سرقة أرصدة الخلوي: المشتركون قربان الخصخصة؟


2022-07-02    |   

سرقة أرصدة الخلوي: المشتركون قربان الخصخصة؟

بعدما هرّبت الحكومة قرار رفع أسعار الإنترنت والخلوي في الجلسة الأخيرة التي عقدتها قبل تحوّلها إلى حكومة تصريف الأعمال، بدأت أمس تنفيذ هذا القرار. اليوم الأول أثار موجة من الغضب الشعبي، عبّر عنها المشتركون على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام. الاعتراض لم يطلْ رفع الأسعار فقط، بل طال الآلية الملتوية التي اتّبعت. بدلاً من الاكتفاء بزيارة الأسعار، فضّلت الوزارة التحايل على المشتركين من خلال هندسة مالية هي أشبه بعملية نصب، كما وصفها مغرّدون، أدّت إلى سرقة أرصدتهم، مهما كانت قيمتها، قبل البدء باحتساب الأكلاف على التعرفة الجديدة.

هكذا ببساطة، وجد المشتركون أنفسهم أمام خديعة نفّذتْ على مرحلتين، وكانت “المفكرة القانونية” قد حذرت منها: في الأولى أعلنت الوزارة عن تحويل الأرصدة من الدولار إلى الليرة على السعر الرسمي، وفي الثانية التي نفّذتها أمس حوّلت الأرصدة مرّة جديدة إلى الدولار لكن على سعر صيرفة. وعليه، من كان يملك 100 دولار في رصيده، على سبيل المثال، صار يملك في المرحلة الأولى 150 ألف ليرة، قبل أن يتحول رصيده أمس إلى 6 دولارات فقط. الحجة المُعلنة من وزير الاتصالات جوني القرم هي مواجهة عملية احتكار مارسها عدد من المشتركين أو الموزّعين وأدّت إلى تراكم أرصدة بقيمة 450 مليون دولار في هواتف المشتركين أو المُحتكرين. هنا ليس مهماً التمييز بين 400 شخص تمكنوا من جمع أرصدة تزيد عن 200 ألف دولار لكل واحد منهم (كما سبق وأعلن وزير الاتصالات) وباقي المشتركين الذين اشتروا بطاقة تشريج لسنة أو لستة أشهر أو لثلاثة، والتي تتضمن رصيداً لا يتخطى 300 دولاراً في الحد الأقصى.

هكذا، لم تتردد الوزارة، من أجل معالجة مسألة عدد محدود من المُحتكرين، في معاقبة 5 مليون مشترك، من خلال حسم 94 % من أرصدتهم، التي لم يحصلوا عليها لا غشاً ولا مواربة، بل من خلال عملية شراء شرعية تمت إما من نقاط بيع الشركة أو موزّعين أو من المنصات الالكترونية الخاصة بالشركتين.

العنوان الذي يظن وزير الاتصالات أنه “بيّيع” هو أن القطاع سينهار لو لم يقم بهذا الإجراء. وهو هنا يخلط عمداً بين رفع السعر، وهو ربما أمر ضروري (خاصة إذا ترافق مع إعادة هيكلة الشركتين وضبط نفقاتهما وشرط أن يتم بالليرة وبشكل متناسب مع الدخل الوطني) وبين مُعاقبة من أساء استعمال حقه في الوصول إلى خدمات الاتصالات. أما الإشارة إلى عدم وجود أي نص قانوني يسمح بمعاقبة من راكم آلاف الدولارات، فهو كلام لا يؤدي عملياً إلا إلى تبرئة المسؤولين عن ذلك. وحتى لم يتم التفاوض معهم لإلزامهم على بيع أو استهلاك الأرصدة الضخمة، تحت طائلة إلغائها. كان العقاب الجماعي أسهل، فتجاهلت وزارة الاتصالات حتى المسؤولية المترتّبة على إدارة الشركتين. هما في النهاية سمحتا بتخزين ما يزيد عن 400 مليون دولار في فترة زمنية قصيرة، من دون أن تتخذا أي إجراء يوقف عملية التخزين ويوقف عملية تشريج الخطوط بدون سقف.

وزارة الاتصالات تخدع هيئة الاستشارات

تحصّنت وزارة الاتّصالات لتنفيذ مخطّطها باستشارة حصلتْ عليها من هيئة الاستشارات والتشريع في وزاة العدل، تجيز فيها تحويل الأرصدة من الدولار إلى الليرة. الاستشارة اعتبرت أن ذلك واجب أيضاً انطلاقاً من أنه لا يجوز التسعير بغير العملة الوطنية.

ما لم تأخذه الاستشارة بعين الاعتبار هو أن بطاقة الاتصالات ليست بطاقة شراء أسوة ببطاقة الشراء التي يمكن استعمالها، على سبيل المثال، في المراكز التجارية. فالبطاقة تلك يمكن أن يشتري بها المستهلك أي سلعة، في حين أن بطاقة الاتصالات محصور استعمالها بشراء الداتا والدقائق المعروفة الثمن. وبالتالي عند شراء بطاقة شهر على سبيل المثال، يُدرك المشترك سلفاً أنه يُشتري بقيمة 22.73 دولاراً دقائق أي ما يُعادل 90 دقيقة اتصال، وبالتالي لا يمكن أن يشتري المشترك هذه الدقائق، ثم تعمد الشركة إلى تخفيض عددها بعدما باعتْها.

عندما تمّ التحذير من أن تحويل الرصيد إلى الليرة لا يعني الالتزام بالتسعير بالليرة، بل هو فقط خطوة تهدف إلى سلب المشتركين أرصدتهم، على أن تعود الوزارة إلى التسعير بالدولار مجدداً، كانت مصادر قضائية معنية تؤكد لـ”المفكرة القانونية” أنها ترفض محاكمة النوايا، معتبرةً أنّ ما يمكن أن يجري بعد تحويل الرصيد يُعالج في وقته، خاصّة في حال العودة إلى التسعير بالدولار. واكتفت المصادر بالإشارة إلى أن الاستشارة تلك محصورة بإمكانية تحويل الرصيد إلى الليرة وعدم إمكانية تخفيض مدة العقد.

حصل ما كان متوقعاً. طبعاً وزارة الاتصالات لم تعد إلى هيئة الاستشارات لاستشارتها مجدداً لأنها تعرف الردّ سلفاً. لكن هذا لا يمنع أنّها خالفت حتى الاستشارة السابقة. فبعيداً عن اعتبار الهيئة أن الرصيد الذي يملكه المشترك لا يعطيه أي حق مكتسب بالحصول على عدد محدد من الدقائق، ركّزت على حق المشترك بأمرين سُجّلا صراحة على بطاقات التشريج: الرصيد بالدولار (أحياناً بالليرة والدولار معاً) وصلاحية البطاقة. وهذان أمران لا يجوز تعديلهما لأنهما يُشكّلان عقداً بين الشركة والمشترك، لكن الوزارة عدّلت القيمة بالدولار.

أي بعبارة أخرى لو اكتفت الوزارة بتحويل الرصيد إلى الليرة، ثم قامت بالتسعير بالليرة، لكانت الخديعة بقيت مستترة، لكن ما حصل أن التحويل إلى الليرة ثم إلى الدولار، أدى إلى تغيير رصيد البطاقة بالدولار، وبالتالي خالف العقد مع المشترك، خاصة أن التسعير بقي بالدولار. ما أكد أن تحويل الرصيد إلى الليرة لم يكن سوى محاولة للتحايل على المشتركين وعلى القانون، لأن التسعير سيبقى بالدولار. ما يعني عملياً أن الهدف من التحويل ليس الانتقال إلى تسعير الخدمة بالليرة كما يُفترض أن يكون، بل تذويب الرصيد. وهو ما حصل فعلاً، لكن بطريقة أكثر وقاحة. فبعدما حُوّل الرصيد إلى الليرة، بقيت بإمكان المشترك رؤية قيمة الرصيد بالدولار، لكن منذ يوم أمس أزيلت أي إشارة للرصيد بالليرة. انتهت وظيفة التحويل إلى العملة الوطنية مع ابتلاع 94% من الرصيد. هكذا ببساطة اختفت كل نظريات لبننة الفواتير وضرورة الدفع بالعملة الوطنية بشكل أقل ما يقال به أنه مستفزّ.

إدارة عاجزة عن الإدارة

خلاصة ما حصل بالنسبة للمدير العام الأسبق ل “تاتش” وسيم منصور، كما ورد في مقالته المنشورة في “المفكرة القانونية” هو الإصرار على الاستمرار بالعاهات الموروثة في القطاع، والتي قضتْ بتسعير هذه الخدمة بالعملة الأجنبية لضمان أرباحهما بمعزل عن تقلّبات سعر الصرف في السوق، بدلاً من وضع تعرفة بالليرة اللبنانية، أسوة بالخدمات الأخرى، تتناسب مع القيمة الشرائية للمشتركين. علماً أن منصور كان حذّر من تحميل المشتركين مسؤولية العجز في القطاع من خلال زيارة الأسعار بمعزل عن خطّة لتخفيف النفقات المُضخّمة في الشركتين المشغلتين، ومن دون أن يترافق بالضرورة مع تحسين الخدمة وزيادة المداخيل، خصوصاً إذا خفّ عدد المستهلكين والاستهلاك. .

باختصار، المشكلة الأساس تتعلق بإدارة القطاع. هي التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه وهي التي لم تحرك ساكناً طيلة سنتين من عمر الأزمة لإنقاذ القطاع أو لضبط نفقاته، أو حتى معالجة مشكلة مراكمة الأرصدة التي كانت تحصل بعلمها، مع إدراكها مراكمة مئات ملايين الدولارات على الشبكة يمكن أن يضرب أي شركة، وبالتالي كان يجب معالجة الموضوع بسرعة، على الأقل من خلال التوقف عن تسليم البطاقات للموزّعين المخالفين وتحديد مهلة لهم لبيع البطاقات التي يملكونها، تحت طائلة إلغائها، مع تعزيز عمليات البيع المباشرة من مكاتب الشركتين لمنع السوق السوداء. كل ذلك لم يحدث. وهذا لا يمكن تفسيره إلا بسوء إدارة أو تواطؤ من الشركتين والوزارة التي تعمّدت تشجيع الناس على الشراء لإظهار فوائض في عائدات القطاع، قبل أن تقول لهم إن اللعبة انتهت وسنحسم ثلاثة أرباع أرصدتكم. فلو أرادت منع مراكمة الدولارات، لكان أمكن تطبيق القانون بحقهم. لكن ما ذنب من اشترى بطاقة تشريج لسنة من دون أي تلاعب؟ فشل الإدارة يظهر جلياً في مفاخرتها بما وصف “ابتكار” بطاقة جديدة لذوي الدخل المحدود بقيمة 4.5 دولارات. هذا أقصى ما تمكنت إدارة الخلوي من إنجازه خلال سنوات، مرت من دون تقديم أي منتج أو خدمة وجعلت القطاع ينوء تحت أعباء ساهمت في تراجعه عشرات السنين إلى الوراء.

ما يثير الريبة أكثر هو عدم اللجوء إلى أيّ خيار يتصف بالعدالة ولا يحرم صغار المشتركين من أرصدتهم، بالرغم من أن هذه الخيارات متاحة. يشير منصور إلى أنه بدلاً من هيركات يطال كل المشتركين دون تمييز، كان يمكن، على سبيل المثال، وضع سقف أعلى للرصيد في الهواتف، قد يكون ألف دولار أو أي مبلغ آخر. بحيث تدعو الشركتان كل من يملك أكثر من هذا المبلغ إلى بيعه في مهلة محددة، وإن لم يتمكن من بيع الرصيد كله، يُلغى من حسابه، على أن يحقّ له استرداد قيمته نقداً على سعر 1500 ليرة. وإن تعذّر تنفيذ هكذا خطوة بقرار وزير، يمكن اللجوء إلى مجلس النواب لإصدار قانون بهذا الخصوص، أسوة بما يمكن أن يحصل مع البطاقات مسبقة الدفع التي لم تستعمل بعد.

وتجدر الإشارة إلى أن موازنة 2022 تنص في المادة 146 منها على اعتبار “بطاقات الهاتف الخلوي مسبقة الدفع، المباعة من الشركتين وغير المستعملة لغاية صدور القانون، منتهية الصلاحية وغير صالحة للاستخدام وإعطاء الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين بحوزتهم هذه البطاقات إمكانية استرجاع ثمنها في مهلة أقصاها شهر”.

على طريق الخصخصة

كل ذلك لم يحصل. ذهبت الوزارة إلى الخيار الأسهل والأكثر ظلماً. حمّلت كل المشتركين مسؤولية أخطائها وأخطاء الشركات وجرائم المحتكرين، لكنها لم تكتفِ بذلك. فإذا كانت الوزارة حريصة على عدم إحداث بلبلة في السوق، مع الحصول على النتائج نفسها، كان بإمكانها الإبقاء على الأرصدة بالليرة طلما أنها رفعت الأسعار، لكنها لم تفعل. لا يُفهم من ذلك سوى أن الغاية هي وضع القطاع على طريق الخصخصة (وهو أيضاً ما يُفسّر الإصرار على الاستمرار في فصل الشبكتين ومعداتهما ومحطاتهما، بالرغم من الحاجة إلى الرومينغ الوطني وتوحيد المحطات لتحسين الخدمة وتوفير الأكلاف التشغيلية…). تلك رسالة واضحة إلى من سيشتري القطاع بأن الإيرادات ستكون بالدولار كما الرصيد، لا بالليرة. هذا يُطمئن المستثمرين المفترضين الذين سينتظرون الوقت المناسب للانقضاض على القطاع، وهؤلاء لا يناسبهم الدخول إلى قطاع مُثقل بالديون للمشتركين. وعليه، قامتْ الوزارة بالعمل السيء، وجعلتْ المشتركين الضحية الوحيدة لسوء الإدارة والتحضير للخصخصة. فهل تمرّ هذه الخطوة بدون طعن أمام مجلس شورى الدولة من قبل أيّ من المتضررين الخمسة ملايين؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات إدارية ، حقوق المستهلك ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني