سرديات مختلفة حول “رسالة صفا لبيطار”


2021-10-04    |   

سرديات مختلفة حول “رسالة صفا لبيطار”
جدارية بأسماء شهداء فوج الاطفاء

نقل الصحافي إدمون ساسين على تويتر بتاريخ 21 أيلول مضمون رسالة نسبها لمسؤول لجنة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا ونقلها وسيط منه للمحقق العدلي القاضي طارق بيطار، مفادها أنّه “واصلة معنا منك للمنخار، رح نمشي معك للآخر بالمسار القانوني وإذا ما مشي الحال رح نقبعك.” وأوضح ساسين أن إجابة بيطار كانت: “فداه، بيمون كيف ما كانت التطييرة منو”. وقد تبيّن فيما بعد أن الوسيط هي مراسلة تلفزيون ال بي سي لارا الهاشم، وأن الحديث جرى في سياق زيارة قام بها صفا لعدد من كبار القضاة في قصر العدل في بيروت.

وأوضحت الهاشم في حديث لها في 26 أيلول، في برنامج “صوت الناس” على “ال بي سي”، أنّها التقتْ صفا بعد خروجه من الاجتماعات مع القضاة، فبادرها بالقول “إذا شفتي الريس بيطار بدي حملك رسالة”. وأكّدت أنها لم تغيّر حرفاً بالرسالة. وأضافت إنها ليست من “القنوات السرية” لوفيق صفا، وأنّه لو أراد إبقاء الكلام سرياً “لما حمّلني إيّاها”.  وكانت الهاشم قد ألمحتْ إلى انزعاج حزب الله من القاضي من دون ذكر الرسالة في تقريرها لل “ال بي سي” الحاصل في يوم زيارة صفا وقبل يوم من انتشار تغريدة ساسين. وقد أشارت تحديدا في تقريرها إلى “امتعاض الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله من أداء المحقّق العدليّ تُرجم بزيارة لرئيس جهاز وحدة الإرتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا إلى قصر عدل بيروت”، متساءلةً حول تزامن الزيارة ومواضيع عدّة كطلب إحضار رئيس الوزراء السابق حسان دياب ومذكّرة توقيف بحق الوزير السابق يوسف فنيانوس غيابياً، وسقوط الحصانة النيابيّة إثر نيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثقة”. ثمّ أشارت إلى أنّ “الأهم” أن الزيارة حصلت “بعد ساعات من العثور على نيترات في إيعات نسبة النيترات فيها 34.7%”. ولفتت إلى ريبة حزب الله من هذه الحادثة لاعتبارات تتعلق ب “محاولة تورطيه عبر اختيار مادة مطابقة لتلك التي فجرت المرفأ وزرعها في مستودع في إيعات داخل بيئته”.

وكان النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات طلب يوم نشر التغريدة من القاضي بيطار إعداد تقرير حول ما تمّ تداوله. فأكّد القاضي مضمون ما نقل ولم يصدر أي نفي له لا عن صفا ولا عن حزب الله.

فور نشر الرسالة، انطلق جدل بشأنها قام على ثلاث سرديات مختلفة:

وفي حين تتلخص السردية الأولى في التركيز على مبرارت هذه الرسالة وقوامها وجود هواجس بأن التحقيق يهدف إلى استهداف حزب الله (وهو ما صاغه بوضوح الوزير السابق وئام وهاب بقوله “بدك تشوف ليش الرسالة”)، تتلخّص السرديّة الثانية في استخدام الرسالة كسلاح ضمن الهجوم السياسي ضدّ حزب الله. وقد انبنَتْ تاليا هاتان السّرديّتان على سرديّات سابقة متصلة بالهواجس والخصومات السياسيّة على نحو يسهم في زجّ القضية برمتها ضمنها بمعزل عن ابعادها الحقوقية والاجتماعية الأخرى. وهو أمر زادتْ مخاطرُه تبعاً للموقف الذي عبَّر عنه عدد من النوّاب في مجلس الشّيوخ الأميركي وطالبُوا فيه الحكومة اللبنانيّة بالحفاظ على سلامة القاضي بيطار مؤكّدين نزاهته ومندّدين بدور حزب الله في الدفع بقرار تعليق هذا التحقيق. وقد أتى هذا البيان ليعطي مادة إضافية للمنددين بتسييس التحقيق أو التدخل الأجنبي فيه لاستهداف حزب الله، مع ما يستتبع ذلك من ردود أفعال من خصوم هذا الأخير.

وفي موازاة هاتين السرديتين، برزت سرديّة ثالثة تناولت الرسالة من زاوية أنها شاهد جديد على ممارسات الإفلات من العقاب والتعرّض لاستقلال القضاء، وهي سرديّة يُخشى أن يزيد خفوتها بعد بيان نواب الكونغرس وما أثاره من تشنّج وتسييس إضافيين.

 

السرديّة الأولى: “الرّسالة” منعاً لاستهداف حزب الله 

بعد انتشار الخبر، لم يشأْ صفا أو حزب الله التعليق عليه. أما مُناصرو الحزب فعمدوا إلى تنظيم حملات عدّة بدأت بنفي الخبر ووضعه في خانة الافتراء عليه وذلك في سياق الاستهداف المتواصل للمقاومة التي يمثلها. ولكن سرعان ما انحسر إنكارهم لصحة الخبر ليتم التركيز على الدوافع التي قد حدتْ بصفا للقيام بما قام به وذلك ضمن سرديّة تكاد تبرر الوسيلة أيا تكن بالغاية النبيلة التي هي الدفاع عن المقاومة.

وعليه شُنّت في البداية حملة إعلامية دفاعاً عن صفا وتهجماً على القاضي بيطار والصحافييْن إدمون ساسين ثم لارا الهاشم تحت “هاشتاغ”: (#وفيق_صفا ) (#طربوش_شيا_ونيترات_جعجع) (#خبرتني_لارا)… وعلى سبيل المثال غرّد الصحافي في قناة المنار عباس فنيش مشكّكاً بصحّة خبر رسالة التهديد، قال “#حزب_الله بعزّ اشتباك المحكمة الدولية معو ما حكي هالكلام. واتهم بيطار بالتسييس: “أوهام ما بتذكّر إلا بشهود الزور وزهير الصديق”. وتوجّه فنيش إلى ساسين “قلو لمصدرك ما يلعب بدمّ الشهدا!”.

وقد جاء وهّاب ليعبّر عن السّردية التبريريّة خلال برنامج “صوت الناس” على “ال بي سي” في 26 أيلول. فبعدما أكّد وهّاب على جدّية الصحافيين ساسين والهاشم بما يتميّز عن التهجم ضدهما والتشكيك بروايتهما، أضاف: “يمكن صار في رسالة معينة”، وتابع “هلق بدك تشوف ليش الرسالة؟” مُوحياً أنها قد تكون عملا استباقيا من حزب الله تفاديا لمفاعيل مؤامرة تُحاك ضدّه. وهذا ما عزّزه بقولِه أنّ “أخذ القضيّة إلى إتهام سياسي ليس له مبرّر أو مصداقيّة يأخذ البلاد إلى انفجار كبير”. في السياق نفسه، تحدّث الوزير وئام وهّاب في المقابلة نفسها، عن تغريدةٍ سابقةٍ له عمد إلى حذفها بخصوص “حسن قريطم”، ومفادها أنّه انهار داخل السّجن وعُرضَ عليه تغيير إفادتِه مقابل إخلاء سبيله. ومن دون أن يؤكد وهّاب مضمون التغريدة حول “قريطم”، ألمَحَ إلى إمكانية حصول تدخّلات من سفارات أجنبيّة لحمله أو حمل أشخاص آخرين على تغيير إفاداتهم. ومن دون أي توضيح لترابط السياق، استجلب وهّاب قضيّة النيترات المضبوطة مؤخّراً، متحدّثاً عن “سفارات تعمل على هذا الصعيد”. وقال أنّ حزب الله “استغرَبَ زجَّ اسمه رغم أنّ كلّ المعلومات تُشير إلى أن لا علاقة له بهذا الموضوع”.

وفي الاتّجاه نفسه، تحدّث الصحافي رضوان مرتضى في فيديو نشره على قناة “يوتيوب” متحدّثاً عن ثلاثة أسباب دفعتْ صفا إلى زيارة العدليّة ولقائه أربعة من القضاة: إثنين يتعلّقان ب”نيترات بعلبك”، وثالث يتعلّق بانفجار مرفأ بيروت وما أثير من إشاعات حول ضغوطات على رئيس لجنة إدارة واستثمار المرفأ حسن قريطم. ورغم تأكيد عديدين (منهم مرتضى في برنامج بانوراما على قناة المنار)  وجود معطيات تشير إلى أنّ شحنة النيترات هذه ليست من شحنة النيترات ذاتها التي انفجرت في المرفأ، انبنتْ حولها حملاتٌ على وسائل التواصل الاجتماعي تأكيدا على فرضيّة استهداف “حزب الله” على اعتبار أنّ الشحنة جرى نقلها إلى منطقة تابعة ل”البيئة الشيعية” على حدّ التعبير المستخدم. كما اقترن الحديث عن هذا الاستهداف بتشكيك ببيطار على خلفية أنه لم يضع يده على القضية. وهكذا ربطت السردية بين ما قيل عن “استهداف للبيئة الشيعية” وبين التحقيق في قضيّة المرفأ. وربما كانت تلك محاولة جديدة لاستجرار القاضي إلى التجاذبات الإعلاميّة.

وقد أتى كلام الإعلامي فيصل عبد الساتر لموقع “سبوت شوت” أكثر تعبيرا عن مضمون هذه السرديّة. فبعدما اعتبر أنه “لا نستطيع أن نؤكّد أن التهديد حصل”، قال أن “حزب الله ليس وحده من أبدى إنزعاجه مما يقوم به المحقق العدلي في قضيّة تفجير مرفأ بيروت”. وأضاف “لقد سمعنا الكثير من التصريحات من كثير من المرجعيات، فلماذا لم يتحدّث أحد عمّا قامت به بعض المرجعيات السياسيّة والدينيّة بما بتعلّق بهذا الأمر”.

وفي سياق مختلف، لا بدّ للإشارة إلى موقف تبريري ضمني للرسالة من قبل المفتي أحمد قبلان، والذي بدلاً من التنديد بها هاجم القاضي بأسلوب تهويلي. قال “بلدنا لا يتحمل ديتليف ميليس جديداً”. وفي 27 أيلول، شنّت جيوش إلكترونيّة حملة منظمة على القاضي بيطار تحت هاشتاغ (#البيطار_بدو_غيار) كرّرت فيها عبارات مثل “البيطار قاضي على التحقيق”، مع تداول مناشير “بوستر” تتهم القاضي بالاستنسابية وتسريب التحقيق والتبعيّة إلى جهات خارجيّة، وقد عبّر الكثير من هؤلاء المغردين عن ولائهم لحزب الله. وهنا، خلافاً لمضمون الدّفاع السابق عن صفا بأنّه لم يوجه أي رسالة، أتى مضمون الهاشتاغ الداعي إلى تغيير القاضي متوافقاً مع مضمونها “رح نقبعك”، والتي تعني في أقل تقدير إرادة حازمة في تغيير القاضي.

وقد تعزّزت هذه السردية تبعا لصدور البيان المنسوب لنواب أميركيين، وبخاصة بعدما اعتبره النائب حسن فضل الله “اعتداءً سافراً على سيادة لبنان” و”تدخّلا مكشوفا في هذه التحقيقات، لفرض إملاءات على القرارات القضائية”. وعليه، اعتبر فضل الله أنّ البيان الأميركي يؤكّد بحدّ ذانه وجود تدخّل أميركي مباشر في هذا الملف “لتوظيفه في إطار تصفية حسابات أميركية في الداخل اللبناني مطالباً ب “إعادة التحقيقات في انفجار المرفأ إلى مسارها الوطني الصحيح دستوريا وقانونيا”. فكأنه بذلك يبرّر بصورة رجعية رسالة صفا بموقف نواب الكونغرس. وهذا ما تعزز بانتشار هاشتاغ آخر، (#الأميركي_مغطي_بيطار) ومفاده أنّه “لا يمكن عزل بيطار لأنه مغطى من الولايات المتحدة”. فكأنّما “قبع” بيطار بات أمرا عاديا لم يعد يحتاج إلى أي تبرير وأن المشكلة لم تعد في إرادة قبعه أو التلويح به بل باتت تكمن في عدم القدرة على ذلك.

 

السرديّة الثانية: التّهديد يؤكّد تورّط حزب الله

تذهب السرديّة الثانية في اتّجاه يناقض تماماً السرديّة الأولى كما سبق بيانه. ففي حين استندتْ الأولى على تبرير الرسالة باستهداف حزب الله، تأتي السردية الثانية لتستخدم هذه الرسالة والتي اعتبرتها تهديدا بينا في خطابها الاتهامي المعتاد ضدّ حزب الله. وقد ذهبت هذه السردية التي ساقتها بشكل خاصّ القوات اللبنانية إلى جانب بعض القوى الأخرى، إلى حدّ ترسيخ ثنائية حول التحقيق بين القاضي بيطار ومؤيّديه من جهة وحزب الله ومؤيّديه من جهة ثانية.

هذا ما نستشفه بشكل خاص من تغريدة النائب فادي كرم والتي تحدّث فيها عن انقسام لبنان بين طرف يمثله القاضي بيطار وطرف يمثله “الحرس الثوري الإيراني”. وغرّد النائب عماد واكيم “القاضي بيطار فضح من يدعون أنهم رجال دولة. ينتقدون حزب الله خلسةً ويداهنونه جهاراً”.

بالمقابل، غرّد زعيم التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط “لا ينطقون إلا بالتهديد والوعيد. يا أهل ما يسمى بالممانعة، أذكركم بأن قبل أن تحضر جحافلكم كان الحزب الإشتراكي ولاحقاً الحركة الوطنيّة يواجه إسرائيل”. وغرّد النائب سامي الجميّل قائلاً “كل مرة بيظهر إسم #حزب_الله بتحقيق بجريمة، بحاولوا يقتلوا القضية لتندفن مع الضحايا… المواجهة مستمرة.” كما اعتبر اللواء أشرف ريفي في تغريدة أنّ “التهديد هو إعلان عن مسؤولية حزب الله عن جريمة العصر”.

وانعكستْ هذه السرديّة أيضاً في عناوين بعض الصحف والمواقع الإلكترونيّة. فقد كتب نذير رضا على موقع “المدن” في 21 أيلول “هي حرب بين البيطار وحزب الله، إذن، تخوض “أل بي سي” بشكل أساسي هذه الحرب بالوكالة عن البيطار. أما الحزب، فيخوضها بالمباشر.” كما كتبت جريدة “نداء الوطن” في 23 أيلول عن: “… تصدر حزب الله جبهة التصدي للمحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت بدخوله بالمباشر على خط ترهيب القاضي طارق البيطار…”.

 

السرديّة الثالثة: كيف يحمي المجتمع استقلال القضاء؟

مقابل الحملات المُشار إليها، لاقى القاضي حملة تأييد ودعم من قبل المواطنين على وسائل التواصل الإجتماعي، وكان هناك مجموعة مواقف داعمة من أهالي الضحايا إلى ائتلاف استقلال القضاء وبعض القوى الأخرى.

أثار خبر رسالة صفا أهالي الضحايا. نفذوا وقفة احتجاجية أمام قصر العدل في بيروت في 24 أيلول، دعماً لبيطار، طالبوا بتأمين حماية له ودعوه إلى الامتناع عن استلام طلب الردّ مثلما امتنع المحامي العام التمييزي غسان خوري عن تبليغه دعوى الارتياب المشروع التي قدمتها نقابة المحامين بحقه. كما عبّروا عن غضبهم ضدّ القوى السياسية ورجال الدين الذين يؤمنون الحماية السياسية والطائفية لكلّ من يتم استدعاؤه إلى القضاء.

كما عبّرت الكثير من قوى 17 تشرين إضافة إلى نواد طلابية وإعلاميون وفنانون وناشطون عن تضامنهم مع القاضي. وتفاعلت الحملة أكثر بعد تسلّم القاضي طلب ردّ الإتهام من قبل الوزير السابق نهاد المشنوق والذي أدى إلى تعليق التحقيقات.

أخيرأ، أصدر إئتلاف استقلال القضاء بياناً عبّر فيه عن غضبه من “تعليق التّحقيقات في إحدى أخطر الجرائم التي ألمّت بلبنان في تاريخه الحديث” والذي حصل بعد نشر “الرسالة”. وقد حمل البيان عنوانا معبّرا عن هذه السردية: “كي لا يحكمنا نظام الإفلات من العقاب”. وفي حين ذكّر البيان التصعيد الحاصل في الخطاب ضدّ القاضي بيطار ومحاولات فبركة ارتياب مشروع بحقّه منذ 2 تموز، فإنه رأى أنّ التصعيد بلغ أوجّه مع الرسالة المنسوبة لصفا والتي يفهم منها نيّة بكفّ يده من خلال المسار القانوني أو من خارجه (قبعه). وبدا واضحا من البيان أن هذه الرسالة تشكل امتدادا لنظام يرفض أي محاسبة وبأشكال مختلفة بمعزل عن هوية القوى السياسية المهيمنة عليه. وقد انتهى البيان بالتحذير من أن تُؤدي الخطوات المتخذة إلى “مزيد من الانهيار على صعيد القضاء والأهم على صعيد حقوق سكّان لبنان ومواطنيه في العدالة”. فالمسألة لا تتصل بكرامة قاضٍ إنما “بكرامة المجتمع برمّته”.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أحزاب سياسية ، عدالة انتقالية ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني