عمّال الأفران يعملون “بالسخرة” وأحزاب السلطة تمنع انتفاضتهم


2023-08-28    |   

عمّال الأفران يعملون “بالسخرة” وأحزاب السلطة تمنع انتفاضتهم

12 ساعة يقضيها محمد غساني (61 عامًا) في عمله في أحد الأفران، مقابل 12 دولارًا في اليوم، أي أنّه يحاسب بـ “اليومية” ولا يتقاضى راتبًا شهريًا ثابتًا، وهو محروم من الإجازات، والعطل الأسبوعية والأعياد الرسمية. ولا يتقاضى بدلًا عن أي يوم يضطرّ للتغيّب فيه، أي في حال تعرّضه لوعكة صحية أو اضطر للمشاركة في مناسبة اجتماعية أو عائلية، وحتى إن توقّف الفرن عن العمل لأي سبب من الأسباب قد تخصم يوميته أيضًا.

لم يكن محمد قد أنهى العشرين من عمره عندما امتهن عمالة الأفران. وعليه، على مدى 41 عامًا، يبدأ نهاره عند الثالثة فجرًا وينتهي في ساعات بعد الظهر، ليعود إلى منزله: “بتحمم وباكل لقمتي، بتطمّن على عيلتي وبنام، لإرجع فيق عند الثانية، قبل انبلاج الفجر وأتحضّر لأبدأ يومًا جديدًا في العمل”.

في البداية كُلّف محمد بالعجن، فكان يقضي يومًا طويلًا وقوفًا أمام العجانة، “ما سبّب لي أوجاعًا شديدة في الظهر ومعه عمليّتي ديسك في الفقرات”، وها هو اليوم يعيش على المسكّنات والأدوية وعلاج مستمر كي يتمكّن من الوقوف خلال العمل، ما يرتّب عليه أكلافًا إضافية. يبدأ محمد بِعَدّ مدفوعاته على أصابع يديه، عدد الأدوية وبدل العلاج الفيزيائي، فاتورتي كهرباء الاشتراك و”الدولة” وفاتورتي مياه الشرب والاستعمال، وبدل النقل من السكن إلى الفرن، “فضلًا عن تأمين كلّ متطلّبات عائلتي من طعام وتعليم واستشفاء ومسكن وملبس”، ليخلص إلى النتيجة متنهّدًا بعمق، كمن أدرك للمرة الأولى حقيقة أزمته “الوضع أكثر من صعب، لكن ليس أمامي سوى الشغل”. لكن أسوأ ما في الأمر اضطرار محمد أحيانًا، ومن شدّة الوجع، إلى التنحّي إلى مكان جانبي في الفرن ليأخد إبرة مسكّن لتخفيف الوجع والاستمرار “بمساعدة زميلي”، كما يقول.

41 عامًا قضاها محمد في العمل المضني في الأفران والسهر والتعب كما زملاء آخرين في المهنة نفسها، ليجدوا أنفسهم عند الحد الأقلّ من الأدنى من السلّة الحقوقية لأيّ عامل في لبنان، إذ حتى اليوم ومنذ إقراره عام 1946 لا يطبّق قانون العمل اللبناني عليهم رغم مرور 77 عامًا على ذلك. 

“لا لتظاهرة رغيف أخرى”

وعمال الأفران ممنوعون من النضال والإضراب لارتباط عملهم برغيف الخبز الذي ارتبط تاريخيًا بتحريك الشارع، باعبتاره خطًا أحمر عند الناس، فما زالت السلطة بأركانها كافة وبرغم التبدلات الطفيفة عليها تستذكر بخوف التظاهرة الشهيرة التي دعت إليها نقابة عمال المخابز في 27 آذار عام 1974 وسميت يومها “تظاهرة الرغيف”. “شارك في التظاهرة عشرات الآلاف رفضًا لرفع سعر ربطة الخبز التي كان وزنها كيلوغرامًا، 5 قروش، أي من 40 إلى 45 قرشًا، وعلى إثر أمواج البشر في الشارع ألغي القرار”، يروي النقابي حسين يونس لـ “المفكرة”. يقول يونس إنّ أيًا من الجهات المعنية والأفرقاء السياسيين لم يُنصف عمال الأفران، فـ “حتّى التحرّك والإضراب للضغط باتجاه إقرار حقوقهم الأساسية كعمال، وأهمها تطبيق قانون العمل ممنوعة عليهم، والدولة متقاعسة وأصحاب الأفران محميون، والأحزاب وقوى الأمر الواقع تمنع علينا أي محاولة لتغيير الواقع تحت حجة “ما فينا نسكر الأفران، لأن هذا يسبب أزمة معيشية وسياسية في البلد ربطًا بالحراكات الشعبية ونزول الناس إلى الشارع”. وحين يعدد يونس مطالب عمال الأفران يضحك ساخرًا من كونها بديهيات الكرامة الإنسانية حيث تتلخّص بـ “تطبيق قانون العمل والقوانين المرعية الإجراء، تحديد 8 ساعات عمل يوميًا واحتساب ساعات العمل الإضافية، (كما كل العمال)، الراحة الأسبوعية، (وهي حق لي كبشري) إجازة  سنوية (ضرورية لاستمرار العامل)، أيام الأعياد والعطل الرسمية، وإجازات المرض والوفاة، وبدل نقل ومنح مدرسية”، ويعلق “في شي بديهي بالعالم أكتر من هيك؟”.

ولا ينسى يونس المطالبة بـ “تسجيل جميع عمال المخابز والأفران في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وإلزام أصحاب العمل التصريح عن العمال الأجانب في وزارة العمل واستصدار إجازات عمل لهم، وتسجيلهم في مصلحة القوى العاملة والتصريح عنهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”.   

“اشتغل وما تحتجّ يا حبّوب”

حال عباس مشلب كما محمد، زميله في المهنة والظلم والحقوق المنقوصة. يعمل على قطّاعة العجين في فرن آخر، يروي معاناته لـ “المفكرة” قائلًا: “أنا أب لـ 5 أولاد، لا أحد يعمل غيري. يوميّتي تكاد لا تكفي تسديد فاتورة الكهرباء. نعيش ضائقة مالية صعبة بل يمكن القول إنّ حياتنا عبارة عن مأساة حقيقة. أعمل 12 ساعة وأحيانًا أكثر، لا أقبض بدل نقل ولا ثمن دواء إذا احتجت إليه والضمان الاجتماعي في غيبوبة، ولا تزال تسعيرته على سعر صرف 15000 ليرة والدولار على عتبة المئة ألف ليرة. مع كل ذلك، لا أستطيع الاحتجاج والمطالبة بتحسين وضعي، إذ إنّ صاحب الفرن يستطيع فصلي بشطبة قلم إن أراد ذلك، واستبدالي بعاملين أجنبيين من التابعية السورية أو غيرها، كونهم يرضون بأجر أقل ويعملون بصورة غير نظامية ومن دون إجازة عمل.

عمّال يواجهون لهيب النار ولهيب الغلاء

تختصر شهاداتا محمد وعباس حال معظم العاملين في المخابز والأفران. عمّال “مياومون”، عن غير وجه حق، بساعات عمل طويلة يواجهون لهيب النيران والعمل الشاق وأوضاعًا معيشية صعبة، في ظل حقوق منتقصة من أجور متدنية وزيادة ساعات العمل، فضلًا عن انعدام التقديمات الصحية والاجتماعية وحرمان الكثير من العاملين من ديمومة العمل وانتظامه، وعدم وجود رقابة وتطبيق للقوانين، ما يؤدي إلى تزايد نسبة العاطلين عن العمل، فضلًا عن مزاحمة شديدة لليد العاملة الأجنبية غير النظامية، واستغلال العمال الأجانب من سوريين وغيرهم في ساعات عمل أكثر وأجر أقل، وسكن غير لائق.

رئيس نقابة عمال المخابز والأفران في بيروت وجبل لبنان شحادة المصري يشرح في حديث مع “المفكرة” أنّ معاناة العمال مزمنة تعود إلى 1946 تاريخ صدور قانون العمل اللبناني واستثنائهم منه، مع العلم أنّه في تاريخ 11 كانون الثاني 2023 صدرت مذكرة عن وزير العمل تحمل الرقم 1359/3 تنص على تطبيق قانون العمل على هؤلاء العمال، إلّا أنّ أصحاب الأفران يتهرّبون من تطبيق القانون لأسباب عدّة: منها عدم رغبتهم بتشغيل لبنانيين وعدم التصريح عن الأجور الفعلية للعمال على جداول اشتراكات الضمان الاجتماعي ما ينعكس سلبًا على قيمة تعويضات نهاية الخدمة، وعدم التصريح عن العمال الأجانب لوزارة العمل للتهرب من استصدار إجازات عمل وبطاقات صحية للعمال، وبالتالي عند وضع تسعيرة زيادة على رغيف الخبز، يحتسبون الإقامات وإجازات العمل وبدل السكن للعمال الأجانب، مع العلم أنّه يوجد أكثر من 70% من العمال المكتومين غير المسجلين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. أما العمال المسجّلين في الصندوق، منهم 90% لبنانيين أما الـ 10% الباقون فهم من جنسيات مختلفة معظمهم، بعد السوريين الذين يشكلون أغلبية، من بنغلادش، السودان، مصر، وفلسطين.

في المقابل، يشكتي نقيب أصحاب الأفران والمخابز العربية في بيروت وجبل لبنان ناصر سرور في حديث لـ “المفكرة” الأعباء الكبيرة التي يتحمّلها أصحاب الأفران إن كان من “ناحية تضاعف أجور العمال بسبب الكلفة المعيشية، وزيادة رسوم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على كلّ طنّ طحين، إضافة إلى موضوع عدم استرداد القيمة المضافة على سعر الخبز من وزارة المال”. ويشير إلى أنّ أجرة العامل في بعض الأفران تتراوح بين 300 و500 دولار في الشهر، بينما تحدّدها دراسة كلفة وصناعة الخبز بحوالي 173 دولارًا، وهذا الفرق نتحمّله نحن أصحاب المخابز والأفران، من جيبنا الخاص، لحماية الاستقرار وحتى لا يصار إلى افتعال أي أزمة رغيف”.

وهو ما يردّ عليه النقيب المصري حين يشرح بأنّ أجور عمال المخابز والأفران وفق دراسة كلفة وصناعة ربطة الخبز هي على أساس 25 شوال طحين في 8 ساعات، بينما يعمل عامل الفرن 12 ساعة وينتج ما بين 40 إلى 50 شوالًا طحين، بدون احتساب ساعات العمل الإضافية.

هجرة وتسرّب عمالة

لا أرقام دقيقة عن عدد العمال في الأفران، من لبنانيين أو أجانب، وفق سرور الذي يلفت إلى تسرّب وانخفاض في عدد العمال بعد الأزمة التي تفاقمت منذ 2019 والى اليوم بسبب هجرة البعض للعمل في الخارج، وأيضًا بسبب الأزمة التي يعاني منها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وإقفاله المستمرّ. ويضيف: “لذا طرحنا على المدير العام للأمن العام قانونًا خاصًا لقوننة عمل العمّال الأجانب، فتجاوب معنا وتجاوز الأمر مرحليًا، أي سمح للعمال الأجانب بالعمل على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، في سبيل ألّا تحصل أزمة خبز”. “يعني عم يغضّوا النظر على حساب عمال الأفران وحقوقهم من لبنانيين وأجانب لصالح مصلحة أصحاب العمل”، وفق ما يعلق أحد العمال على هذا الاتفاق.

وعن هذا الأمر، يقول النقيب المصري: “الجميع يدّعي حماية رغيف الخبز وأجور عمال الأفران، مع العلم أنّ العمّال لا يحصلون على حقوقهم، والتعدّي متواصل على ربطة الخبز بالوزن والسعر والجودة والنوعية، وبالتالي لم يعد وزن ربطة الخبز وحق المواطن بالرغيف كحد أدنى محفوظًا. يزايدون على تعب وعرق وحقوق العمال لتغطية رفع سعر ربطة الخبز، وبين الحين والآخر يرتفع سعر ربطة الخبز بحجّة أجور العمال وارتفاع سعر المازوت والصيانة، وأخيرًا رفع اشتراكات الضمان الاجتماعي وهجرة العمال الأجانب ومن بينهم السوريين وعدم استطاعة قطاع الأفران تحمّل المزيد من الأعباء والخسائر”. 

ويؤكد المصري أنّه “لغاية اليوم لم يُطّبق قانون العمل والقوانين المرعية الإجراء على عمال الأفران، وما زالوا يعملون من دون راحة أسبوعية مدفوعة الأجر، فمن يريد أن يرتاح يفعل ذلك على حسابه. أما بالنسبة للصيانة وارتفاع أسعار المازوت وأي مواد تدخل في صناعة الخبز، فيشير إلى أنّ النقابة طالبت “مرارًا وتكرارًا بتشكيل لجنة لدراسة الوضع وتنظيم العلاقة التعاقدية والقانونية بين العمال وأصحاب العمل بشكل شامل”، سائلًا وزير الاقتصاد أمين سلام “لماذا التأخير في تشكيل لجنة لدراسة كلفة وصناعة ربطة الخبز وأنتم من قال رغيف الخبز “حق مقدّس لجميع المواطنين”، واللجنة التي تضمّ الجميع تضمن حقوق المواطنين والعمال وأصحاب العمل”. 

ويحذر المصري من تزايد هجرة العمال اللبنانية والأجانب أيضًا أو مغادرتهم إلى بلادهم، واختيار مهن أخرى في ظلّ واقع عمال الأفران. سائلًا: هل يجوز أن نصل إلى وقت نستورد الخبز من الخارج ونحن عمال المخابز والأفران اللبنانيين مشهورون عالميًا بصناعة الخبز اللبناني ونعتبر ماركة مسجلة عالميًا؟ ونحن من دعا من سنوات عدة إلى تدريب وتأهيل مهني للشباب اللبنانيين الذين يرغبون في العمل بالأفران”.
كما يسأل المصري: “كم فرنًا أقفل في لبنان لعدم وجود عمال أفران؟” مشيرًا إلى أنه حتى في الاجتياحات والحروب وحرب تموز بقي رغيف الخبز مؤمنًا للمواطنين”.

يذكر أنّ عدد الأفران في لبنان، بحسب جداول توزيع حصص الطحين المدعوم، حوالي 180 فرنًا أوتوماتيكيًا وغير أوتوماتيكي، تتوزّع على 70 فرنًا في الشمال، وحوالي 29 فرنًا في البقاع وزحلة و33 فرنًا في صيدا والجنوب، وفق تعداد مسؤولي نقابات هذه المناطق. وتستحوذ خمس شركات أفران على 40 أو 45% من مجمل إنتاج صناعة الخبز، وفق نقابة عمال المخابز والأفران. واستنادًا إلى أرقام وزارة العمل، يبلغ مجموع إجازات العمل الصادرة للعمال السوريين حوالي 300 إجازة عمل عن العام 2017 لغاية 2019. وعليه هناك آلاف العمال في كل المناطق اللبنانية يعملون بدون إجازات عمل وإقامات وبطاقات صحية وخارج قانون العمل.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، حركات اجتماعية ، الحق في الصحة ، فئات مهمشة ، لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، حقوق العمال والنقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني