خلال الأزمات تُصبح الحاجة إلى الدولة أكثر إلحاحاً، لاسيّما بمفهومها الرعائي وأدوارها الاجتماعية والاقتصادية. ما يجري في لبنان حالياً يُبيّن العكس تماماً، إذ تتعامل الدولة مع مواطنيها بمنطق التاجر الساعي وراء الربح، أقلّه هذا ما يظهر من مقاربة الحكومة لملف الاتصالات. تحت التهديد والتهويل بانقطاع هذه الخدمة، تسعى الحكومة إلى رفع أسعار الخلوي بما لا يقلّ عن 6 أضعاف وصولاً إلى 14 ضعفاً، على الرغم من تراجع الناتج المحلّي الإجمالي أكثر من النصف منذ بداية الأزمة، وفقدان العملة أكثر من 90% من قيمتها وانهيار القدرة الشرائية فيما الأجور مُجمّدة. يبدو واضحاً من هذا السياق أنّ الهدف من رفع أسعار الخلوي ليس مرتبطاً بالقدرة الشرائية للمستهلكين ولا باستمرارية تقديم الخدمات، بل بتحسين إيرادات الخزينة، أي العودة إلى النهج نفسه الذي حكم قطاع الخلوي منذ تأسيسه قبل ثلاثة عقود، بوصفه ريعاً لا خدمة مُستحقّة، وضريبة غير مباشرة تُفرض على الناس لرفد الخزينة بموارد سهلة ووفيرة، يُعاد استخدامها في تثبيت ركائز النظام السياسي القائم على تحاصص الموارد وتوزيعها على الأزلام وشراء الولاءات وتعزيز الزبائنية.
ضرائب مُستترة
عادة، ووفق الممارسات المُعتمدة في قطاع الاتصالات وخصوصاً الخلوية، لا يلجأ المُشغّل إلى تخفيض أو رفع الأسعار بطريقة مباشرة كي لا يفقد عنصر التنافسية، بل يطرح عروضاً جديدة تُشجّع على زيادة الاستهلاك بأسعار أرخص أو أعلى مقارنة مع العروض السابقة، تبعاً لدراسات علمية وتقنّية يقوم بها الفريق التجاري والتسويقي في الشركة مستنداً إلى مؤشّرات السوق وتحليلات لسلوك المشتركين وطرق استعمال الخدمات المُقدّمة، حرصاً من المُشغّل على الحصول على متوسّط دخل من كلّ مُشترك (ARPU) يتناغم مع المستوى المعيشي ومستوى التنافس في البلد.
في الواقع، لا تُرفع الأسعار مباشرة إلّا في حالات قليلة جدّاً أبرزها التضخّم المُفرط لاقتصاد الدولة، وذلك من خلال تعديل مرسوم التعرفة تصدره السلطات المعنيّة بمعزل عمّا إذا كان القطاع مملوكاً منها أو من شركات خاصّة.
هذا ما حصل في سوريا على سبيل المثال. بعد عشر سنوات من الحرب التي أدّت إلى انهيار الاقتصاد، وتراجع الليرة السورية، وتدمير العديد من محطّات الإرسال، عمد المشرّع بطلب وتعليل من المُشغّلين، إلى زيادة التعرفة مرّات عدّة لمنع انهيار القطاع. بالنتيجة وبحسب آخر تعديل للتعرفة، ارتفعت الأسعار بنسبة 100%، وانخفض الـ ARPU من 9 دولارات قبل الحرب إلى ما لا يتجاوز الدولارين، وذلك لمواكبة الانهيار الحاصل في القدرة الشرائية ولتحفيز المشتركين على الاستهلاك.
لكن ما يحصل في لبنان هو النقيض تماماً. يجري النقاش حالياً برفع سعر دولار الاتصالات، لا تعديل التعرفة، من 1500 ليرة إلى ما يتراوح بين 9 آلاف ليرة وصولاً إلى أكثر من 20 ألف ليرة (وفق سعر منصّة صيرفة).
تأتي مساعي رفع سعر دولار الاتصالات بديلاً عن خفض النفقات المُتضخّمة في هذا القطاع والتي تُستخدم كإحدى قنوات الزبائنية وتحاصص الموارد العامّة، واستعاضة عن هيكلته لزيادة الإيرادات من دون تحميل المستهلكين عبءاً إضافياً لقاء حصولهم على هذه الخدمة، والتفافاً على تعديل التعرفة خصوصاً أن تعديل سعر دولار الاتصالات يرفد الخزينة بإيرادات إضافية ويتماشى مع نيّة الحكومة إقرار موازنة تقشّفية للحدّ من عجز الخزينة عبر تحميل الناس المزيد من الأعباء من دون مقابل.
تُعدُّ هذه الزيادات المُقترحة على أسعار الخلوي ضريبة غير مباشرة مُستترة لا تصحيحاً للتعرفة، ودعماً من دون مقابل للخزينة لا إنقاذاً للقطاع، وعودة إلى النموذج السابق بكلّ سيّئاته عبر تعويض الانخفاض الحاصل بالإيرادات المحوّلة إلى الخزينة نتيجة انهيار سعر الصرف والتي كانت تبلغ نحو مليار دولار كمعدّل سنوي.
على أي قاعدة تُحتسب الأسعار؟
في العام 2019، قدّمت الشركتان المُشغّلتان للخلوي في لبنان دراسات عن وضعهما وبياناتهما المالية عن الفترة المُمتدة بين العامين 2010-2018 إلى لجنة الاتصالات النيابية، حيث تبيّن أن متوسّط الدخل من ّالمشتركين في الشركتين (ARPU) يساوي 29 دولار، وهو ما يعدُّ من أعلى الأسعار عالمياً، ويتجاوز الأسعار في الدول المُشهابة بأكثر من ثلاثة أضعاف. على سبيل المثال، لا يتعدّى الـARPU في الأردن 8 دولارات، كما أشارت هذه الدراسات، إلى أن وجود سوق تنافسيّة كبيرة بحكم وجود 3 شركات خاصّة تشغّل قطاع الخلوي، فرض عليها تخفيض الأسعار إلى مستويات تؤمّن عنصر التنافسية بالتوازي مع تحقيق هوامش ربحية معقولة.
منذ العام 2018 وحتى نهاية العام 2021 انخفض الناتج المحلي في لبنان بنسبة 60.5% (من 55.3 إلى 21.8 مليار د.أ) وفقاً للبنك الدولي، فيما حقّق نمواً طفيفاً في الأردن وارتفع من 43 إلى 45 مليار د.أ. بالتالي، تطبيق نسبة الانخفاض نفسها على متوسّط الدخل المُحقق من المشتركين في لبنان (ARPU) يؤدّي إلى انخفاضه من 29 إلى 11.5 د.أ، في حين أنه بات يساوي فعلياً نحو 2.2 د.أ نتيجة انهيار سعر الصرف (في حال احتسبنا سعر الصرف على 20 ألف ليرة)، بالمقارنة مع 8 د.أ في الأردن.
لكن ماذا لو رفع سعر دولار الاتصالات إلى ما يتراوح بين 9 آلاف و20 ألف ليرة كما هو متداول؟
سوف يؤدّي رفع سعر دولار الاتصالات إلى 9 آلاف ليرة إلى رفع الـARPU إلى 13 د.أ. أمّا رفعه إلى سعر المنصّة فيعيده إلى 29 د.أ. في الحالتين، السعر هو أعلى من المعدّل في الدول المُشابهة للبنان، وأعلى أيضاً من السعر المخفّض بالتوازي مع تراجع الناتج المحلّي (11.5 د.أ).
بحسب دراسة أعدّتها شركة S&P عن مؤشّر القدرة على تحمل تكاليف خدمات الهاتف الخلوي في 48 دولة، بلغ معدّل الأردن 4.08% وهو الأسوأ بين الدول المشمولة بالدراسة التي بلغ معدّلها الوسطي الإجمالي 1.29%. ما يعني أنه على الرغم من أن الأسواق الناشئة مثل الأردن قد يكون لديها أسعار رخيصة لخدمات الهاتف الخلوي، فإن ذلك لا يُترجم بالضرورة بقدرة أفضل على تحمّل تكاليف أعلى. هذا بالنسبة للأردن حيث الناتج المحلّي يتجاوز الناتج المحلّي في لبنان بأكثر من ضعفين، فماذا لو شملت الدراسة لبنان؟
ما الحل؟
لا شكّ أن هناك حاجة لتعديل التعرفة وبالتالي رفع أسعار الاتصالات بما يتوازى مع القدرة الشرائية للمشتركين، وفي الوقت نفسه تأمين استمرارية هذه الخدمة. إلّا أنّ أيّ توجّه لرفع هذه الأسعار من خلال آلية سعر الصرف بدلاً من تعديل تعرفة الاتّصالات وبمعزل عن خطّة لتخفيف النفقات المُضخّمة في الشركتين المشغلتين يصبح مرفوضاً، وإمعاناً في النهج السيئ نفسه الذي حكم هذا القطاع، وعبءاً إضافياً على المستهلكين، من دون أن يترافق بالضرورة مع تحسين الخدمة وزيادة المداخيل، خصوصاً إذا خفّ عدد المستهلكين والاستهلاك. ففي سوريا على سبيل المثال، لم يسهم رفع التعرفة بنسبة 100% بزيادة الإيرادات بنسبة موازية، إذ بالكاد ارتفعت بنحو 40% فقط.
إذاً، يتطلّب الأمر بداية تحسين الإنتاجية، وخفض النفقات المُضخّمة وغير الضرورية لتحقيق فوائض إضافية، وكذلك خفض النفقات التي يمكن معالجتها تقنياً بمعزل عن أسعار السوق مثل اعتماد “رومينغ وطني” لحلّ مشكلة المحطّات المتوقّفة بسبب نقص مادة المازوت، كونه يتيح لمشتركي أي شبكة باستخدام الشبكة الثانية عند انطفاء المحطّة الخاصّة بالشبكة الأولى، فضلاً عن اعتماد نظام التشارك بالمحطّات (co-location) الذي يخفّف الكلفة ويسمح بتشاركها بين الشركتين، لا سيّما أن عدد المحطّات كبير جداً ومُتضخّم بحكم طغيان المنطق الزبائني على استحداثها وتوزيعها.
أيضاً، يقتضي تقديم هذه الخدمة العامّة بالعملة المحليّة أسوة بالخدمات الأخرى المُقدّمة من الدولة والمؤسسات العامة مثل الكهرباء وخدمات أوجيرو، وبالتالي التخلّي عن إرث شاذ موروث من تسعينيات القرن الماضي عند بناء الشبكتين وتشغيلهما من قبل شركتين خاصّتين(حسب نظام ال BOT)، قضى بتسعير هذه الخدمة بالعملات الأجنبية لضمان أرباحهما بمعزل عن تقلّبات سعر الصرف في السوق. فإذا تمّ ذلك، يقتضي وضع تعرفة بالليرة اللبنانية تتناسب مع القيمة الشرائية للمشتركين وتسمح بتسيير هذا المرفق، لا تعديل سعر الدولار والإبقاء على العاهات الموروثة من الحقبات السابقة، خصوصاً أن إبقاء قانون التعرفة بالدولار وتغيير الأسعار وفقاً لسعر صرف الدولار لا يخدم الاقتصاد الوطني بل المتموّلين الطامحين إلى شراء القطاع بأرخص الأثمان. وفي حال تفاقم الأزمة الاقتصادية يمكن تعديل التعرفة مجدّداً بموجب مراسيم وقوانين صادرة عن السلطات المعنية استناداً إلى مؤشّرات علمية واقتصادية.