زلزال ديمقراطيّة فتيّة


2021-12-01    |   

زلزال ديمقراطيّة فتيّة
رسم عثمان سالمي

خلال السنوات التي أعقبتْ تحرُّر تونس من نير الدكتاتورية، ساد اعتقاد شبه ساذج أنّ النظام الديمقراطي بات حالة دائمة لا رجوع عنها. وبمعزل عن تقييمنا لإجراءات 25 جويلية، فإنّها ترشح عن ميزة ليس بوسع أحد أن ينكرها وهي أنّها أعتقتْنا من هذا الاعتقاد وأعادت تذكيرنا بأنّ ديمقراطيّة تونس لا تزال فتيّة وحديثة العهد، وأنّ إنقاذها من المخاطر التي تهدّدتها وتتهدّدها يتطلّب جهوداً مجتمعية منتظمة وهادفة. وهذه المخاطر لم تكشفها مشهديّة الدبّابة التي أغلقتْ باب البرلمان وما تعكسُه من جبروت وقوّة ولا حالة الاستثناء المتمادية التي يُخشى أن تصبح القاعدة وحسب، إنّما أيضاً مشهديّة الحبور الذي عبّر عنه عشرات آلاف المواطنين الذين هتفوا لرئيس الجمهوريّة قيس سعيِّد وهم يرشقون الأحزاب التي انتخبوها بوابل من الغضب. ولم يخرق هذا الحبور العامّ إلا بعض الأصوات القليلة التي بدتْ بمثابة أصوات نشاز سرعان ما اصطدمتْ بكمّ من الرفض والتخوين.

ماذا حصل؟ كيف سقط صرْح الديمقراطيّة في يوم وليلة؟ أين اختفتْ المنابر ومنظّمات المجتمع المدني التي كانت تهتُف لمسار الانتقال الديمقراطي وتعلن الاستراتيجيّة تلو الأخرى بهدف تحقيقه؟ هل يكون إعلان شخص (الرئيس قيس سعيِّد) تفرّدَه بالسلطة خارج أيّ إطار دستوري جزءاً من هذا المسار أو تصحيحاً له، أم أنّه أقرب إلى إعلان بدء مسارٍ معاكسٍ تماماً. مسار يُخشى أن ينتهي إلى نقض كلّ ما تحقّق خلال العقد الأخير وعودة حكم الفرد؟ وفي حال صحّ ذلك، كيف يصفّق مَن عمل على إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي لمَن يعمل على إرساء مسار نقيض له؟ كيف يصفّق من جهدوا في وضع معايير الانتخابات الديمقراطية لمَن قرّر تجميد البرلمان وإغلاقه، بعدما أعلن عن تصوّر خاصّ تنتفي فيه الأحزاب ومعها ديمقراطيّة الانتخابات في موازاة نظام رئاسوي يخلو من أيّ توازنات أو ضوابط؟ كيف يصفّق مَن جهدوا مِن أجل استقلال القضاء لمَن أعلن نفسه رئيساً للنيابات العامّة، قبل أن يتراجع ليعلن مجدّداً رغبته في ترؤّس المجلس الأعلى للقضاء بعد إعادة تكوينه؟ وكيف يرحّب بالحدث من قضى سنوات يناضل من أجل العدالة الانتقالية، بخاصّة تحت تسمية “مانيش مسامح” حين يعلن سعيِّد تصوّره الخاصّ للصلح الجزائي الذي يتعدّاه من حيث الخطورة؟ كيف يرحّب بالحدث مَن جهدوا في إقرار الحرّيّات الفردية والعامّة وإخضاع أيّ تقييد لها لمبدأيْ الضرورة والتناسب حين يتّخذ الرئيس قرارات تمسّ من هذه الحرّيّات من دون أيّ تعليل أو سند قانوني، كما حصل في قرارات تحجير السفر أو الوضع تحت الإقامة الجبرية؟ وكيف يرحّب بالحدث من استبشر باللامركزية وانتخاب السلطات المحلّية بعدما أعاد سعيِّد شؤون البلديّات إلى وزارة الداخليّة؟ كيف يصفّق للحدث مَن خاضوا معارك مكثّفة في هذه المجالات كافّة، كيف تراهم يصفّقون لإجراءات تكاد تنسف كلّ ما انتصروا له وانتصروا أحياناً في تحقيقه؟ هل هو إقرار بأنّ الرغبة بالديمقراطيّة والأهداف التي ناضلوا من أجل تحقيقها لم تكن إلّا نزوة عابرة حان تجاوزها، أم هو انعكاس لاعتقاد لا يقلّ سذاجة بأنّ الداء الذي أعاق ويعيق مسار الديمقراطيّة يُعالَج (يُتصحَّح) بجرعة من حكم الفرد، أي بالتي كانت هي الداء، أم أنّه تسليم بأنّ تجربة الديمقراطيّة فشلت وآن أن نعود إلى حكم الفرد الواحد؟

وما زاد هذه التساؤلات إلحاحاً القراراتُ اللاحقة للرئيس سعيِّد الذي وسّع تدابيره الاستثنائية لتصل إلى مستوى الاستحواذ على سلطة التشريع، وتأخذ مرتبة أعلى من الدستور في موازاة تحريرها من أيّ مدّة زمنية، وأيضاً الانغماس في محاكمة الخصوم السياسيين الذي بلغ أوجه مع إصدار مذكّرة جلب دولية بحقّ الرئيس السابق منصف المرزوقي على خلفيّة تصريح إعلامي، ساند فيه عدم انعقاد القمّة الفرنكفونية في الظروف السياسية الحاضرة في تونس. فكان أن اتُّهم بالخيانة. ففي ظلّ إجراءات كهذه، ما كان هاجساً حول عودة حكم الفرد بكلّ ما يقترن به، وبخاصّة لجهة تراجع الحرّيّات العامّة وقمع المعارضة السياسية، بات واقعاً تُثبته إجراءات شبه يومية ومتصاعدة.

هذه هي الأسئلة التي أقلقَتْنا وحّدَتْنا لإنجاز هذا العدد، في مسعى لتحقيق أهداف ثلاثة:

أوّلاً، تجربة العشريّة بحلوها ومرّها

الهدف الأوّل، يقوم على الاستجابة للتساؤلات الملحّة التي طرحتْها 25 جويلية لتقييم تجربة العشريّة المنصرمة، وأداء مختلِف المؤسّسات والهيئات الفاعلة فيها. وذلك بهدف فهم العوامل التي تسبّبت بأزمة الديمقراطيّة، وتحديداً الأسباب التي دفعتْ العامّة إلى الانفكاك عنها بما جعلَها شبه يتيمة، بعدما كانت موضع احتفال طوال عشر سنوات. فهل حقّاً فشلتْ تونس في تجربة الديمقراطيّة، أو على الأقلّ في تحصين منعتها أو وضعها على السكّة السليمة؟ أم أنّ قوى مناوئة لها نجحتْ في الانقضاض عليها مستفيدة من الانقسام السياسي والأزمة الاقتصادية، وهي لمّا تزال فتيّة لم تكتسب مناعة كافية بعد؟ ويُؤمل أن يكون هذا التقييم موضوعياً فلا يُغيّب لا نجاحات المرحلة العابرة فنُضيّع الكثير من المكاسب التي تحقّقت، ولا إخفاقاتها أو دعساتها الناقصة فنُضيّع إمكانيّة تطوير الاستراتيجيّات والخطوات المُتَّبعة توخّياً لنظام أكثر ديمقراطيّة ودمجاً.

وما يزيد من فتح هذه الورشة إلحاحاً اعتمادُ سرديّة رسميّة تقوم أساساً على تبخيس كلّ ما أُنجز خلال العشريّة الماضية، إلى حدّ وصفها بعشريّة السنوات العجاف. وقد هدفتْ هذه السرديّة أساساً إلى تبرير إجراءات سعيِّد من دون أيّ أسافة على ما تمّ نقضه وإطلاق يديه في إجراءات مشابهة مستقبلاً، تؤدّي إلى نقض مزيد من المكاسب من دون أيّ ممانعة.

ثانياً، كلب حراسة في ظلّ سكرة شعبوية

أمّا الهدف الثاني، فيتمثّل في ضرورة رصد أعمال السلطة الجديدة وتوجّهاتها بعدما تمّت مركزتها في شخص رئيس الجمهوريّة بدرجة كبيرة وتحليلها وتنبيه الرأي العامّ حيال مقاصدها أو مخاطرها عند الاقتضاء. ومن المهمّ أن يشمل الرصد هنا ليس فقط ما تفعله السلطة أو تخطّط له، بل أيضاً ما قد تهمله أو تتقاعس عن فعله كما الاستحقاقات المالية والاقتصادية التي يُخشى أن يؤدّي سوء التعامل معها إلى أزمة مدمِّرة. وما يزيد من الحاجة إلى ذلك تعطيلُ الضمانات والتوازنات المؤسّساتية، وفي مقدّمتها مبدأ الفصل بين السلطات وتماهي الإعلام الرسمي المتلفز مع مجمل مواقف سعيِّد بمنأى عن أيّ مقاربة نقدية. ففي ظلّ واقع كهذا يقارب وضع السكرة الشعبويّة العارمة، تزداد أهمّيّة دور الإعلام البديل والمنظّمات الحقوقية في أداء دور كلاب الحراسة watch dog دفاعاً عن المجتمع وناسه، على أمل أن تنجح الأصوات المعترضة في الحؤول دون استتباب نظام الفرد واستقراره على أنقاض كثير من الديمقراطيّة… والدولة.

ثالثاً، بالنسبة إلى الغد، ماذا؟

أمّا الهدف الثالث، وربّما هو الأهمّ، هو أن نستشرف انطلاقاً من التقييم والرصد ما يمكن لمختلف المؤسّسات والهيئات أو يجب عليها فعله مستقبلاً، وبالأخصّ في حال تسنّى لتونس أن تعيد العمل بنظامها الديمقراطي. فهل نعود لنكرّر ما فعلناه بعد 14 جانفي في المجالات المختلفة، أم أنّ الدروس التي علّمتنا إيّاها تجربة الديمقراطية وأزمة تيتّمها تفرض علينا انتهاج طرق وتحديد أهداف أو أولويّات مختلفة بدرجة أو بأخرى في هذا المجال أو ذاك؟

هذه هي الأهداف الثلاثة التي حدَتْ بنا إلى نشر هذا العدد الذي جمعْنا فيه مقالات نُشرت على عجل في خضمّ التحوّلات الأخيرة، إلى جانب مقالات  حُرِّرت في أوقات لاحقة. ونحن لا ندّعي هنا أنّنا قاربنا مجمل المسائل ذات الصلة أو حتى المسائل التي قد تكون الأكثر صلة بالحدث، ولا أنّنا أعطينا أجوبة كانت دائماً مقنعة أو صائبة. فجلّ ما نقدّمه هنا نقطة انطلاق لورشة نتمنّاها واسعة للتفكير والنقاش، فلا نغرق في المسلّمات ولا نغفل عن المخاطر. وهي ورشة تزداد فرص نجاحها بقدر ما تزداد الطاقات المشاركة فيها.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، حرية التعبير ، حرية التنقل ، عدالة انتقالية ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني