“طلاق.كوم”.. تتقدّم التكنولوجيا حينما تتخلّف العدالة


2022-11-07    |   

“طلاق.كوم”.. تتقدّم التكنولوجيا حينما تتخلّف العدالة
اعلان ترويجي للموقع الالكتروني "طلاق.كوم"

بين مخاوف تشجيع الطلاق من جهة ودعم تيسير إجراءاته من جهة أخرى، اختلفت ردود الأفعال في مواقع التواصل الاجتماعي بعد إنشاء مهندس مبادر في مجال الشركات الناشئة (startup) لموقع إلكتروني بعنوان “طلاق.كوم”. بيد أن التفاعل الأشد جاء من الهيئة الوطنية للمحامين التي اعتبرت الموقع “ممارسة خطيرة مخالفة للقانون” وهددت باللجوء للقضاء. لاحقًا سُرعان ما أعلن صاحب المشروع المهندس عزام سوالمية تعليق الموقع الذي باتت ترد في واجهته الجملة التالية “هذا الموقع مغلق بطلب من عمادة المحامين”، قبل أن يعلن عزمه إطلاقه بنسخة محينة آخذًا بعين الاعتبار تحفظات هيئة المحامين، وفق تصريح إعلامي له.
وإن لم تكن هذه المبادرة الأولى من نوعها، فهي أعادت للسطح النقاش حول مسائل أصيلة تهمّ التصور التشريعي للطلاق والمعالجة القضائية الواقعية له بما يشمل الإدارة غير العصرية لمرفق العدالة. كما مثلت فرصة لإعادة طرح مسائل مهنية لجسم المحاماة تهمّ الإنابة والإشهار مع تجدد مطلبية رقمنة العدالة. لم يكن “طلاق.كوم”، بالنهاية، إلا حجرة حرّكت مياها راكدة.

تشجيع أم تيسير للطلاق؟


قدّمت النسخة الأولى للموقع خدمات محدّدة: تكليف فريق قانوني لإعداد دعوى الطلاق (بما يشمل صياغة كتب الاتفاق للطلاق بالتراضي واستدعاء الأطراف) مع عدد محدّد من الاستشارات بقيمة أتعاب جملية قدرها 1200 دينار. إذ يقوم صاحب الدعوى، عبر مراحل متتابعة في الموقع، بإرسال عدد من المعطيات الوجوبية إجابة على 16 سؤالًا، ويرسل مؤيدات ملفه، من بينها مضامين ولادة أطراف الدعوى والأبناء. يتواصل لاحقًا الفريق القانوني بصاحب الدعوى للاستفسار على نقاط معيّنة، يكتمل إثرها الملف ثم يتمّ دفع المصاريف. هي عملية إلكترونية لا تستغرق إلا دقائق بحسب الموقع، الذي يؤكد أن الغاية ليس التشجيع على الطلاق بقدر ما هي دعم القرين الذي قرر الطلاق: ورد في واجهة الموقع باللهجة التونسية “أحنا ما نشجعوش الناس علي الطلاق أما اذا إنت خذيت القرار أحنا دورنا ندعموك‎‎‎”.
التمييز بين التشجيع والتيسير ليس بيّنا واقعًا، إذ أن مؤدى تيسير الإجراءات كإنابة فريق متخصص والتعامل الإلكتروني عن بُعد بما يؤدي عمليًا لحضور المعني بالأمر في الجلسة الصلحية فقط، من دون الحاجة للتنقل لمكتب محام أو للمحكمة للإنابة أو الاستشارة أو المتابعة، سيشجّع أولئك الذين يرون في اللجوء للتقاضي استنزافًا وعبءًا نفسيًا، خاصة بالنظر لخصوصية موضوع قضية الطلاق: الحياة الخاصة. إنّ إلزامية اللجوء للمحكمة للطلاق منذ إصدار مجلة الأحوال الشخصية منذ زهاء سبعين عامًا، والسُمعة السيئة لإدارة العدالة من بطء قضائي وتعقيد الإجراءات، فضلا عن مخاوف الفضائحية في سياق مجتمعي لا زال يتحفظ على اللجوء للقضاء في المسائل الأسرية، تمثّل جميعها مكابح للجوء للقضاء للطلاق، وهو ما يؤدي تاليا لانتشار ظاهرة الطلاق الصامت عبر الفراق الواقعي مع المحافظة على العيش المشترك لغايات مصلحية متبادلة أو من أجل الرعاية المشتركة للأبناء. بهذا المعنى، تأتي الحاجة لتيسير الطلاق بداية من الإرشاد وصولًا لممارسة الدعوى، وعليه ليس الطلاق عن بُعد إلا سبيلًا للمطلوب.
من المهمّ في الأثناء التوضيح أن جملة المكابح السابق ذكرها لم تمنع من المحافظة على نسق تصاعدي لقضايا الطلاق بتونس. فبعيدًا عن المبالغات التي تعتبر نسبة الطلاق بتونس من الأكثر ارتفاعًا عالميًا دون أي سند علمي متين، يبيّن تسجيل 81122 قضية طلاق طيلة الخمس سنوات القضائية بين 2014 و2019، وكذلك ارتفاع عدد القضايا سنويّا بين هاتين السنتين بما يناهز 2300 قضية، أن منحى الطلاق يظلّ تصاعديًا بتونس، توازيًا مع منحى تنازلي ملحوظ في الزواج. أدى تصاعد الاستقلالية المادية للزوجة بوصفها فاعلا متساويا مع الزوج في سوق العمل، إضافة للتراجع النسبي للنظرة المجتمعية المعادية للطلاق، إلى تحوّل الطلاق بوصفه حقّا شرعيّا وتشريعيّا في نفس الوقت إلى سبيل متاح لاستعادة الحرية من الالتزام العلائقي، وهو ما يفسّر بالخصوص تصدّر الطلاق “إنشاء” وبالتراضي في أنواع الطلاق. بهذا المعنى أيضًا، يمثل الطلاق عن بُعد محفزًا لإنهاء العلاقة الزوجية بعيدًا قدر الإمكان عن صخب المحاكم ومع أقصى ممكنات المحافظة على الخصوصية.
بيد أن السعي لتيسير إجراءات الطلاق بالشكل المقترح في النسخة المعلّقة للموقع يطرح معضلتين: الأولى شبهة المتاجرة بالطلاق بما يحمله من طابع عائلي حميمي بل اعتبر البعض أن الموقع يهدف لتشتيت العائلات، والثاني المحافظة على سرية المعطيات الشخصية خاصة وأن الخدمات مقدمة من فريق مجهولة الهوية. إن كانت المعضلة الأولى ردها أن التيسير ليس تشجيعًا باعتبار أن الطلاق، بالنهاية، هو “قرار” من صاحب الشأن، فإنّ معضلة السرية تبقى جدية، بالنظر لخصوصية المعطيات في قضايا الأسرة، ومدى احترام ضوابط قانون حماية المعطيات الشخصية لعام 2004.
ولئن كان الموقع في نسخته الأولى، يهدف بوضوح إلى التخفيف من المصاعب الواقعية لممارسة دعوى الطلاق بالمحاكم التونسية، فإنّه لا يقتصر على هذا الجانب فحسب، بل يشمل أيضًا تقديم استشارات في خارج الجوانب القضائية الإجرائية المحضة. صاحب مبادرة الموقع أكّد، في تصريح إذاعي، أن الغاية ليست تشجيع الطلاق بل العكس تقليصه وذلك عبر إمكانية اللجوء لخبراء في مجالات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجنس (sexologie) والمتخصصين في العلاقات الثنائية (thérapie de couple). اقتراح هذه الخدمات في الموقع، يعكس أيضا قصور المعالجة التشريعية والقضائية للطلاق أو محدوديتها.


الصلح بين الزوجين.. المؤسّسة المهجورة


تحوّلت المحاكم في تونس إلى أداة قضائية ناطقة بالطلاق في قضايا الطلاق بالتراضي أو فضايا الإنشاء (أي بناء على إرادة أحد الفريقين) أو في قضايا الطلاق للضرر، والحال أن دور القاضي لا يقتصر على ذلك بنصّ التشريع. فالفصل 25 من مجلة الأحوال الشخصية ينصّ على إمكانية لجوء القاضي لتعيين حَكمين للإصلاح بين الزوجين. وهذا الفصل استعادة تشريعية لآية قرآنية لتكليف مصلح من أهل الزوج وآخر من أهل الزوجة للإصلاح بينهما، بيد أن الواقع يبيّن أن هذا الفصل مهجور. يمكّن أيضًا الفصل 32 من المجلة القاضي من الاستعانة “بمن يراه صالحًا” للمساعدة في الصلح بين الزوجين خلال الجلسات الصلحية. ولكن القاضي ينفرد واقعًا بالمحاولة الصلحية. عمليًا، تحوّلت الجلسة الصلحية، الضرورية قبل المرور للطور الحكمي في دعوى الطلاق، إلى جلسة شكلية للتحرير على الزوجين وتسجيل طلباتهما وإقرار القرارات الفورية المتعلقة بالنفقة والسكنى والحضانة. ولئن كان يُفترض أن يكون قاضي الأسرة من الرتبة الثانية، يبيّن الواقع اللجوء لقضاة من الرتبة الأولى حديثي العهد في الالتحاق بالقضاء وممّن يفتقدون للخبرة المجتمعية في التعامل مع القضايا الأسرية، بما يصعّب القدرة على الأداء الناجع للدور الصلحي الذي يتحوّل بالنهاية إلى دور شكلي.
وعلاوة على غياب فضاء الأسرة في عديد المحاكم، وطوابير الانتظار في الجلسات الصلحية التي لا تساعد على التهيئة النفسية للزوجين للتصالح بينهما، أثقل الارتفاع الكبير في عدد القضايا في المحاكم الزمن المحدد لكي يؤدّي القاضي المجهود اللازم للقيام بالمهمة الصُلحية. إذ يكتفي القاضي في الجلسة بدراسة الملف والمؤيدات وتعمير نموذج محضر الجلسة الصلحية، من دون أن ينكبّ على دراسة المشاكل الواقعية الزوجية وتحليلها واقتراح الحلول الناجعة لرأب الصدع. وإذ يحاول بعض القضاة القيام بالمهمة الصلحية بالشكل اللازم، فإنّها تظلّ ممارسة غير رائجة، بالشكل المندوب، في الواقع القضائي.
في هذه الأثناء، يسلّط “طلاق.كوم” الضوء على إعادة إحياء مؤسّسة الصلح بين الزوجين بل إعادة الاعتبار لها بمقاربة عصرية، منطلقًا من أن التفكير في الطلاق لا يعني إقرار القرين المعني بمضيّه في الطلاق، وأن الإصلاح بين الزوجين والتوفيق بينهما هي الغاية الممكنة دائمًا. يؤكد صاحب الموقع في تصريح إذاعي أن هدفه ليس اللجوء للمحكمة بل المساعدة على التوفيق بين الزوجين بالاستعانة بمختصين، بما يسمح بفتح مجال فرص تشغيلية للعاطلين عن العمل. وفي حين تطورت هذه الأساليب لغايات وقائية كما نستشفّ من برامج تأهيل المقبلين على الزواج لاكتساب المهارات اللازمة لإدارة العلاقات الزوجية وكيفية فض نزاعاتها، يتميز الموقع بجدّة عروض هذه الخدمات التي يوفرها للعموم وبخاصة للأزواج في وضعية الخلاف.
في جانب آخر، يطرح الموقع بطريقة غير مباشرة مسألة العلاقة بين الفرد والقضاء والتداخل بين الفضاء الشخصي الحميمي والفضاء القضائي المؤسساتي. إن اعتماد المشرع التونسي خيار وجوبية الطلاق عبر المحكمة، المتأتي ضمن موجة الإصلاح المجتمعي والتشريعي بعيد الاستقلال وغايته ضمان الحقوق المادية والمعنوية للمطلقة عبر الرقابة القضائية، مرادفه أيضًا توسيع غطاء تدخل الدولة، عبر الآلية القضائية، في النزاعات الشخصية، وهو توسيع أدى لانتقادات لدور العدالة وعلاقتها بالفرد والدولة. في هذا السياق، تبنى القانون الفرنسي خيارًا ثوريًا عام 2017 بجواز “الطلاق دون قاضٍ” عبر إبرام الزوجين لكتب الطلاق لدى محامٍ أو عدل إشهاد، في خيار وازن بين تقييد اللجوء للقضاء لتسوية الطلاق الاتفاقي من جهة والحفاظ على مجال تدخل المهن القانونية، بالخصوص المحامي من جهة أخرى. لم يطرح بعد هذا الملف على الطاولة بتونس، ولكن لا ريب أن رياح الخيار الثوري الفرنسي ستبلغ آثارها الساحة التونسية. هل يمكن التخلي في يوم ما عن اللجوء للمحكمة للطلاق في تونس؟ ربما.. وذلك رغم الهالة التي تكاد تبلغ القدسية لأحكام مجلة الأحوال الشخصية، ومخاطر المس بمكاسب المرأة، بغض النظر إن كان مبدأ “لا طلاق إلا لدى المحكمة” لم يعد بالضرورة مكسبًا في سياق الدعوات لإعادة مراجعة مظلة التدخل القضائي في المجتمع من دون المساس من النظام العام العائلي وقوامه الحفاظ على حقوق المرأة.


الطلاق عن بُعد.. عن إنابة محامٍ والدعاية وجدل لا ينتهي


هل أن إنابة محام وجوبية في دعوى الطلاق؟ لا وذلك استثناءً لمبدأ وجوبية الإنابة في المادة المدنية لدى المحكمة الابتدائية طبق الفصل 68 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية. هذا الاستثناء الذي يسمح للشخص المعني بالقيام بالإجراءات بنفسه وفي حقّ نفسه في مادة الأحوال الشخصية، جعل الدعاوى في هذه المادة وبالخصوص دعوى الطلاق مجالًا للمنافسة للمحاماة مع مهن أخرى وبالخصوص الكتاب العموميين وعدول التنفيذ فيما يشمل تحرير عرائض الطلاق ومتابعتها في الطور الابتدائي، باعتبار وجوبية إنابة محام في الطور الاستئنافي ولدى محكمة التعقيب. في هذه الأثناء، يعدّ توفير موقع إلكتروني لخدمة تكليف فريق قانوني بالتكفل بدعوى الطلاق في حق صاحبها عمليًا المزيد من التضييق على مجال عمل المحامي. ولذلك اعتبرت الهيئة الوطنية للمحامين أن الموقع يمثل “تحيلًا وانتحال صفة محام والقيام بأعمال من اختصاصه دون سواه”. سؤالان جوهريان في هذا الجانب: هل يجب على الشخص المعني القيام بالإجراءات بنفسه في دعوى الطلاق من دون إنابة شخص آخر؟ وإن كانت له الإنابة، هل يجب حصرًا إنابة المحامي دون سواه؟
لا تبدو الإجابة على السؤال الأول عسيرة، إذ لا مانع قانونيّا لعدم ممارسة الشخص المعني بنفسه دعوى الطلاق، كإمكانية الوكالة على الخصام على معنى الفصل 1118 من مجلة الالتزامات والعقود، مع العلم أنّ المحاكم بتونس لم توحّد موقفها من الأخذ بهذه الوكالة للتخلي عن الحضور الشخصي للمعني بالأمر في الطور الصلحي وإن كان مقيمًا بالخارج، ومع العلم أيضًا أن الوكالة على الخصام لا تصحّ إلاّ بالحجة العادلة. ولذلك، بالإضافة إلى العوامل التي سبق التطرّق لها، يقلّ عمليًا اللجوء للوكالة على الخصام في مادة الطلاق. في المقابل، لا تبدو الإجابة يسيرة بخصوص جواز إنابة غير المحامي. ينصّ الفصل الثاني من مرسوم المحاماة أنه “يختص المحامي دون سواه بنيابة الأطراف على اختلاف طبيعتهم القانونية ومساعدتهم بالنصح والاستشارة”. وهذا الفصل يُؤوّل باتجاه أنه لا إنابة إلا لمحامٍ حتى في القضايا التي لا تستوجب إنابة محامٍ. لذلك تضمّن مشروع قانون المحاماة عام 2018 تشديدًا في اتجاه غلق باب الإنابة على غير المحامين، حيث نصّ على أنّه “يجوز للمتقاضين في القضايا التي لا تكون فيها نيابة المحامي وجوبية أن ينيبوا عنهم بتوكيل خاص أحدا من أصولهم أو فروعهم أو أزواجهم”، مما يعني حصر قائمة الوكلاء. للملاحظة، هذا التعديل المقترح هو استعادة من قانون المحاماة لعام 1989.
عود على بدء بخصوص الخدمات المعروضة في موقع “طلاق.كوم” قبل تعليقه، لم يتم التدقيق بوضوح إن كانت تتعلق بنيابة (représentation) أو مساعدة قانونية (assistance juridique)، إذ تميز مجلة الإجراءات المدنية الفرنسية صراحة بينهما باعتبار الأولى تشمل الثانية وهي أكثر شمولًا على مستوى الصلاحيات. فإذا كان الموقع يقدم خدمات نيابة، فهو لم يحدد صيغتها، أي ما إذا كانت تتم في إطار الفصل 1118 من مجلّة الالتزامات والعقود، أم أنّ الأمر يتعلق بإنابة خفية ظاهرها مساعدة عبر تولي محترفين قانونيين، قد يكون من بينهم محامون، بصياغة عرائض الدعاوى وتكليف عدول التنفيذ لتبليغ الاستدعاء وتحرير التقارير وتقديم الاستشارات من دون الظهور العلني طيلة مدة سريان دعوى الطلاق. فإذا كانت تلك هي الصورة، فذلك يعني لزوم حضور الشخص المعني بنفسه في الطور القضائي لتقديم التقارير مثلا، والحال أن ذلك يتناقض مع خيار تيسير الطلاق. وخلاف ذلك، يفترض تكليف الموقع لمحامين ضمن فريقه لنيابة الشخص المعني مما يجعل الموقع بمثابة واسطة نيابة، وهو ما لا يُستبعد، خاصة وأن صاحب الموقع أشار في حديثه الإذاعي أن عميد المحامين أعلمه بلزوم اللجوء لطلب عروض في صورة التوجه نحو عصرنة إنابة المحامي، باعتبار شبهة استجلاب الحرفاء بطريقة غير قانونية عبر هكذا صورة. وقد انتهى صاحب المبادرة لاستعداده أن يتحول الموقع إلى “ذراع تقنية” للعمادة، وفق تعبيره. في الواقع، لا يبدو التمييز بين النيابة والمساعدة ناجعًا، خصوصا وأن الفصل الثاني من مرسوم المحاماة يجعل أعمال المساعدة كالنصح والاستشارة من اختصاص المحامي “دون سواه”، تماما كالنيابة، في حين نجد، في الواقع، قيام محترفين في القانون (عدول وكتبة عمومين ومستشارين قانونيين وجبائيين إلخ) بتقديم المساعدة القانونية كالاستشارات بالخصوص. تبدو المسألة، في هذا الجانب، مُربكة بين عدم الحسم التشريعي الواضح والنزعة الحمائيّة لكل قطاع، إما لحماية مجال تدخله أو توسيعه.
في هذا الجانب وعدا مسألة الإنابة، طرح الموقع مجددًا داخل مجتمع المحامين مسألة منع الإشهار المؤسس على الصبغة غير التجارية للمحاماة ونبل رسالتها، وهو خيار يُنظر إليه بأنه محافظ تجاوزه الزمن في سياق الثورة الرقمية، وبالنظر إلى التجارب المقارنة التي تبيح الدعاية للمحامين وتعزيز التنافسية فيما بينهم. وتبدو الصبغة المحافظة في النصوص القانونية المنظمة للمحاماة على نحو ما اشترطه الفصل 10 من النظام الداخلي للهيئة من لزوم إعلام عميد المحامين كتابيًا بأي مشاركة في وسائل الإعلام مع تضمين تاريخ المشاركة ومضمونها وحق العميد في إبداء ملاحظة أو تنبيه، وعدم ذكر صفة محامٍ في غير الاستشارات القانونية، وهو فصل غير مطبق واقعًا لما يحمله من تعسف وتقييد من دون موجب. الصورة مختلفة بالنسبة للمشاركة في وسائل الإعلام بصفة دورية أو منتظمة ولو من دون مقابل، وهي محجرة بنص الفصل 23 من مرسوم المحاماة، وهي ما زالت تحت مجهر الجدل فيما يتعلق بموضوع العلاقة بين المحامي والإعلام إجمالًا.
موقع “طلاق.كوم”، في هذه الأثناء، ليست المبادرة الأولى من نوعها، بل سبقتها مبادرة المحامي الأستاذ نافع العريبي بتأسيس موقع “ديفورس. تي أن” قبل خمس سنوات، والتي لم تدم طويلًا بعد إغلاقه بطلب من الهيئة بعد تكييفه بأنّه من قبيل الدعاية الممنوعة من جهة والسمسرة من جهة أخرى، أي استجلاب الحرفاء بطريقة غير مشروعة. يجيز النظام الداخلي لهيئة المحامين أن ينشئ المحامي موقعًا إلكترونيًا وفق ضوابط، منها ما يتعلق بأخلاقيات المهنة مثل احترام السر المهني وعدم المساس بأخلاقيات وشرف المهنة، ومنها ما يتعلق بموانع تحول دون الإشهار. فما يخوّله النظام الداخلي للمحامي بموقعه، هو ذكر اسمه وعنوان مكتبه والتعريف بشهائده العلمية واختصاصاته القانونية ونشر مقالاته وأعماله. كما يؤكّد النظام الداخلي على لزوم أن تكون جميع الاستشارات والأعمال المقدمة عبر الموقع بمقابل مادي. فهل يشمل مفهوم “الأعمال المقدمة” تلقي تكليف النيابة إلكترونيا؟ يحلّ، في هذا السياق، مانع الدعاية الذي يصعب تمييزه عن توظيف الوسائل الإلكترونية في التعريف بالشخص بالشكل مثلًا الذي يتضمنه موقع المحامي وفق ضوابط النظام الداخلي. إذ يلجأ محامون اليوم إلى إنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للإشهار لأنفسهم بطريقة غير مباشرة.
في الواقع، توجد حالة من الإرباك والغموض: ما الخيط الفاصل بين مبدأ منع الإشهار ومبدأ إباحة استغلال الوسائل الإلكترونية الحديثة والحال أنها أداة إشهارية بطبيعتها؟ هل ينحصر التمييز في عدم تمويل أي عملية إشهارية، أي غياب عنصر المقابل المادي؟ الملاحظة الميدانية تبين تطور انتشار أنماط من الدعاية غير المباشرة كإشهار الحريف المتمتع بقاعدة جماهيرية هامة لمحاميه، أو تحويل الصفحات على مواقع التواصل المتضمنة لاسم المحامي لمنصة لنشر أخبار أو معلومات عامة بما يؤدي لتداولها وتاليا إشهار الصفحة.
في الختام، ليس “طلاق.كوم” إلا شاهدًا جديدًا على الفجوة العميقة بين الواقع التشريعي والقضائي والمهني من جهة والواقع التكنولوجي في ظل ثورة رقمية من عناوينها رقمنة أي معاملة بين الأفراد. لا زال يضطر المحامي أو المتقاضي للانتظار في طابور طويل لإيداع مطلب أو الحصول على مآل قضية مع غياب أدنى المقومات التكنولوجية في قاعات الجلسات من دون الحديث عن طول آجال التقاضي بما يمسّ من قيمة العدل بذاته. في دعوى الطلاق، يجب على القرين الانتظار أحيانًا لساعات طيلة الجلسات الصلحية، التي لا تستجيب أصلا لمقومات تحقيق الهدف منها، ثم يكابد لتنفيذ القرارات الفورية. ربما يأتي التفكير يوما في إحداث مراكز متخصصة خارج مقرات المحاكم، يشرف عليها خبراء في الصلح العائلي، لتخفيف النزعة القضائية لتيسير حل الخلافات الزوجية. في هذه الأثناء، يبقى مسار رقمنة العدالة معطلًا ولم يحقق المأمول. بل ربما إن السؤال الأولي لم يلق بعد إجابة جامعة: أي عدالة نريد؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، قرارات قضائية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني