طريقة اختيار قيس سعيّد للمرشح «الأقدر» تثير جدلا: مدرس القانون الدستوري يخالف الدستور؟


2020-01-27    |   

طريقة اختيار قيس سعيّد للمرشح «الأقدر» تثير جدلا: مدرس القانون الدستوري يخالف الدستور؟

سويعات قبل انقضاء الأجل الذي يمنحه الدستور التونسي لرئيس الجمهورية كي يختار «المرشح الأقدر» لتشكيل الحكومة، خرج الدخان الأبيض من قصر قرطاج ليعلن عن تكليف الياس الفخفاخ، وزير المالية الأسبق والمرشح الذي حل في المرتبة 16 في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. خيار أثار جدلا واسعا، خاصة وأن الفخفاخ كان من أقل الأسماء حصولا على ترشيحات من قبل الأحزاب والكتل البرلمانية. لم يقتصر الجدل على الوجاهة السياسية لهذا الاختيار، فقد دحض البعض في دستوريته، معتبرين أن الفخفاخ، حسابيا، ليس” المرشح الأقدر”.

مرت أكثر من ثلاثة أشهر ونصف على الانتخابات التشريعية، دون أن ينتهي مسلسل تشكيل الحكومة. فقد فشلت حكومة الحبيب الجملي، الذي رشحته حركة النهضة بوصفها الحزب الذي حل أولا، في نيل ثقة نواب الشعب في جلسة يوم الجمعة 10 جانفي الجاري. وبذلك، انتقلت الكرة إلى ملعب رئيس الجمهورية ليكلف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة، حسب ما تنص عليه الفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور، وبعد إجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية.

 

قيس سعيّد للأحزاب والكتل: أرسلوا مقترحاتكم كتابيّا

كانت أول خطوة أخذها رئيس الجمهورية قيس سعيّد هي إرسال مكاتيب إلى الأحزاب الممثلة في البرلمان للتقدم بمرشحيها لرئاسة الحكومة. أثارت هذه الخطوة تساؤلات حول ما إذا كان يصح اعتبار تبادل المكاتيب بين رئيس الجمهورية والأحزاب «مشاورات» على معنى الفصل 89 من الدستور. أجابت رئاسة الجمهورية على هذا الجدل بتوضيح شكّلت بعض عباراته مادة للتندر على وسائل التواصل الاجتماعي، جاء فيه أن الدستور لم يحدد شكلا للمشاورات، التي يمكن أن تكون مباشرة كما يمكن أن تكون مكتوبة، وأن «الكتابة في ظل الوضع الحالي الذي تعيشه تونس أفضل بكثير من المشاورات التي قد تمتدّ ولكن من دون جدوى».

ولئن جرت العادة أن تكون المشاورات بلقاءات مباشرة، وهو ما اتبعه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بعد سحب البرلمان ثقته من حكومة الحبيب الصيد، فإن خيار "المشاورات الكتابية" لا يخلو من إيجابيات. فهو يضمن قدرا أكبر من الشفافية، حيث أن جميع الأحزاب اضطرت لتعلن بوضوح هوية مرشحيها، وقد يكون فيه أيضا اختصارا للوقت، وحصرا للنقاش في عدد محدود من الأسماء.

واللافت أن رئيس الجمهورية، الذي اكتفى في مشاوراته الكتابية بالأحزاب والقوى السياسية الممثلة بالبرلمان، وسّع إطار المشاورات باستقباله رؤساء أهم المنظمات الوطنية للتباحث حول التكليف. وفي الأيام الفاصلة بين تلقي إجابات الأحزاب وإعلان المرشح، لم يلتق سعيّد أيا من ممثلي الأحزاب، باستثناء راشد الغنوشي الذي استقبله في آخر يوم بصفته رئيس مجلس نواب الشعب، حسب ما أعلنته رئاسة الجمهورية التي أوضحت أن اللقاء تناول «الأوضاع العامة بالبلاد والمشاريع التي ينوي مجلس نواب الشعب تقديمها في الفترة المقبلة «. وبهذا، انتهى دور الأحزاب في المشاورات بمجرد تقديمها للأسماء التي ترشحها لرئاسة الحكومة. لكن هذه الطريقة جعلت في نفس الوقت حرية رئيس الجمهورية في الاختيار مقيّدة، مبدئيا، بالأسماء التي رشحتها الأحزاب.

 

غياب أغلبية مطلقة وراء أي مرشح يطلق أيدي رئيس الجمهورية

باستثناء الحزب الدستوري الحر، قدمت كل القوى السياسية الممثلة في البرلمان أسماء مرشحيها، أو على الأقل، بالنسبة للتيار الديمقراطي، من لا تعترض على تكليفهم بتشكيل الحكومة. وقد حصلت تقاطعات عديدة بين قائمات الأحزاب، مما يدل على حصول تنسيق بينها بخصوص بعض الأسماء.

فقد حاز الفاضل عبد الكافي، وزير التنمية السابق، على ترشيح الحزبين الأول والثاني، حركة النهضة وقلب تونس، بالإضافة إلى أحزاب كتلة الإصلاح الوطني (مشروع تونس وآفاق تونس والبديل التونسي ونداء تونس)، في حين ورد اسم حكيم بن حمودة، وزير المالية السابق في حكومة المهدي جمعة، في قائمات تحيا تونس وقلب تونس وحركة الشعب وجل الأحزاب الممثلة في كتلة الإصلاح الوطني (باستثناء نداء تونس) بالإضافة إلى كتلة المستقبل. كما رشحت أحزاب قلب تونس وتحيا تونس وأحزاب كتلة الإصلاح الوطني أيضا اسم رضا بن مصباح، الذي تقلد مناصب عديدة قبل الثورة. أما إلياس الفخفاخ، وزير المالية في حكومة الترويكا، فقد حصل على دعم تحيا تونس وعدم اعتراض التيار الديمقراطي، في حين رشح ائتلاف الكرامة ونواب «أمل وعمل» عماد الدائمي، النائب السابق عن حراك تونس الإرادة، الحزب الذي أسسه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي.

 

لكن التنسيق بين الأحزاب لم يفضِ إلى توفر الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان (109) اللازمة لكي تنال الحكومة الثقة، لفائدة أي اسم من المرشحين. فمساندو الفاضل عبد الكافي يقدرون برلمانيا ب 104 نائبا، في حين يأتي حكيم بن حمودة ثانيا ب 85 نائبا، ورضا بن مصباح ثالثا ب 67 نائبا، ثم إلياس الفخفاخ ب 36 نائبا. عدم تجميع أي من المرشحين، حسب المشاورات الكتابية، للأغلبية المطلوبة هو الذي حرّر يديْ رئيس الجمهورية. فالفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور، وإن منحت صلاحية الاختيار لرئيس الجمهورية، فقد قيّدتها بأن تكون الشخصية المختارة هي «الأقدر» على تأليف الحكومة، وذلك بعد إجراء المشاورات مع الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية. نستنتج من ذلك أن حصول مرشح واحد على دعم أغلبية من النواب كان سيجبر رئيس الجمهورية على تكليفها، وإلا لخالف نصّ وروح الفصل 89. صحيح أن الدستور لا يرتب وسيلة للطعن في التكليف، ولا جزاء على عدم تكليف الشخصية الأقدر، بل أن عدم منح النواب الثقة للحكومة المقترحة يجعل رئيس الجمهورية في موقع أقوى، بما أنه يفتح الباب أمامه لحلّ البرلمان، لكن وجود أغلبية جاهزة لدعم مرشح معيّن لم يكن ليترك خيارا آخر لرئيس الجمهورية غير تكليفه، وإلا لظهر في موقف المستهتر بالدستور أو الساعي لحل البرلمان بغية اجراء انتخابات سابقة لأوانها.

أما وقد عجزت الأحزاب عن تجميع الأغلبية المطلقة، يصبح لرئيس الجمهورية هامش تقديري أكبر لاختيار المرشح الأقدر على تأليف الحكومة. فترتيب المرشحين لا يلزم رئيس الجمهورية ما دام أي منهم لم يبلغ ال 109، بما أن تحصُّل اسم على ترشيح عدد أكبر من النواب لا يعني بالضرورة قدرة أكبر لديه على بلوغ الأغلبية المطلقة، إذ يمكن أن يكون ذلك العدد أقصى ما يمكنه تجميعه. وقد ظهر عدم التزام قيس سعيد بالترتيب حتى قبل أن يختار الفخفاخ، وذلك حين استقبل، على حدة، ثلاثة من الأسماء الأكثر ترشيحا، وهي الفاضل عبد الكافي وحكيم بن حمودة والياس الفخفاخ، دون دعوة رضا بن مصباح الذي يحظى بمساندة أكبر من تلك التي تحصل عليها إلياس الفخفاخ، لأسباب قد تتعلق بارتباطه بالنظام القديم، قبل أن يتأكد هذا التوجه بالإعلان عن تكليف الياس الفخفاخ. اختيار لاقى هجوما شديدا من قياديي حزب قلب تونس. فقد اعتبره أسامة الخليفي ”انقلابا على الشرعية الانتخابية” و ”جريمة” وخرقا جسيما للدستور. هجوم انخرط فيه أيضا الناطق الرسمي لائتلاف الكرامة، سيف الدين مخلوف، الذي اعتبر أن الفخفاخ ليس المرشح الأقدر، وأن تعيينه تنكر للمشاورات الكتابية ويشكل ”قراءة غريبة للنّص الدستوري من رجل قانون دستوري”.

 

هل يصح اعتبار حكومة الفخفاخ «حكومة الرئيس»؟

اختيار رئيس الجمهورية لالياس الفخفاخ لم يكن فقط اختيارا لشخص، وإنما اختيارا للحزام السياسي الذي سيشكل به الحكومة، وهو حزام سياسي لا يشمل حزب قلب تونس، الذي تتعلق برئيسه نبيل القروي قضايا تهرب ضريبي وغسيل أموال وغيرها، والذي كان منافس قيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. فاستثناء عبد الكافي وبن حمودة مرده، غالبا، ترشيحهما من قبل حزب قلب تونس. وهو أيضا حزام سياسي تتكون نواته الأولى من حزبي تحيا تونس (الذي رشّح الفخفاخ) والتيار الديمقراطي (الذي لم يعترض عليه). وإن كان عدد نواب هذين الحزبين ضئيلا، إلا أن رئيس الجمهورية يراهن على انضمام حركة النهضة وحركة الشعب إليهما، وربما أحزاب صغيرة أخرى، في استعادة لمشهد محاولة تشكيل «الحكومة الثورية»، التي فشلت مع الحبيب الجملي، مرشح حركة النهضة، قبل أن يعلن الأخير عن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة.

أكد الياس الفخفاخ هذا التوجه في ندوة صحفية يوم الجمعة الماضي، مدافعا عن استثناء حزبي قلب تونس والدستوري الحر من مشاورات التأليف، ومعتمدا كمعيار اختيار الأحزاب التي سيألف معها الحكومة مساندة قيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.

فهل نحن أمام "حكومة الرئيس" التي تستمد مشروعيتها من الانتخابات الرئاسية وليس من التشريعية كما يقتضي الدستور، والتي يتحول مركز السلطة فيها من القصبة (مقر رئاسة الحكومة) إلى قرطاج (قصر رئيس الجمهورية)؟

لم ينتظر الحديث عن «حكومة الرئيس» سقوط حكومة الحبيب الجملي والانتقال إلى الفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور. فقد دفع الفوز الكبير لقيس سعيد من جهة وتفتت المشهد البرلماني وضعف نتائج كل الأحزاب من جهة أخرى، بعض الأصوات، وخاصة حركة الشعب، إلى الدعوة لبناء ائتلاف حكومي على قاعدة نتائج الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. لكن اختيار رئيس الجمهورية للحزام السياسي الذي تتشكل منه الحكومة، وإن يفترض فيه أن يلعب دورا سياسيا أكبر، فهو لا يبرر الحديث عن «حكومة الرئيس»، في نظام سياسي يجعل الحكومة مسؤولية أمام البرلمان ومطالبة بنيل ثقته لكي تتشكل. إن الحالة الوحيدة التي قد يصح فيها استعمال هذا المفهوم، هي امتلاك رئيس الجمهورية لأغلبية برلمانية موالية له بشكل مباشر، وهو ما لا يتوفر حاليا. فالأحزاب التي قد تشكل الائتلاف الحكومي لا تتبع قيس سعيّد، بل كان لكل منها مرشح منافس له في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية. وبالتالي، سيخضع تأليف حكومة الياس الفخفاخ بالضرورة إلى توازنات البرلمان، وأوزان مختلف الكتل الحزبية داخله، وطلبات وشروط كل منها. كذلك، سيحتاج الياس الفخفاخ إلى إرضاء كل مكونات حكومته عند عرض أي مشروع قانون أساسي على البرلمان. فالأغلبية الحاكمة لن تتجاوز المائة وتسعة مقاعد بكثير، وقد تكون الأقل عددا من بين كل الأغلبيات التي حكمت منذ 2011. وبالتالي، سيكون بقاؤها رهينة انسحاب أي حزب من مكوناتها.

ما من شك أن قيس سعيّد يتمتع بمشروعية انتخابية غير مسبوقة، تؤهله للعب دور سياسي مهم. حكومة الياس الفخفاخ، إذا نجحت في نيل ثقة مجلس نواب الشعب، ستحظى بدعم رئيس الجمهورية، وتشتغل في تناغم معه، على عكس ما حصل في السنة الأخيرة من حكم الباجي قائد السبسي بعد سعيه لتغيير يوسف الشاهد على رأس الحكومة، ونجاح هذا الأخير في قلب الطاولة على حزبه نداء تونس وعلى رئاسة الجمهورية مستعينا بمساندة حركة النهضة. لكن هذا لا يجعل منها «حكومة الرئيس»، حتى وإن تصرف رئيس الحكومة نفسه على أنها كذلك. فهو سيبقى خاضعا للتوازنات البرلمانية، أكثر من أي رئيس حكومة قبله، نظرا للضعف العددي والتنوع الكبير للأغلبية التي يسعى إلى تشكيلها. بل أن حكومة الحبيب الصيد، وهي أول حكومة بعد انتخابات سنة 2014، كانت أقرب بكثير لمفهوم «حكومة الرئيس»، نظرا لحجم نداء تونس آنذاك في البرلمان (86 نائبا) وارتباطه بمؤسسه الباجي قائد السبسي، رئيس الجمهورية آنذاك.

 

قطعا أن تركيبة البرلمان من جهة، ومشروعية قيس سعيد وشخصيته من جهة أخرى، تشكل كلها عوامل قد تؤثر على طريقة ممارسة النظام السياسي الذي أسسه دستور 2014. نظام سياسي كثر التصويب عليه منذ سنوات، وتحميله مسؤولية كل أزمات الحكم. لكن إعادة النظر فيه تحتاج أولا تجربته لمدة كافية لدراسة مواطن الخلل فيه، وترويا في مقاربته، وأوسع توافق ممكن حول التشخيص والعلاج المقترح، وأيضا إرساء المحكمة الدستورية واستكمال المشهد المؤسساتي الذي أسسه دستور 2014.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني