على هامش الحجر المنزلي: مبادرات إفتراضية تعيد النظر بالمفهوم الثقافي للمجال العام


2020-04-01    |   

على هامش الحجر المنزلي: مبادرات إفتراضية تعيد النظر بالمفهوم الثقافي للمجال العام

خلال الأسبوعين الماضيين وعلى ضوء الحجر المنزلي الذي فرضه انتشار فيروس كورونا، ولدت مبادرات عدّة في لبنان لمساعدة الناس على تمضية اوقاتهم بطرق مفيدة. بعض هذه المبادرات أتى على شكل منصّات تتيح زيارة أمكنة معيّنة والتجوّل فيها بشكل افتراضي، وجزء آخر أتاح مواد بصرية وأرشيفية لم يكن من السّهل الوصول إليها قبل أسابيع قليلة.

الإيجابي في هذه المبادرات أنها حفّزت على تحويل الإنترنت إلى فضاء تشاركي يتجاوز احتكار المعلومات بين الدوائر المغلقة، ما يعطي فرصة لدخول عناصر جديدة إلى حيّز الفعل الثقافي.

من هذه المبادرات إثنتان لـ "بيروت دي سي" و"قبّوط بروداكشن" تهدفان لإتاحة أفلام وثائقية وروائية (فيكشن) لا تصل بالعادة سوى لفئات إجتماعية محدّدة مثل جمهور المهرجانات السينمائية والأوساط العاملة في الفن.  خصّصت المبادرة الأولى موقعاً خاصاً تحت عنوان "أفلامنا" يقدّم كل 15 يوماً مجموعة أعمال لمخرجين معروفين في لبنان والعالم العربي، تتناول مواضيع ذات أبعاد اجتماعية وإنسانية وذاتية. أما المبادرة الثانية (قبّوط) فنشرت روابط أفلام على صفحتها الفيسبوكية من أجل مشاهدتها مجاناً على موقع "فيميو" vimeo، على أن ينشر فيلم واحد من إنتاج المؤسسة كل ثلاثة أيام.

عرفت "بيروت دي سي" من خلال توزيعها الأفلام اللبنانية في البلدان العربية وهي من مؤسّسي مهرجان "أيام بيروت السينمائية" الذي يشكّل صلة وصل بين لبنان، مصر وشمال افريقيا. تمتلك الشركة أرشيفاً كبيراً ولهجة أكثر أصالة من ناحية المواضيع والبيئات الإجتماعية التي تعالجها من "قبّوط" التي تعطي حيّزاً أكبر لوجهات النظر العالمية والعابرة للحدود، ما يفسّر التوجّه إلى الأسواق الأوروبية (ساهمت بإيصال أفلام لبنانية إلى مهرجان "كان" السينمائي).

من أبرز الأفلام التي عرضت مجاناً فيلم "إلى أين؟" (1957)  لجورج نصر وهو أول فيلم لبناني يشارك في مهرجان أوروبي وأحد الأعمال الأولى التي تعالج موضوع الهجرة (قبّوط)، و"بانوبتيك" لرنا عيد الذي يتمحور حول سجن الأمن العام في العدلية ويعطي صورة ذات حساسية عالية عن طريقة عمل السلطة في لبنان (قبّوط)، "ثمانية وعشرون ليلاً وبيت من الشعر" لأكرم الزعتري الذي يتّخذ من أرشيف المصوّر الصيداوي هاشم المدني نقطة انطلاق لفهم مدينة صيدا والممارسات الفوتوغرافية والتكنولوجية التي كانت ولا تزال شائعة فيها (لا يزال يعرض في منصة "أفلامنا"). من الأفلام الأخرى التي يمكن مشاهدتها على منصة أفلامنها: "شهيد" لمازن خالد، "سمعان بالضيعة" لسيمون الهبر، "وجه أ وجه ب" للفنان الأدائي ربيع مروة.

تجدر الإشارة إلى أنّ مؤسسة "أشكال ألوان" أتاحت أيضاً مجموعة من الأفلام على موقع تحت عنوان "عشرة" (يضم عشرة أفلام تتنوّع بين الفيديو والوثائقي وعروض الأداء، يتمّ تغييرها كل ثلاثة أشهر) يأتي ضمن مشروع أكبر يضم أرشيف 25 عاماً من الوثائق والمنشورات والمواد البصرية التي توثّق أعمال أجيال من الفنانين اللبنانيين.

جولة إفتراضية
من المبادرات الأخرى التي شهدنا انطلاقها خلال الأسابيع الماضية منصّة افتراضية تأخذنا في جولة داخل المعرض الضخم "بعلبك أرشيف الخلود" الذي ينظّمه متحف سرسق منذ أشهر. تعطي الجولة فرصة لأي شخص يمتلك كومبيوتر، أو هاتف، أو أداة VR (واقع إفتراضي) للتحرّك افتراضياً في المتحف كأنّه موجود بالفعل هناك، ما يسمح برؤية مجموعة متنوّعة من الأعمال، والوثائق، والأفلام التي تتمحور حول "بعلبك القلعة، بعلبك المدينة وبعلبك المهرجان".

يعتبر متحف سرسق من المؤسسات الفنية الأكبر في لبنان لناحية المجموعات التي يمتلكها ودوره في صناعة الثقافة الفنية الحديثة والمعاصرة. وفق مديرة المتحف زينة عريضة تأتي هذه الجولة ضمن رؤية أكبر لزيادة انخراط المتحف في كتابة تاريخ لبنان الحديث، وتفكيك الرموز والشعارات التي قام البلد عليها منذ مراحل تأسيسه الأولى خلال الحقبة العثمانية.

وتقول في حديث مع "المفكرة القانونية": "لم يكن المتحف قادراً على إنهاء المشروع بهذه السرعة لو لم يسبق أن عمل عليه خلال الصيف الماضي بالتعاون مع شركة متخصّصة، وفقط اكتفى الآن بالتسريع بإطلاقه بعد التطوّرات التي شهدها لبنان".

يُقسم المعرض إلى قاعات مختلفة، كلّ واحدة منها تحوي جزءاً من تاريخ المدينة ونمطاً من الأعمال الفنية (فيديو، صور، لوحات، وثائق …). تتعدد تمثيلات المدينة مع تعدّد المراحل التاريخية التي مرّت بها علاقة الأوروبيين مع الآثار في المنطقة. يبدأ المعرض من القرن السابع عشر الذي سار خلاله المسافرون الأوروبيون "على خطى الصليبيين في القرون الوسطى لتتبّع خطى الأنبياء وإعادة اكتشاف الأراضي القديمة والتوراتية"، ثم مع تطوّر نظرة اوروبا إلى التاريخ "زاد التوجّه إلى تصنيف وترتيب التراث، وأعيد اكتشاف آثار المشرق بطريقة جديدة، ضمن دافع أكبر لمعرفة جذور أوروبا ما قبل الكلاسيكية وضمن نظرة رومانسية للشرق بشكل عام" وفق النصر التعريفي للمعرض.

من ناحية أخرى، أخفت هذه الرغبة في توثيق ورسم الآثار التي نرى نماذج منها في المعرض، تطلّعات سياسية وإمبريالية، خاصة بعد تزايد طموحات نابليون التوسّعية وإصابة السلطنة العثمانية بالضعف: "حتى أنّ القيصر الألماني فيلهلم الثاني أراد ربط نفسه بالهالة التي تحملها قلعة بعلبك وأراد استعمالها كبوابة للنفوذ الألماني في الشرق بدون أن يلغي هذا الرغبة الألمانية بزيادة حصّتها من الثروات الثقافية والمادية التي امتلأت بها متاحف الإنكليز والفرنسيين".

تؤكّد عريضة أنه وبالرغم من أنّ الزيارة الإفتراضية لا تعوّض عن المشاهدة المباشرة، إلّا أنّها تسمح بأخذ فكرة مهمّة عن المعلومات الموجودة في المعرض وتُعطي الوقت الكافي للباحثين من أجل التمعّن بالمشاريع الموجودة. وتضيف: "لا يمكن تطبيق هذه التقنية دائماً فهناك أنواع معارض أصغر حجماً ولا تكون مناسبة للعرض الإفتراضي، بعكس معارض أخرى تسمح بذلك. بفضل تجارب شبيهة استطعت زيارة عدد كبير من المتاحف التي لم أكن قد دخلتها سابقاً وأخذت فكرة وافية عن تقسيماتها وطرق العرض فيها".

مبادرات موسيقية وإعلامية
مع توقّف الموسيقيين عن تقديم الحفلات في الأمكنة الثقافية أو الترفيهية بسبب الإغلاق التام، بدأ البعض باللجوء إلى المنصّات الإفتراضية التي تسمح بتواصل من نوع مختلف مع الجمهور. لا نتحدث هنا فقط عن المواقع التي تسمح بتحميل وسماع الموسيقى مثل Soundcloud، Spotifiy، Bandicamp، وغيرها، بل أيضاً عن المنصّات التي تقدّم خدمات البث الشبيهة بالراديو التي تتيح لأي شخص تأسيس قناة خاصّة به وبالمجموعة التي ينتمي إليها.

توسّعت هذه المبادرات خلال السنوات الماضية، خاصة بعد إعادة ترويج الـ"بودكاست" كنمط فنّي يمكن استخدامه لإنتاج المواد الفنية، الأدبية والإعلامية، وبدأت بعض المؤسسات بدعم إنتاجه وتوزيعه.

يمكن اعتبار الظروف الحالية مثالية لانتشار هذا النمط، ما يصبّ في مصلحة العاملين في المجال الموسيقي والفني الذين تعرّضوا إلى خسائر كبيرة خلال الفترة الماضية، ويرغبون في إيجاد فرص جديدة للترويج لأعمالهم وللتواصل مع آخرين يعانون من الظروف نفسها في لبنان أو في الخارج.

من المبادرات البارزة "راديو الحي" الذي بدأ كمنصّة على هامش فضاء "مانشن" التراثي والتشاركي الذي يضمّ فنانين وعاملين في المسرح (هو جزء من عائلة تضم منصّات في فلسطين، تونس، وألمانيا) والعمارة والتنظيم الحضري. المميز في هذه المبادرة أنّ أيّ شخص يمكن أن يحجز ساعة من البث عليها، فقط بعد ملء استمارة صغيرة، على أن يضع في الوقت المسموح له أيّ مادة صوتية: موسيقى، حوار، مونولوغ، قراءات أدبية أو شعرية.

يستعمل المنصّة عدد من منسقي الأسطوانات (Djs) الذين كانوا ناشطين في الأندية الليلية الموجودة في لبنان. طبعاً، تجربة النادي الليلي شديدة الإختلاف عن الراديو الذي لا يسمح بتواصل مباشر مع الجمهور، ولا يعرف الفنان عبره إن كان ما يقدّمه يلاقي استحسان المستمعين أم لا (سوى عبر رسائل صغيرة تظهر على جانب المنصّة).

لكن مع ذلك حاول الفنانون تطويع المادة الفنية التي يقدّمونها لتلائم الوسيط الجديد. ما ينطبق على نصري الصايغ الذي أسّس منصّة تحت عنوان "راديو كرنتينا" على تطبيقي "ساوندكلاود" و"إنستاغرام". لم يلجأ الصايغ إلى القالب الذي استعمله "راديو الحي" واكتفى بتحميل المواد التي يرسلها الآخرون له بشكل مباشر على "ساوندكلاود"، وفي أغلب الأحيان تكون متألّفة من أغاني ومقطوعات موسيقية من اختيار الفنانين المشاركين. من الأشخاص الذين استضافتهم المنصّة: حاتم إمام، غسان سلهب، ريا بدران، زهور محمود، جيسيكا خزريق، ربيع كيروز … مع العلم أنّ إحدى الحلقات خصصت لمقابلة غير منشورة مع ياسمين حمدان، وأخرى لقراءات للفنانة المسرحية كريستل خضر، وفي المستقبل هناك حلقات مخصّصة لرسائل يكتبها أشخاص من البلدان التي يعيشون فيها.

يقول الصايغ إنّ هذه التجربة تساعد الفنانين على إيجاد موقعهم داخل العالم المتغيّر الذي وجدوا أنفسهم فيه منذ انتشار فيروس كورونا، وهناك كثيرين قدّموا أعمالاً مختلفة عن التي يقدّمونها عادة: "تسمح العزلة للفرد بأن يغوص أكثر في نفسه وبأن يتعامل مع الوقت بطريق مختلفة ما يؤثر على المنتج النهائي الذي يمكن أن يكون مفاجئاً أحيانا" وفق الصايغ.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني