من موعد الانتخابات النيابيّة، يرن هاتف سيباستيان، ابن بلدة دوما في جرد البترون، وهو في طريقه إلى عمله في عاصمة القضاء، البترون نفسها، ليجد على الخطّ موظفاً في ماكينة أحد المرشحين عن دائرة الشمال الثالثة (البترون-الكورة زغرتا وبشري)، الذي يقول له: “مروق اشرب عنا قهوة بالمكتب”، ثم يضيف: “وقبل ما توصل ع المكتب مروق ع الحلاب تروّق كنافة ع حسابنا، وتعا عايزينك”.

في الهرمل، دخلت لميس إلى إحدى الصيدليات لتشتري دواء والدتها المقطوع. قال لها الصيدلي “ما في عندي إلّا ظرفين”. علمت لميس أنّه يملك “ستوكاً” من هذا الدواء فتوسّلته إعطاءها حاجة أمها لعشرة أيام ريثما تتدبر الكمية من بيروت كون حياة والدتها مهددة بالخطر. “خليني أمّن دواها ع أسبوع ع القليلة حتى إقدر جيب من بيروت” قالت، فرد عليها “خبريني قبل مين بدك تنتخبي، ومنحكي”.

وقبل نحو 20 يوماً، وفي كسروان تحديداً قصد المواطن (أ.أ) المكتب الانتخابي لمرشح متموّل طالباً مقابلته وعند إلحاح ماكينة الأخير الانتخابية على معرفة طلبه “نحن منلبيك”، قال لهم إن أمه تحتاج إلى عملية جراحية تكلّف 30 مليون ليرة، وأنه بحاجة إلى مساعدتهم. بعد مشاورات تم منحه 15 مليون ليرة. حمل (أ.أ) الـ 15 مليوناً وتابع طريقه إلى المكتب الانتخابي لمرشح كسرواني ثان وروى لفريق عمله القصة عينها، وقبض 10 ملايين ليرة وأكمل رحلته إلى مكتب مرشح ثالث في الدائرة عينها. هناك، ولأن فريق عمل هذا المرشح وبتواصله مع فريقي عمل المرشحين السابقين علم بما فعله “أ.أ” استقبلوه وأخبروه أنهم يعلمون بفعلته، وخصوصاً عدم حاجة والدته لعملية جراحية “ومع هيك تفضل يا إبني هودي مليوني ليرة”. منحوه المال ليذهب في حال سبيله، وفي جيبه 27 مليون ليرة لبنانية.

وفي المتن الأعلى في قضاء بعبدا، وخلال زيارة لفريق من “المفكرة القانونية” إلى أحد مخاتير المنطقة، بادرنا بالقول “لمين عم تشتغلوا؟ عندي أصوات بمون عليها، قديش بدكم تدفعوا؟”. وبما أنّ الزيارة حصلت في شهر آذار وإثر عاصفة ثلجية ضربت لبنان، طلب منّا المختار النظر إلى الشارع “شو في ع الطريق؟”، وعندما أجبناه “في تلج”، سألنا أن نلمس المدفأة في بيته، وكانت باردة، “قاعدين بلا تدفئة وأوقات ما معنا حق رغيف الخبز، كل الناس المحتاجة بدها تبيع أصواتها”، قال.  

وفي شبهة عرض أصوات للبيع، رصد فريق “المفكرة” خلال شهر آذار في زحلة، تعليقاً لأحد مستخدمي فيسبوك على بوست للمرشّح الشيعي على لائحة “الكتلة الشعبية” فوزت دلول، يقول فيه “بالتوفيق انشالله إذا بيلزمك أية مساعدة بالنسبة للأصوات، أنا من تعنايل من عشيرة اللويس. احكيني خاص”.

ليست الرشاوى الانتخابية جديدة في مواسم الانتخابات. فجذب الناخبين عبر المال غير المباشر، أي عبر الخدمات المستمرة أو الموسمية، أوالمباشر، المتثمل بالدفع “الكاش”، موثق في كل الاستحقاقات ومنذ الاستقلال ولغاية اليوم. إذ طالما قيل، على سبيل المثال لا الحصر، أنّ الأخضر يغطي سماء زحلة يوم الانتخابات، في إشارة إلى الأيام التي كان المرشحون يدفعون فيها بالدولار. كما أن كسروان شهيرة، وبسبب تركيبتها الناخبة ومعها مرشحوها وجُلّهم من رجال الأعمال والعائلات الإقطاعية إذ لا عقيدة حزبية تشدّ الناخبين غير الحزبيين، بتميّزها بالسخاء المالي في زمن الانتخابات. ولكن استحقاق انتخابات 2022 الأحد الماضي، جاء في ظل أسوأ أزمة اقتصادية عرفتها البلاد في التاريخ الحديث، متزامنة مع أزمة كوفيد 19 المستمرة منذ أكثر من عامين، وانهيار البلاد مع انخفاض الناتج المحلي للبنان من 55 مليار دولار إلى عتبة الـ 20.5 مليار دولار (أرقام البنك الدولي) ونهب مدخرات العباد وتفجير مرفأ بيروت الذي نتج عنه سقوط نحو 225 ضحية وأكثر من 6000 جريح بينهم 800 أصيبوا بإعاقات مؤقتة ودائمة، فيما تراوحت خسائره المالية بين 3.8 و4.6 مليارات دولار أميركي (البنك الدولي)، وفقدان رواتب الموظفين والمتقاعدين والأجراء قيمتها الشرائية واتساع رقعة القابعين تحت خط الفقر. وتشير أرقام البنك الدولي إلى أن أكثر من 50% من الشعب اللبناني أضحى تحت خط الفقر، فيما انزلقت الطبقة المستقرة التي كانت تعتبر متوسطة إلى عتبة خط الفقر عينه.  كل هذا يجعل من إجراء الانتخابات النيابية في 2022 تتماهى مع الانتخابات في ظل الحروب، ومعها مدى قدرة الناخبين على الاختيار الحر.

وفي السياسة حمّل الأفرقاء السياسيون الاستحقاق الانتخابي الحالي بعداً مصيرياً في خطابات القوى المتنافسة حيث حذر كلّ منها جمهوره ومناطق استقطابه والكتلة الناخبة من أنّ نتائجها “ستُغيّر” وجه لبنان، ومن أن المجلس النيابي المنتخب سيحدد هوية رئيس الجمهورية، فيما يتنافس في دائرة الشمال الثالثة (البترون، الكورة، زغرتا وبشري) أربعة مرشحين للرئاسة الأولى.

خدمات زبائية متشعبة

من كل هذه الأسباب، وعلى رأسها حاجة الناس وعوزهم على كامل رقعة البلاد، شهد الاستحقاق الانتخابي الحالي إنفاقاً انتخابياً غير مسبوق، تمدّد، وللمرة الأولى، ليطال عند أحزاب ومرشحين مقتدرين تأمين خدمات للمناطق والناخبين هي في صلب مهام الدولة، ومنها دفع رواتب بعض موظفي الإدارات العامة في بعض المؤسّسات الرسمية، عدا عن وقود المازوت لتشغيل مضخاّت الآبار التي تغذّي بعض البلدات وإيصال مياه الشبكات إلى منازل مواطنيها. والملفت هو تفاخر القوى السياسية سواء الأحزاب أو المرشحين المتمولين والمستقلين بهذا الإنفاق، ونشر مواد بصرية سواء كانت أرقاماً (رسوماً بيانية) أو فيديوهات تُفنّد هذه المساعدات والخدمات الزبائنيّة تحت عنوان “وقوفنا إلى جانب أهلنا في الأزمة”.

ومن خلال الرصد الذي نفّذه 16 مراسلة ومراسلاً متعاونين مع “المفكرة” في الدوائر الـ 15 الموزعة على كامل الأراضي اللبنانية، تمكنّا من توثيق أنواع شتى من الإنفاق الانتخابي سواء المستدام منه عبر مؤسسات وجمعيات تابعة لأحزاب السلطة ومرشحين مستقلين أو المستجد-الموسمي منه والمتعلق مباشرة بموسم الإنتخابات، من دون إسقاط المساعدات التي قادتها أحزاب السلطة وبعض المرشحين التقليديين المستقلين مع بدء أزمة كورونا ومعها الانهيار والأزمة الاقتصادية الخانقة تحسباً واستعداداً وبناء للاستحقاق الانتخابي، وهي عطاءات طالت بداية المحازبين وعائلاتهم ثم تمددت مع قرب الانتخابات نحو غالبية الكتل الناخبة في مناطق نفوذ القوى السياسية.  

الزبائنيّة الطبيّة والصحيّة

بدأت مساعدات الأحزاب بتقديم الخدمات الطبيّة عبر المستوصفات والمؤسسات الصحيّة التابعة للأحزاب عينها، وهي مؤسسات متعاقدة في معظم الأحيان مع وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية، أي أنها تموّل ولو جزئياً من الدولة، وتتلقى تمويلاً مستداماً من جهات مانحة باسم الشعب اللبناني. ووثّق مراسلو/ات “المفكرة” إزالة أي إشارة تبيّن مصدر الهبة عن مساعدات وصلت من جهات مانحة لتبدو وكأنّها مقدّمة من المرشح فقط، أو الحزب السياسي الذي يوزّعها. هذه الخدمات الطبيّة توسعت مع قرب موسم الانتخابات لتشمل إضافة إلى الفحوصات الطبيّة وكشفيّات الأطباء من طب عام واختصاص سواء المجانية أو بأسعار رمزية، تأمين أدوية وعلاجات ولقاحات كورونا، وكذلك التدخل لتأمين الأسرّة الاستشفائية لمرضى كورونا عندما فاقت الإصابات قدرة المستشفيات على استيعاب المصابين. ومع اقتراب الانتخابات سيّر المرشحون والأحزاب  عيادات نقّالة إلى المناطق الريفيّة وحتّى في أحياء المدن. وخلال فترة كورونا، تحوّل تأمين الأحزاب وزعمائها لقاح كورونا إلى “بورصة” يتفاخرون بها وبكم ألف لقاح أمّن هذا الزعيم أو ذاك. وتشعّبت خدمة الطبابة لتعزّز الزبائنيّة والرشى الانتخابية مع أزمة الدواء وكلفة الاستشفاء وانهيار الصناديق الضامنة من الضمان الاجتماعي إلى تعاونية موظفي الدولة إلى الصناديق التعاضديّة ومعها الألوية الطبيّة التابعة للأسلاك العسكرية، حيث لم تعد مساهمة الجهات الضامنة تغطي أكثر من 10% من كلفة استشفاء المرضى.

وعليه، عمدت الأحزاب التي تتمتع بالنفوذ إلى التدخّل لتأمين أسرّة استشفائية للمرضى- ناخبيها في المستشفيات الحكوميّة، ودفع فروقات تغطية وزارة الصحة فيها عن المرضى. وهناك مئات الحالات التي تم توثيقها تحت خانة هذا الإنفاق. كما عمدت الأحزاب التي تمتلك مستشفيات خاصة إلى فتح مستشفياتها لتطبيب الفئات الناخبة ضمن مناطقها، والمساهمة في تغطية نفقات الاستشفاء في المستشفيات الخاصة التي تصل إلى مئات ملايين الليرات اللبنانية في الحالات المعقّدة التي تتطلّب العناية الخاصة أو العمليّات الجراحيّة. حتى أن بعض الأحزاب والمرشحين التقليديين يودعون مبالغ مالية في بعض المستشفيات والصيدليات يخصصونها لأبناء المناطق الناخبة الخاصة بهم لتغطية استشفاء أو فحوصات أو شراء أدوية. كما كان التدخل لتأمين أدوية الأمراض المستعصية سيّد الموقف حتى عبر وزارة الصحة نفسها أو استيراد أدوية إيرانيّة وتركيّة وأجنبيّة لسدّ النقص الكبير في علاجات أمراض السرطانات تحديداً، والتي فُقدت بدورها من الأسواق. وعلى سبيل البيان وليس الحصر، قدم رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، مساعدات استشفائية ل 620 مريضا بكلفة مليار وسبعماية وسبعين مليون ل.ل، وفق الجمعيّة اللبنانيّة من أجل ديمقراطية الانتخابات في رصدها للحملات الزبائنيّة.

وجاء رفع الدعم كليّاً عن بعض الأدوية وجزئيّا عن البعض الآخر ليولّد باباً إضافياً للزبائنية. وصارت المفاتيح الانتخابية للأفرقاء السياسيين بمثابة صيادلة في المناطق يأتيهم الناخبون بوصفات الأدوية وكراتينها  ليعملوا على تأمينها لهم. ودائماً يترافق تقديم هذه الخدمات مع عبارة “ناطرينكم يوم الانتخابات”.

الزبائنيّة المعيشيّة

لم يشُذ أي من أحزاب السلطة وبعض المرشحين التقليديين والمتمولين عن البدء بتوزيع كراتين “الإعاشة” على كتلهم الناخبة منذ بدء أزمة كورونا واشتداد الأزمة الاقتصادية. وصارتْ بعض العائلات تعتمد حرفياً على هذه المساعدات في تأمين معيشتها من الحبوب والزيوت وحتى الدواجن واللحوم التي وزّعت عبر برادات عشيّة الأعياد، وأسبوعياً مع قرب موسم الانتخابات مع عجْز السواد الأعظم من المواطنين على تأمين غذاء متوازن وكاف لعائلاتهم وأطفالهم. ومع كراتين الإعاشة جاءت طفرة تأمين حليب الأطفال الذي ارتفعت أسعاره لدرجة لم يعد يكفي راتب الموظف لشراء ثلاث علب حليب في الشهر للأطفال الرضع أو صغار العائلة الذين يُشكل الحليب مكوناً أساسياً في غذائهم.

ومع الإعاشات الدورية، عمدت بعض الأحزاب إلى توزيع بطاقات شراء (بونات) مواد غذائيّة ليس فقط على المحازبين وعائلاتهم، بل شملت بها الغالبيّة العظمى من المواطنين في مناطق نفوذها. وكان ملفتاً حصول فئات معروفة بعدم ولائها لهذه الأحزب تاريخياً وفي الاستحقاقات الانتخابية السابقة على البطاقة التي تُباع عبرها السلع بأسعار مدعومة وبأقل كلفة بكثير (في غالبية المنتجات) مما هي عليه في الدكاكين والسوبرماركات الأخرى. في مقابل البطاقات الشرائيّة الثابتة والمستديمة، سرت قسائم شرائيّة من سوبرماركات معيّنة وزعتها أحزاب أخرى على الناخبين وجمهورها بقيمة تترواح بين مليون إلى 750 و500 ألف ليرة شهرياً. وكانت المساعدات الغذائيّة تلحق بالناخبين إلى مناطق سكنهم، إذ وثّقنا توزيع كراتين إعاشة وتسيير عيادات طبية نقالة على سبيل المثال لمرشحين في دائرة بيروت الثانية في مناطق عرمون ودوحة الحص وخلدة وجدرا ووادي الزينة وشحيم حيث تسكن عائلات بيروتيّة ما زالت تنتخب في أقلام العاصمة. والأمر نفسه حصل في الضاحية الجنوبيّة حيث ينتخب معظم سكانها في الجنوب وبعلبك الهرمل.

وفتحت أزمة القمح ورغيف الخبز باباً إضافياً للزبائنيّة والرشى عبر لقمة الخبز. فشهدت مناطق عدّة إعلانات من أحزاب ومرشحين عن توفر كميّات من ربطات الخبز للمحتاجين والمقطوعين من الرغيف، كما عمد البعض إلى توزيع الطحين في بعض القرى و5 ربطات خبز أسبوعياً كلّما اشتدت الأزمة. 

وجاء شهر رمضان ليتيح فرصة إضافية للإنفاق تحت عنوان دعم الصائمين، فوزّعت كراتين إعاشة خاصة بـ “الشهر الفضيل” أضيفت إليها التمور وبودرة العصائر وقوارير الجلاب، ووصمت بصور للمرشحين أو بـ “لوغو” الأحزاب، أو شعارات حملاتهم الانتخابية. فيما نظّمت جمعيات دينيّة تابعة للأحزاب إفطارات يوميّة للمحتاجين والأيتام، ووزّعت وجبات ساخنة مع حلول موعد الإفطار على عائلات صُنّفت تحت تسمية “متعفّفة”. وفي الاتجاه نفسه، وزّع مرشحون متمولون أو تقليديون وأحزاب لحوماً وأسماكاً وذبائح على الصائمين من المسيحيين في عيد الفصح. وعرفت مناطق عدة تنظيم مسابقات رمضانيّة في الأحياء والشوارع وساحات بعض البلدات والمدن تتركز حول أسئلة دينيّة بسيطة وتوزيع جوائز على الرابحين ومعها مواد غذائيّة وألعاب للأطفال. 

وطالت المساعدات المعيشيّة توزيع لجان من أحزاب السلطة بطاقات دعم شهريّة من وزارة الشؤون الاجتماعية المخصصة للعائلات الأشد فقرأ.

رشى المازوت

ومع الطقس البارد الذي شهده لبنان هذا العام، وجدتْ أحزاب السّلطة في التدفئة باباً آخر للزبائنية واجتذاب الناخبين وربطهم بتقديماتها. وإضافة إلى مشهد الاحتفالات المناطقيّة في البقاع مع استقدام صهاريج المازوت الإيراني عبر سوريا، كانت أحزاب السلطة الأخرى ومرشحون متمولون يوزّعون المازوت خلال الأشهر الباردة. واستمرّ هذا الأمر إلى نهاية شهر آذار من البقاع إلى جرود البترون وبشرّي وزغرتا وأعالي الكورة وكذلك في الشوف وعاليه وعكّار. وشملت تقديمات المازوت مولدات اشتراكات الكهرباء. وكانت الأحزاب تسلم هؤلاء، كما المواطنين برميل المازوت بمليوني ليرة فيما كان يراوح سعره بين 3 مليون إلى 4 ملايين ونصف المليون في عز الأزمة. ويشترط الحزب على أصحاب المولّدات الالتزام بتسعيرة معيّنة أقلّ من الكلفة المستوفاة في حال عدم حصول صاحب المولد على مازوت مدعوم منه. حتى أنّ بعض الأحزاب وزّع خلال شهر نيسان، مبلغ مليوني ليرة لكل منزل من أسماء مسجلة لديه ممن لم يصلهم وقود التدفئة في كانون ثاني وشباط، تحت عنوان استكمال دعم المازوت، برغم ارتفاع درجات الحرارة وعدم حاجة الناس لإشعال المدافئ. وقام أحد أحزاب السلطة في بلدتي قيتولا وكفرفالوس في جزين بإصلاح مولدي الكهرباء وتأمين المازوت لهما. وإضافة إلى المازوت، اشترى مسؤول الحزب عينه مولداً كهربائياً لبلدة تنّورين الفوقا في جرد البترون الأعلى، ووزّع أيضاً مبلغ مليون ونصف المليون ليرة على مائة عائلة في تنّورين نفسها، وسط معلومات نشرها حزبه تفيد أن مسؤول المنطقة في الحزب هو من بادر إلى ذلك من جيبه الخاص.  

خدمات الدولة عبر الأحزاب

وكما مولدات اشتراكات الكهرباء، أمّنت الأحزاب ومعها مرشحون متمولون المازوت لتشغيل مضخّات مياه الآبار الارتوازية في العديد من البلدات والقرى لتأمين إيصال المياه إلى منازل المواطنين بعدما عجزت بعض مؤسسات المياه الرسمية عن ذلك. والأمر نفسه سرى على آليات جرف الثلوج في مراكز الدفاع المدني في الجرود وخصوصا في الأعالي التي تشهد تسكيراً للطرقات، وكذلك تأمين إصلاح وصيانة بعض التجهيزات والآليّات في المراكز عينها. وتباه أحد الأحزاب بفتح طريق الأرز عيناتا ومعها نقطة “نساف البطرك” الذي تتجاوز سماكة الثلوج فيها الـ 15 متراً، وعادة ما يتأخّر فتحها لغاية نهاية أيار وأوّل حزيران في الأيام العادية. وفي 27 آذار، زار وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية النائب المرشح سيمون أبي رميا في منزله في إهمج-جبيل، ثم توجّها إلى مركز جرف الثلوج، حيث اطلعا على حاجاته من رئيس المركز منير ضاهر. وشكر حميه أبي رميا على دعمه الدائم لناحية تأمين مادة المازوت لكي تقوم الآليات بعملها.

وفي الضنية، انتقل السجال بين أنصار النائب سامي فتفت والمرشح نزيه زود من الفايسبوك إلى الشارع، على خلفيّة “من أحضر محوّل الكهرباء؟” إلى إحدى البلدات، وأدى الشجار إلى إصابة وليد زود بجروح في رأسه.

وفي شهري آذار ونيسان، موّل أحد نواب صيدا جزين تركيب أعمدة إنارة LED في شواليق والجرمق ومهنية جزين ومدرسة جزين الرسمية عبر مخاتير محسوبة عليه.

وفي البقاع الغربي وراشيا، تسبّبت زبائنية أحزاب السلطة في التفريق في توزيع الكهرباء بين بلدات دائرة البقاع الثانية، بحساسيّات بين القرى حيث نعمت قرى بأكملها بالتغذية الصفراء على مدار 24 ساعة إلى 18 ساعة يومياً فيما غرقت بلدات مناهضة لهذه الأحزاب في الظلام. كما أدّت تغطية بعض الأحزاب لمزارع تعدين العملات (تحويل العملة الرقمية إلى عملة سائلة) التي تُشغّل آلات الماكينات الإلكترونية إلى أزمة كهرباء حادة في المنطقة ومعها منطقة جزين في دائرة الجنوب الأولى.

ونشطت بلديات عدة وتحديدا تلك الموالية لأحزاب السلطة والمحسوبة عليها، في تنفيذ مشاريع هي في صلب مهامها ولكنها تعلن عنها وتنجزها في موسم الانتخابات، ومنها مشاريع بنى تحتيّة وتأهيل وصيانة الحفر في الشوارع والأحياء وصيانة شبكات المياه ووضع خطط لتنظيم السير وتأهيل مداخل القرى مع الإشارة إلى أن ذلك يتم بتمويل من هذا الحزب أو ذاك.

رشى الطاقة الشمسيّة

وصل التقنين الكهربائي لشركة كهرباء لبنان إلى ذروته في الأشهر الأخيرة إذ اقتصرت التغذية على ستين دقيقة في ال 24 ساعة، فيما وصلت تسعيرة مولد الاشتراك إلى سقف 4 ملايين ليرة لبنانية شهرياً، مما دفع المواطنين إلى اللجوء إلى الطاقة البديلة، أي الطاقة الشمسيّة، للمقتدرين ولمن لديهم أقارب في الاغتراب.

ووجد المتموّلون من أحزاب ومرشّحين في التغذية بالطاقة الشمسيّة باباً إضافيا للاستقطاب والزبائنيّة. ففي بيروت عمد أحد المرشحين المتمولين، والذي ينافس في دائرة العاصمة الثانية عبر لائحة أساسيّة، إلى إضاءة بعض شوارع بيروت والكورنيش البحري عبر الطاقة الشمسيّة بموافقة محافظ بيروت. كما أطلق أحد المرشّحين في دائرة الشمال الثانية مبادرة إنارة عدد من شوارع الزاهريّة في محيط مسجد أبي القاسم بالطاقة الشمسيةّ. من جهتها، أطلقت إحدى المؤسسات المحسوبة على حزب أساسي في السلطة قرض الطاقة الشمسية البالغ 5 آلاف دولار من دون أي فائدة (طبعا بعد تأمين موجبات الإقراض وشروطه) للجميع على أن يًردّ القرض على دفعات لا تتخطى 80 دولاراً في الشهر. وسُجل في مناطق عدة لجوء بعض المرشحين إلى تركيب طاقة شمسية لآبار ومضخات مياه ولمنازل عائلات شرط أن تصب جميع أصواتها لصالحهم في صناديق الاقتراع. ووصل الأمر إلى عرض الكثير من المواطنين، وفق ما رصده فريق المفكرة، أصواتهم مقابل الطاقة الشمسية.

الأقساط المدرسيّة والجامعيّة

كان لتصريح نائب ووزير سابق في منطقة المتن عن ترميم مدارس أن يفتح الباب للحديث عن مساهمته في تغطية أقساط مدرسية وجامعية. وهو ما فعله مرشحون في كسروان وجبيل أيضاً، ومن بينهم مرشح دفع 25 ألف دولار لإحدى مدارس الراهبات في المنطقة لدعم رواتب الأساتذة وتقديماتهم. وقامت إدارة بعض المدارس في دوائر انتخابية عدة بالاتصال بأهالي التلامذة (ومنها في جزين) لإبلاغهم بأن نائب ومرشح في المنطقة تكفّل بدفع الأقساط المدرسيّة المكسورة والمتأخرة عن طلابها. وفي الإطار نفسه، أمّنت أحزاب ومرشحون وقود المازوت للتدفئة في مهنيّات ومدارس رسميّة وخاصة في مناطق عدة.  

رشاوى “كاش”

غير الدفع الإعلاني المباشر الذي يدفعه مرشحو الأحزاب أو المرشحون المتمولون لوسائل الإعلام، رصد فريق “المفكرة” أموالاً تدفع لبعض الصحافيين والمراسلين لتغطية أخبار المرشحين واللوائح الانتخابية. ويتداول بعض الإعلاميين “بورصة” الدفع، والمبالغ المخصصة للخبر وللتغطية الصحافية وللموضوع وللتحليل وغيرها من المواد. وعلى سبيل البيان لا الحصر، تقدّم معاون لأحد المرشحين في البقاع من صحافيتين كانتا حاضرتين في لقاء للمرشح ذاتها، وعرض عليهما المال تحت عنوان “Geste” من المرشح. وبعد رفض الصحافيتين مال المرشح والتفوّه بكلام جارح بحقّه، اتصل الأخير بالصحفايتين وأوضح لهما أن معاونه قد تصرف من تلقاء نفسه وأن لا علاقة له بتوزيع المال.

وفي إطار دفع المال الكاش عينه، وقعت بورصة شراء الأصوات بشكل مباشر أو عن طريق توظيف مندوب او مندوبين في كل عائلة بمبالغ تدفع على 3 أشهر إضافة إلى مبلغ في يوم الاستحقاق الانتخابي. وأفاد مندوب لإحدى لوائح زحلة المفكرة القانونية بماهيّة الاتفاق مع المندوبين وتأمينهم للأصوات: “مثلاً أنا بتعهد على مسؤوليتي بتأمين عشرين صوتا مضمونين من عائلتي وأقاربي وأقدم بهم لائحة إلى الماكينة الانتخابية. وعليه يتم تسليمي مئة دولار عن كل إسم لتوزيعها عليهم”. وأفاد موظف في ماكينة انتخابية في كسروان المفكرة عن وصول بورصة الصوت عتبة 10 ملايين ليرة أحياناًـ “بيعرف أحد المرشحين أنه هيدي العائلة رح تنتخبه وعددها مثلاً خمسة أشخاص، فيقوم مناصر له بزيارة العائلة وتقديم عشرة ملايين ليرة لها على الأقل”. وأفاد مناصر لأحد أحزاب السلطة أن الحزب الذي يعمل معه فتح سقف المساعدات المعيشيّة والاستشفاء والأدوية من دون حدود مع قرب الانتخابات، ويعمد إلى توزيع مبالغ مالية على منازل ناخبيه بقيمة مليوني ليرة لبنانية لكل فرد بلغ 21 عاماً وما فوق، أي سن الإقتراع. ويفيد أحد العاملين في ماكينة أحد الأحزاب في الدائرة الثالثة في شمال لبنان (زغرتا بشري الكورة البترون) أن هذا الحزب دفع أقساط مدارس رسميّة وخاصة واستشفاء وأدوية ومعونات غذائية أكثر مما دفع “المال كاش”، مشيراً إلى أنّه عشية الاستحقاق دفع على سبيل المثال 4 ملايين ليرة لأحد الناخبين ثمن دواء لأبيه. وعمل المتنافسون في زحلة مثلاً، وفق ما قاله مفتاح انتخابي عتيق لـ “المفكرة”، وفق منهجية مؤسس إقطاعية آل سكاف الراحل جوزف سكاف في دفع الأموال واجتذاب الناخبين، ويقول: “كان يأتيه المسؤول عن ماكينته الإنتخابية ويقول له ما بقى تدفع مصاري يا بيك، صار عنا 4 آلاف صوت فوق حاجة لايحتنا”، فيرد عليه جوزف سكاف “اشترِ أصوات بعد، هودي منرجع منستردهم أضعاف بالانتخابات التانية عندما نساوم المرشحين على عدد ناخبينا وقوة استقطابنا”. وبالتالي، وفق المفتاح الانتخابي عينه، فإن المال في زحلة اليوم “أكثر من الكشك، فالمعركة حامية والجميع يدفع بسخاء تفوق على صيت عروس البقاع الشهير في الرشاوى”. وعندما تسأل المفتاح عينه عن من سينتخب يقول بكل صراحة “عم بشتغل مع كتار، بس بدي انتخب بالحقيقة ميشال ضاهر لأنه بعز أزمة كورونا أمّن لي 20 لقاح كورونا إلي ولكل عيلتي”.

وفي مرجعيون وحاصبيا حيث يعتبر رجل المصارف المرشح (الخاسر) في المنطقة نجم الإنفاق الانتخابي، أفاد موظف في ماكينته الانتخابية “المفكرة” صباح 13 أيار 2022، أن المرشح نفسه وبعدما دفع مبالغ تراوح بين 3 إلى 7 ملايين ليرة لنحو ألف مندوب في المنطقة، بدأ قبل يوم بدفع مليون ليرة لكل فرد في عائلة مندوبيه بلغ 21 عاماً (سن الإقتراع) وما فوق.

وكان لانتخابات الموظفين الذين سيشرفون على العملية الانتخابية التي جرت في 12 أيار 2022، أن تعطي مؤشرا “بروفا” عن اليوم الانتخابي. فقد أفاد أكثر من موظف اقترع “المفكرة” عن حصوله على 750 ألف ليرة لبنانية مقسّمة على 500 ألف مصروف بنزين و250 ألف طعام من أحد احزاب السلطة، كما حصلوا على 500 ألف ليرة من حزب أخر محسوب على السلطة ايضاً. ونتحفظ عن ذكر أسماء الموظفين، برغم سماح بعضهم بتسميتهم.

وفي رسالة صوتيّة وردت إلى موظف في ماكينة انتخابية لأحد مرشحي رئاسة الجمهورية في الشمال الثالثة جاء فيها “ما تعذب حالك وتمرق عند بيت خالتي، مبارح ظبطوا وضعهم مع حزب منافس لكم، ودفع لهم 20 مليون لأربع أصوات بالعيلة”.

وفي بيروت الأولى رفع داعم لإحدى لوائح السلطة، بورصة بدل المندوبين إلى 400 دولار لليوم الانتخابي، عدا عن الأصوات التي يؤمنها المندوب من عائلته والأقارب ويحاسب عليها شخصياً (أي المندوب بعد قبضها من المرشح). وهو مبلغ لم يصلْ إلى ما يدفعه أحد المرشحين وهو نائب حالي لكلّ مندوب ويتراوح ما بين 300 إلى 500 دولار، عدا عن الأصوات التي يؤمنها المندوب والذين يدفع لهم (للمقترعين) من 100 دولار وما فوق، وهو رقم متداول تبدأ منه بورصة شراء الأصوات على ما يبدو في استحقاق 2022.

ويفتح رئيس لائحة أساسية في بيروت الثانية جيبه الإنفاقي نحو الشيعة المقترعين في بيروت الثانية بقيمة مليوني ليرة لكل مقترع أتم الـ 21 عاماً ويتعهد بانتخابه، إضافة إلى قسيمة شرائية من تعاونية COOP، والمليوني ليرة مع قسيمة الشراء من التعاونية، هي الحد الأدنى الذي يدفعه المرشح نفسه للناخبين من العائلات السنيّة أيضاً.

 في مواجهة كل “سخاء” الرشاوى من اللوائح المتنافسة وخصوصاً لوائح أحزاب السلطة، يبدو أنّ جزءاً كبيراً من المواطنين، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الكارثية وغير المسبوقة، تعامل مع الاستحاق كفرصة لاسترداد بعض المال المنهوب وتحسين أوضاعه وإن ظرفياً. ويختصر أحد الناخبين هذا الأمر بالقول “لمن قبضت 5 ملايين من مرشح المصارف حسيت إني استرجعت حفنة لا تذكر من المال الذي نهبته المصارف ومعها السياسيين، ورح إنتخب ل أنا بدي اياه”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني