عكار حاضنة الجيش تفقد أمنها


2022-12-05    |   

عكار حاضنة الجيش تفقد أمنها

“إذا بتلاقي سيدة مسنة واقعة ع الطريق البحرية ما توقفي تشوفي شو بها، بيكون كمين حتى يشلحوك ويسرقوك”. بهذه الكلمات ودّعني مختار إحدى بلدات عكار قبلما يسترسل في الحديث عن جرائم التشليح والخوّات والسرقات التي تشهدها الطريق الحدودية البحرية خصوصاً خلال الليل.

هذا غيض من فيض التحذيرات التي سمعتُها خلال عملي الميداني في عكار والتي كنت أشعر فيها بأمان عارم خلال مجمل زياراتي السابقة. كان يكفيني أن أتذكر النكتة التي قالها لنا أستاذ الجغرافيا في المدرسة عندما سألنا بعدما أشار إلى خريطة لبنان “وين عكار؟” ليجيب ضاحكاً: “بالجيش”. كان قلبي خلال تجوالي المتكرر يرتاح لمشهد البدلات العسكرية التي تزيّن حبال غسيل منازل بلداتها ومدنها، وكان وجود عسكري في كل بيت عكاري، أو 3 إلى 4 عسكريين في كل عائلة، كما يقول أهلها، (كون عكار تسجّل معدلات الخصوبة الأعلى في لبنان)، بمثابة صمّام أمان يوحي لي أنّني في حضرة أبناء الدولة، بما يعنيه ذلك من التزام بالقانون والانتظام العام ومعهما الأمن. 

تشليح وخوّات

يقول المحامي وسام خالد إنّ الوضع الأمني في عكار كان قبل 2019 “شيئاً”، برغم مشاكله يومها أحياناً، و”صار شيئا آخر، حيث وصلنا إلى الحضيض اليوم”. يقول خالد هذا قبل أن يخبرني عن كمين تعرّض له من قبل خصم وكيله في إحدى الدعاوى انتهى بضربه بشكل مبرح وسرقة مبلغ مالي وملفاته القضائية. “كنت أعرفهم واحداً واحداً لكن لم يحصل التوقيف إلّا بعد أن ضغطت نقابة المحامين على قيادة الجيش”. كان أحد الضباط يقول لخالد “بدّك تطلّعهم من منطقتهم، وإلّا ما فينا نقبض عليهم”.

ويترجم الفلتان الأمني بشكل خاص في جرائم التشليح المنظّم “وخصوصاً تلك التي تستهدف اللاجئين الذين هم الأضعف” كما يؤكد المحامي خالد، ويثني عليه أحد فعاليات ببنين: “مثلاً عم يشلحوا السوريين مصاري وموتوسيكلات، والسوري لا يشتكي لأنه مخالف إما بأوراقه لناحية الإقامة أو بأوراق الموتوسيكل”، كما بالتقاتل بين الأفراد والعائلات وازدياد جرائم الأخذ بالثأر، والسرقات وإطلاق النار بشكل يومي في الأفراح والأتراح، وفرض الخوات على مؤسسات ومقاه ومطاعم وأفران، وحتى على باعة متجولين بمصبات القهوة وعلى أصحاب الأكشاك”.

وفي ببنين، يتردّد اسم عصابة “الأكّي” (لقب رئيسها). وفق الشهود الذين أمكن الاستماع إليهم، كان “الأكّي” يتصل بالمطاعم ويطلب وجبات لكل مجموعته وله ولضيوفه وما بيدفع ولا قرش. وكان ينظّم أيضاً عمليات سطو على الموتوسيكلات، يستهدف فيها اللاجئين السوريين بالدرجة الأولى “كانت عصابته تطلع بفان، وكلما لاقوا سوري ع موتوسيكل ينزلو يضربوه ويقشطوه الموتوسيكل ويحطوه بالفان ويروحوا، يرجعوا من كل رحلة سلب بشي 20 موتوسيكل ع القليلة”. كان “الأكّي وعصابته أيضاً، يفرضون خوّات على المحلات المنتشرة على الساحل من العبدة إلى برقايل وكذلك على أشخاص من ببنين”.

لا يوافق شاب من ببنين على فكرة انتهاء الخوّات مع توقيف “الأكي”. ويقول لـ “المفكرة” إنّه تعرّض للخوّة حتى بعد القبض عليه (على”الأكّي”)، ليضيف “صحيح إنّ الأكّي كان مصيّت بس ما حدا مقصّر، والخوات بعدها ماشية”. وعموماً، تتصدّر ببنين ومعها القرقف ووادي الجاموس الملاصقتين لها، الأولى من الشرق والثانية من الشمال، الحديث عن الفلتان الأمني في المنطقة تشليح وسرقات وخوّات ومخدرات وتقاتل عائلي مستعرّ، وإطلاق نار حتى لأتفه الأسباب. على سبيل المثال، اندلع إشكال بين عائلتين (طرطوسي والسيّد) في وادي الجاموس في منتصف العام 2022 على خلفية مرور سيارتين وتطوّر ليذهب ضحيّته خلال ساعات قليلة وفي اشتباك متواصل ستة أفراد من عائلة واحدة (طرطوسي). أعقبه حرق منازل لأشخاص اتّهموا بالتورّط في الجرائم من آل السيّد وترحيلهم عن البلدة. يومها، وخلال الاشتباكات، وكما أكّد لـ “المفكرة” أحد فعاليات وادي الجاموس، تمّ الاتّصال بالقوى الأمنية التي لم تحضر إلّا بعد انتهاء الاشتباكات.

وليس بعيداً عن ببنين، يتحدّث مصدر أمني عن ما يحصل على الطريق البحرية نحو الحدود السورية عند منطقة العريضة “الناس ما بقى تهاب شي، صار بدها القرش بأي طريقة”. وعليه، يقف شبان من أبناء البلدة على الحدود من الناحية اللبنانية ويقولون لسائق التاكسي “أنت واقف بأرضنا وضيعتنا وبياخدوا من كل سيارة من 10 إلى 20 دولار”. أما الأخطر فيحدث من الساعة 10 ليلاً ولغاية الثالثة صباحاً. يقف شبان في المنطقة الواقعة بين مطار القليعات وقبّة شمرا على امتداد 5 كيلومترات و”يقومون بالسطو وتشليح بعض السيارات العابرة”، وفق المعلومات الواردة في التقارير الأمنية. “الغريب أنّ هذه المنطقة تعجّ بالعديد من القوى الأمنية: هل يعجز كل هؤلاء عن ضبط الأمن في هذه المساحة ووقف الخطر؟” يسأل ليجيب نفسه: “هناك قرار بعدم الاصطدام مع الناس”.

فضلاً عن ذلك، يلفتك انتشار ظاهرة “مجموعات الحراسة” التي يشير عديدون لـ “المفكرة” إلى أنّها تؤدّي عملياً إلى فرض خوّة أو ما يشبه الخوّة، وبخاصة في المناطق التي تنتشر فيها المؤسسات التجارية، لا سيّما في حلبا وعلى الطريق الممتدة من العبدة إلى حلبا. وإذ أكّد عدد من أصحاب المؤسسات في حلبا لـ “المفكرة” أنهم يسدّدون مبالغ شهرية لهذه المجموعات بدل “حراسة”، شكّك أحد المحامين في غايات هذه المجموعات التي تعمل من تلقاء نفسها من دون أي تنظيم متفق عليه: “هناك شعرة ناعمة بين الحراسة والخوّة، يعني بيخاف الناس إذا ما دفعوا يتعرّضوا للسرقة أو التخريب ربما من الأشخاص أنفسهم”. وهذا ما أكده صاحب إحدى المؤسسات على الطريق العام بين العبدة وحلبا: “يأتي إلينا شبان ويدعون أنهم يحمون مؤسساتنا ليلاً من السرقات ونحن ندفع خوفاً”.

الجرائم المنظّمة: شبكات لسرقة السيارات عبر المحافظات ومعامل الكبتاغون 

الجدل حول الطابع الفردي أو المنظم يسقط تماماً أمام كمّ آخر من الجرائم التي تطال المنطقة.

من أهم هذه الجرائم المنظمة، سرقة السيارات. في هذا الإطار، أشار لنا أكثر من مصدر أمني إلى أنّ العصابات الناشطة في هذا المجال تضمّ أشخاصاً من عكار ومن مناطق أخرى في البقاع حيث يتمّ تدريب أفرادها على كيفية فتح السيارات. ويتنظّم عمل العصابة وفق المسار التالي: “هناك رؤساء عصابة في قبعيت وعين الدهب (دنبو سابقاً) وفنيدق. تتمّ سرقة السيارات من مختلف مناطق عكار، ثم يؤتى بها إلى برقايل، ومنها إلى الجرد (مرتفعات فنيدق) فالحدود اللبنانية السورية من خلال الهرمل. وتمرّ العملية عبر 3 مراحل: من يسرق السيارة ليس هو من يقودها، هناك من يستلمها من منفّذ السرقة ويأتي بها إلى برقايل، ثم يقودها ثالث إلى الجرد العكاري، ورابع يأخذها من الجرد إلى الحدود السورية في الهرمل، ثم يدخل بها خامس إلى سوريا. ويؤكد رئيس البلدية أنّ “هؤلاء كلّهم عليهم مذكرات توقيف، وما حدا بيقبض عليهم وبيطلعوا وبيجوا وما حدا بيحكي معهم”.

العصابات تنشط أيضاً في مجال المخدرات الذي استعر وفق شهادات عدة بشكل غير مسبوق في عكار، تعاطياً وترويجاً وإتجاراً، حتى في بعض قرى المحافظة وفق ما نقله إلينا أحد رجال الدين. وتكثر الأحاديث هنا عن وجود أماكن معتمدة للترويج والتعاطي بل عن تعدي مروجي المخدرات على بلديات والمنشآت العامة فيها مثل حرق محول كهربائي. لكن أخطر ما تسمعه من أكثر من مخبر أمني هو وجود معامل لتصنيع الكبتاغون (6 أو 7) في 3 بلدات حدودية (تم تحديد أسماء البلدات لـ “المفكرة” من قبل مخبرين أمنيين من دون أن يتسنّى لنا التحقق من صحة المعلومات). ويشير المصدر الأمني إلى أنّ “هؤلاء محميون كونهم إما تابعين لفاعليات ومسؤولين نافذين أو محسوبين عليهم ومحميين منهم”.

ثمة عصابات أخرى تنشط في سرقة أشرطة الكهرباء وكابلات التلفون فضلاً عن وضع اليد على المشاعات والأراضي الأميرية. هذا إلى جانب شبكات تهريب المهاجرين غير النظاميين والتهريب عبر الحدود السورية والتي نشطت بشكل خاص بعد الأزمة.

العصابات تكبر بفعل الأزمة و… تدفّق السلاح

طبعاً، كلما سألت أحداً في عكار عن سبب اختلال الأمن، تسمع مطوّلات حول حرمانها المُزمن والذي زاد بنتيجة فقدان رواتب عناصر الجيش قيمتها تبعاً لانهيار العملة الوطنية. وما يؤكد ذلك هو تزايد الجريمة بشكل خاصّ في المناطق “غير المرتاحة” التي تقلّ فيها نسبة التعليم وتزدحم بالعاطلين عن العمل. لم نتمكن من الحصول على إحصاءات واضحة بشأن الملاحقات الحاصلة في هذه المناطق، لكن يوضح مسؤول أمني لـ “المفكرة” أنّ جرائم المخدرات والإتجار بالأشخاص والتهريب لوحدها تستقطب أعداداً كبيرة من الشبان، وهي جرائم تدرّ مداخيل هامة نسبياً، وتُشعر الشخص بالقوّة والسطوة وأحياناً بفائض القوّة، خصوصاً عندما يتمكّن من الإفلات من العقاب، وهذا ينسحب على أدنى شخص في سلّم المسؤوليات وهو ما ينتج شريحة ممن كانوا عاطلين عن العمل وصاروا يعتبرون أنفسهم أفراداً في عصابات مما يؤثّر على مجمل سلوكياتهم تجاه ما يخالف القانون وحتى في علاقاتهم مع الناس”. ومن الملفت أنّ أحد المخاتير شدد لـ “المفكرة” على نشوء شريحة جديدة في عكار، تضم آلاف الأشخاص الذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف (وهو عدد أكده مسؤولون أمنيون ودينيّون من دار الإفتاء من دون أن نتمكن من الحصول على تأكيد رسمي له). وعدا عن أنّ هذا العامل يقوّي تشكّل العصابات، فإنّه يُذكّر بظاهرة الطفّار المنتشرة في بعلبك – الهرمل، كلّ ذلك في محافظة عرفت بعلاقتها الجيّدة مع الدولة بفعل انخراط آلاف من أبنائها في الجيش. 

إلى هذه المعطيات المقلقة، يعبّر مصدر أمني رفيع لـ “المفكرة” عن تخوّفه من انفلات الوضع الأمني: “نخاف من تجارة السلاح ونشاطها غير الطبيعي، هناك مخازن أسلحة من رشاشات ماغ و12 v ودوشكا”. طبعاً “الطلب على السلاح موجود، بس التجار الكبيرة هي التي تحكي بالأرقام الكبيرة، وعندما نتحدث عن كبار التجار فإنّنا نتحدث عن نوّاب وشخصيات رسمية”. 

الجرائم تبحث عمّن يكافحها

ثمة أمر آخر يشجع هذه الجرائم وهو عجز القوى العسكرية والأمنية بدرجة كبيرة عن مواجهة الجرائم، وهي إذا فعلت ذلك فهي تفعله بصورة انتقائية وبضغط استثنائي.

بعض الإشكالات التي تمنع القوى الأمنية من ممارسة دورها تتمثل وفق المحامي وسام خالد، بالوضع المادي المنهك للقوى الأمنية نفسها: “أغلب مخافر قوى الأمن في عكار لا تملك آليات صالحة للسير بسبب الأعطال وتكلفة الصيانة غير المتوفرة، بعض المخافر تطلب أوراقاً وأقلاماً، لا مواد تنظيف ولا أوراق في المراحيض ولا مياه حتى في كثير من الأحيان. إذا طلبنا دركي لينجز محضر مع مدعي أو مدعى عليه في المستشفى، يسألنا إذا كنّا سنؤمّن له سيارة وإلّا لن يكون قادراً على الحضور”. يؤكد هذا الكلام عنصرٌ يعمل في أحد مخافر عكار، ليردف: “هلأ في سرقات زيتون، إنا بيتصلوا فيي ع المخفر، إذا بدي روح أقبض على الحرامي ببستان الزيتون وأركض وراه، ممكن أضرب راسي بزيتونة أو أوقع واتعرّض لإصابة تستدعي ذهابي إلى المستشفى. مين بدّه يحكّمني ويدفع عليي وطبابتي العسكرية متوقفة أو غير فعالة؟”، ليؤكد “طبعاً مش عم روح، الله لا يردّ الزيتون”. و”قيسي على ذلك”، يضيف “يعني كتير مهمات عم نتعامل معها بهذه الروحية”.

لكن أخطر من قلة الموارد، هو الفساد الذي يتزايد لدى الأجهزة الأمنية بنتيجة تعاظم الأزمة. “هناك أيضاً رشاوى تُدفع لعناصر الأجهزة الأمنية نتيجة تدهور قيمة رواتبهم والأوضاع الاقتصادية، كما أنّ العنصر الأمني الصغير يرى رئيسه عم ياكل ومش عم يطعميه فصار بده ياكل هو كمان وصار يشوف هالشي طبيعي”. هذا الكلام صدر عن مصدر أمني، قبل أن يذكّرنا بأنه تمّ مؤخراً توقيف عدد من الضباط من أكثر من جهاز أمني على خلفية قوارب الإتجار بالبشر على خلفية تورّطهم في قبض رشاوى لغضّ الطرف عن هذه القوارب.

مسؤول أمني سابق آخر يشير إلى تدخّل النيابات العامّة لوقف الملاحقة: “يقبض أحد الأجهزة على مهرّب أو تاجر بالأشخاص أو رئيس عصابة خوّات أو غيره، فتبدأ الوساطات والتدخلات من مسؤولين كبار في القضاء فتصدر إشارة بإخلاء سبيل الموقوف”. ثم يشدّد المسؤول السابق: “هذا يحصل على جميع المستويات: إطلاق نار في الهواء أو على منزل أو على شخص، سرقات، خوّات، قتل وجريمة منظّمة أو التعدّي على مشاعات الدولة والمرتكبون يجدون من يتدخّل للإفراج عنهم. النائب بدل ما يشرّع قوانين ويراقب الحكومة ليثبّت فعاليته، بيستبدل هذه الواجبات بالتدخل لحماية أهل منطقته المخالفين من المحاسبة، يعني كلّه مش لازم يتحاسب”. ويعطي الرجل دليلاً على دور الشخصيات السياسية وتأثيرها على الأمن: “الانتخابات لم تشهد ضربة كفّ لأنّ مصلحتهم جميعهم كانت تتطلّب ذلك، يعني لمّن بدهم يفرضوا الأمن بيفرضوه”.

والواقع أنّه بقدر ما تقوى العصابات المنظّمة وشبكات العلاقة بينها وبين القوى السياسية النافذة، بقدر ما تضعف قدرة الأجهزة الأمنية على مكافحة الجرائم المرتكبة منها. وقد تمّ توثيق عدد من الحالات المتكرّرة في هذا المجال، والتي يُستشفّ منها تجنّب الأجهزة الأمنية الاصطدام بهذه العصابات. وهذا الأمر يتحقّق بشكل خاص في المناطق الحدودية، حيث يتمتّع المهرّبون بسطوة كبيرة: “خلال أزمة طوابير البنزين، كانت سيارات التهريب تأتي ليلاً وتملأ خزّاناتها من محطات الوقود، تصل الشكوى إلى أمن الدولة فيأتي الرد: نحن ما منطلع بالليل”. الأمر نفسه ينطبق بخصوص الاعتداء على الأملاك العامة وفق ما رواه لنا أحد عناصر الدرك: “جاءتنا معلومات تفيد بأن هناك أشخاصاً وضعوا يدهم على أملاك للدولة بين منطقتي القرقف ووادي الجاموس. قصدنا المنطقة لقمع المخالفة فهجموا علينا وأطلقوا النيران في اتجاهنا ومنعونا أن ننفذ مهمتنا …كلّه ما إله نتيجة ما فينا نعمل شي”.

من جهته، ينقل رئيس بلدية ببنين كفاح كسّار أنّ أحد الضباط كان يقول لمن يطالبه بإرسال عناصر: “خدو المشايخ والمخاتير، أنا ما عندي عديد”، بما يعبر تماماً عن وضع الأجهزة الأمنية وتجنّبها القيام بمكافحة الجريمة.

الأمن البديل

تبعاً لتزايد الخلل الأمني وتراجع قدرة الأجهزة الأمنية عن معالجته، تبرز مؤشرات على اتجاه نحو تحقيق الأمن الذاتي أو البديل. “صار المواطن، في كل لبنان، وليس في عكار فقط، يسعى لحماية نفسه، وطبعاً اقتناء السلاح الذي كان شائعاً ولكنه ارتفع بوتيرة كبيرة وفق ما تُبيّن حركة الإتجار بالسلاح”، يقول مسؤول أمني بارز لـ “المفكرة”. لكن سرعان ما يشير المسؤول الأمني إلى ظاهرة أخرى قد يكون لها تأثيرات بنيوية في المنطقة وهو تنامي دور التكتلات العائلية في تأمين الحماية المفقودة. “إذا افترضنا أنّ الدولة + العائلات = واحد. إذا كانت الدولة 0.8، بتكون العائلات 0.2، وإذا صارت الدولة 0.3 بتصير العائلات 0.7 وهو ما يحصل حالياً. يعني العائلات هي التي تلعب الدور الأكبر على الأرض وهو ما يعزّز الثأر والتكتلات العائلية، وعاد الناس ليعتبروا أنّ العائلة الموحّدة والمتماسكة هي التي تحميهم”.

وقد ترافق هذا التطور، وفق المسؤول مع انتشار واسع لما يسمّى “لجان الصلح” وتزايد دورها، غالباً بتشجيع من النوّاب والضباط الأمنيين. في هذا الإطار، أمكن رصد عمل إحدى لجان الصلح تبعاً لإشكال على مشاعات الدولة أعقبه تبادل إطلاق النار بين عائلتين وقتل امرأة من عائلة ثالثة عن طريق الخطأ. وقد انتهى عمل لجنة الصلح إلى إبرام الاتفاق التالي: “قسمة لمشاعات الدولة بين العائلتين المتقاتلتين، تعويض عن حرق الأشجار المثمرة وتبرئة المتقاتلين من دمّ السيدة التي قتلت”. وينقل أحد المحامين أنّ “تسوية الصلح اقترحت بالتأكيد بتنسيق مع الأجهزة الأمنية التي آثرت تجنّب مزيد من الدم على القبض على كل المتورطين من الطرفين ومحاكمتهم وحماية مشاعات الدولة”. كما تمّ رصد عمل لجان الصلح في حلّ إشكالات متنوّعة لا تقلّ خطورة، تبعاً لقيام شخص بقتل ابنته للقاء خطيبها من دون موافقته[1].

من جهته، يكشف رئيس بلدية ببنين كسّار لـ “المفكرة” أنّه يدعم مبادرات شبابية لوضع حدّ للخلافات والحوادث الثأرية بين عائلات ببنين وأنه يعمد من أجل ذلك إلى إشراك عدد من المرجعيات الدينية (المفتي عبد اللطيف دريان) والأمنية (الأمن العام ومخابرات الجيش) إنجاحاً لهذه المبادرات وأنّه عمد لهذه الغاية إلى إيداعها ملفاً كاملاً عن “الإشكاليات العائلية”. يفهم من ذلك تنوّع الوسائل المستخدمة لحل الإشكالات الأمنية في ظل تعطيل الطرق الرسمية، وإن كان من المبكر معرفة مدى فعاليتها. 

لقراءة المقال باللغة الانكليزيّة، إضغط هنا


[1] تدخلت لجان الصلح وحكمت بأن يدفع خطيبها ديّتها بعد تحميله مسؤولية مقتلها لأن والدها كان قد رفض أن يلتقيها قبل سفره (سفر خطيبها). طفر (فرّ) الأب من وجه العدالة واحتمى لدى إحدى عشائر البقاع. وفي أحد الأيام تسلّل إلى عكار وقام بقتل خطيب ابنته الذي كان قد دفع 25 مليون ليرة ديّة مقتلها، وكانت في حينه 4 آلاف دولار. لم يستطع والد خطيب الشاب المقتول، وهو من عائلة صوفان، تحمل انتقادات عائلته المتكررة فقام بقتل إبن شقيق قاتل ابنه، وهرب بدوره إلى الجنوب كونه متزوجاً من سيدة جنوبية. بعد أشهر من الحادثة توفي رجل مسن من آل برغل. لم يقبل آل صوفان أن يُدفن في مقبرة ببنين، وكادت أن تقع مجزرة بين العائلتين. ترك آل برغل جثمان فقيدهم على الأرض وغادروا إلى منازلهم ليعودوا حاملين السلاح، واندلع اشتباك بالرصاص بين العائلتين، مما أدى إلى إصابة ابن شقيقة الفقيد واثنين من آل خلف وطالب. انتهى تبادل إطلاق النار بعد أكثر من ساعة بعدما تدخلت كل عائلات ببنين، ليتوصل أهل الصلح إلى عدم اعتراض آل صوفان على دفن فقيد آل برغل، وبعد عقد الاتفاق وانتهاء كل شيء وصلت القوى الأمنية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني