ديوان المحاسبة يفضح التعاقد المشبوه: جنتْ على نفسها “انكريبت”


2023-09-01    |   

ديوان المحاسبة يفضح التعاقد المشبوه: جنتْ على نفسها “انكريبت”
رسم رائد شرف

لم يكتف ديوان المحاسبة بالتأكيد على وجوب الادعاء جزائياً على شركة “انكريبت”، التي تدير الخدمات الإلكترونية في هيئة إدارة السير، بسبب توقفها عن العمل وتعريضها المالية العامة لخسائر كبيرة تضاف إلى إضرارِها بمصالح المواطنين، بل ذهب إلى أصل عمليّة التعاقد التي تمّت بدون شفافية وبدون مراعاة القوانين النافذة وبأسعار مضخمة مقارنة مع الخدمات المطلوبة. حصل ذلك في متن الرأي الاستشاري الصادر عن الهيئة العامة لديوان المحاسبة (برئاسة رئيس الديوان القاضي محمد بدران، وعضوية رؤساء الغرف القضاة عبد الرضى ناصر، انعام البستاني ونللي أبي يونس المستشارة المقررة رانية اللقيس) في تاريخ 31 آب 2023 بناء على طلب إبداء الرأي الصادر عن وزارة الداخلية في 26/7/2023. 

فقد تبيّن للديوان أن العقد الذي أنجز في العام 2015 وبدأ العمل به في العام 2016 يتضمّن أكلافاً مرتفعة للخدمات المقدمة “ما يستوجب إعادة دراسة الملفّ مالياً في إطار الرقابة على الأداء وعلى الحسابات”. فالشركة تقاضتْ 184 مليار ليرة قبل الأزمة، أي ما يعادل 123 مليون دولار. وبما أن كلفة تركيب لوحات السيارات بلغت خلال العام الواحد ما يقارب 10 مليارات أي حوالي ثلث القيمة السنوية للصفقة، وإذا أضيفت الكلفة غير الدقيقة لخدمات المكننة وتأمين التجهيزات المطلوبة، فقد تلامس الكلفة 50% من قيمة الصفقة عن السنة الأولى وحدها (ما يعني أن الإدارة تدفع ضعف ثمن الخدمات المقدّمة وقبل إنجازها حتى). الأمر الذي اعتبر الديوان أنه يستوجب التدقيق في الملف الراهن من حيث الكلفة ومدى اعتدال الأسعار (الأسعار المعقولة لهكذا خدمات). علماً أن الديوان كان أصدر قراراً قضائياً في 19/7/2022 خلص بموجبه إلى تغريم رئيس وأعضاء مجلس إدارة الهيئة نتيجة المخالفات المرتكبة في مشروع التلزيم.

الدولة رهينة “انكريبت”

في الملفّ الراهن، حسم الديوان الخلاف بين وزارة الداخلية – هيئة إدارة السير والشركة المُشغّلة لجهاز المعلوماتية في هيئة إدارة السير والتي تصدر دفاتر السوق ودفاتر سير المركبات وما يسمّى اللوحات الآمنة واللاصقات الإلكترونية. وقد أكّد الديوان في رأيه المشار إليه أعلاه المؤكّد الذي تمثّل في اعتبار توقيف العمل في مصلحة تسجيل السيارات بمثابة الجريمة التي ينبغي معاقبة منفذها. إذ ليس تفصيلاً أخذ المواطنين ومصالحهم رهائن في أيّ خلاف ذي طابع قانوني بين أيّ متعهد والدولة. فاستمرارية المرفق العام تعلو على أي مطالبة حتى لو كانت محقة، فكيف إذا كان العكس؟

هذه الاستمرارية لم تكن من أولويات شركة “” التي لم تتردّد في إقفال النافعة من خلال توقّفها عن العمل، في 10 تموز الماضي، بسبب رفضها تقاضي مستحقاتها الماليّة التي قدّرتها الهيئة بـ 60 مليار ليرة عن عامي 2021 و2022 (وفق طريقة احتساب محددة من قبل مجلس الوزراء)، وإصرارها على قبض المستحقات بالدولار النقدي، رافضة في الوقت نفسه تسليم المصلحة كلمات المرور التي تسمح بإعادة تشغيل هذه الأنظمة، وبالتالي اتخذت من المواطنين رهائن في صراعها مع المصلحة. كما حرمت الخزينة من أموال طائلة من جراء توقف خدمات النافعة. إذ أنها، بحسب ما أدلى به ممثل الهيئة أمام الديوان، “أوقفت الشركة نظام التشغيل كلياً وأطفأت الخوادم وأصبح من المستحيل إنجاز أي معاملة أو الولوج إلى النظام واستخراج أيّ معلومة منه. كذلك تعطّلت الهيئة لجهة تسجيل السيارات ودفع رسوم الميكانيك وإصدار إجازات السوق والملكية كما اللوحات. أضف إلى رفض الشركة تسليم الإدارة رموز التشغيل إلا بعد انتهاء العقد وفسخه”.

وإذا كانت وزارة الداخلية اعتمدت في تحديدها مستحقات الشركة ب60 مليار ليرة على قرار مجلس الوزراء الصادر في 14/4/2022 الذي وضع معادلة تهدف إلى معالجة تداعيات الأزمة المالية والنقدية على عقود الأشغال والخدمات العامة. علماً أن القرار الحكومي اعتمد على الرأي الاستشاريّ رقم 68/2021 تاريخ 23/12/2021 الصادر عن ديوان المحاسبة (إلغاء العقود الموقعة مع الحكومة والتي لم تعد تُناسب المتعهدين بسبب فقدان الليرة لقيمتها، مع اشتراط الحصول منهم على براءة ذمة، واستثناء عقود الصيانة والتشغيل من هذا التدبير) وعلى اقتراحات مجلس الإنماء والإعمار لآلية تحديد الأسعار الجديدة لهذه العقود. لكن الشركة اعتبرت أن القرار لا ينطبق عليها، وهو ما استدعى طلب الوزارة لرأي ديوان المحاسبة.

في الرأي الصادر عنه، اعتبر الديوان أنه اعتماداً على المادة 15 من دفتر الشروط التزم العارض بأن يأخذ على عاتقه تركيب وتجهيز وتشغيل المنتجات المقترحة. كما نصّ الدفتر على أن الصفقة تهدف إلى تحقيق نظام متكامل لإدارة عملية مصلحة تسجيل السيارات. ليخلص إلى أن هذه الأعمال تتضمّن أعمال المقاولة والكهرباء وتحديث برامج المعلوماتية وإصدار بطاقات وتقديم خدمات وصيانتها، الأمر الذي يجعل العقد الراهن واحداً من عقود التشغيل المشمولة بقرار مجلس الوزراء وبالتالي وجب دفع مستحقات الشركة حسب القرار.

العقد ينتهي في 20/9/2023

النقطة الثانية موضوع الخلاف بين وزارة الداخلية والشركة التي يملكها هشام عيتاني تتعلق بتاريخ انتهاء العقد. فالشركة تعتبر أن العقد ينتهي بانتهاء أوامر مباشرة العمل حيث أن هناك أمري مباشرة عمل لم يصدرا بعد عن الهيئة، ما يعني تجديد العقد حسب رأي الشركة سنتين إضافيتين، لكن في المقابل تعتبر الهيئة أنّ العقد ينصّ على انتهائه بعد 7 سنوات من أول إصدار لدفتر بيومتري أي أنه ينتهي في أيلول 2023.

في قراره، أوضح الديوان أنّ المادة الثانية من دفتر الشروط أشارت إلى أنّ الصفقة هي غبّ الطلب ويمكن زيادة أو إنقاص قيمة العقد بحسب احتياجات الإدارة. وقد طُلب من العارضين تحديد سعر الوحدة على أن تؤمن الحاجات بموجب طلبات شراء، وهو ما يتم تسميته في الملف الراهن بأوامر مباشرة العمل. وبما أنه بموجب شروط العقد الخاصة يحدد تاريخ العقد ب7 سنوات بعد انتهاء فترة التأهيل، وبما أن شركة انكريبت تبلغت مباشرة العمل للمرحلة التأهيلية من قبل الهيئة في 11/8/2015 وبدأت بإصدار أول رخصة سير في 21/9/2016، يتوجب احتساب المدة التعاقدية للمشروع من ذلك التاريخ بمعنى أن المشروع ينتهي في 20/9/2023 (أعطى الديوان المشروع حق الاستفادة من قوانين تعليق المهل).

الشركة ملزمة بالتعويض

نقطة ثالثة كانت طرحتها “الداخلية” تتعلّق بالخسائر الناتجة عن توقّف هذا المرفق والتي تُقدّر ب 23 مليار ليرة يومياً. فقد خلص الدّيوان إلى أن عدم تجاوب الشركة مع هيئة إدارة السير التي وجّهت إليها إنذارات عدة كي تستمر في تنفيذ التزاماتها، واستمرارها بتعطيل المرفق العام ومصالح المواطنين الأمر الذي حرم الخزينة من مداخيل مهمة تصل إلى 23 مليار ليرة يومياً يوجب على الشركة المتلكئة تعويض الدولة عن هذه الخسائر فضلاً عن ملاحقتها جزائياً، لا سيما سنداً لقانون الشراء العام في المادة الأولى والمادتين 110 (وجوب احترام معايير النزاهة والأخلاق المهنية والمواطنة الصالحة والامتناع عن أيّ ممارسة تؤدّي إلى التأثير سلباً في عملية الشراء) و112 (تنص على معاقبة المخالفين لمدة لا تقل عن سنتين وبغرامة تتراوح ما بين ضعفَي وثلاثة أضعاف المنفعة المادية المتوقّعة أو المحقّقة…)، حيث يُسأل الملتزم جزائياً عن أفعال مديريه وأعضاء إدارته وممثليه وفق أحكام المادة 210 من قانون العقوبات. لذلك دعا الديوان الإدارة إلى اتخاذ كل الإجراءات التي تؤدي إلى إعادة تسيير المرفق العام ومطالبته بالتعويضات عن كافة الخسائر اللاحقة بها (مع افتراض أن الهيئة تفتح أبوابها 3 أيام في الأسبوع، فإن العائدات التي حرمت منها حتى اليوم تُقدر ب 552 مليار ليرة)، كما ملاحقة الشركة جزائياً أمام النيابة العامة التمييزية وإحالة الملف إلى كل من النيابة العامة لدى الديوان وإلى الغرفة القضائية المختصة. وذكّر الديوان بوجوب إطلاق مناقصة جديدة شفافة لتلزيم هذا المرفق الحيوي في أسرع وقت ممكن.

لجنة نيابية لتقصي الحقائق

بالتوازي، كانت لجنة الأشغال العامة قد عقدت اجتماعاً أول من أمس (30/8/2023) خصص لمناقشة ملف “انكريبت”، وتقرر خلاله تشكيل لجنة فرعية برئاسة النائب ابراهيم منيمنة لتقصي الحقائق بهذا الملف. علماً أن منيمنة كان عقد مؤتمراً صحافياً مشتركاً مع النواب فراس حمدان وبولا يعقوبيان ونجاة صليبا وملحم خلف بعد الجلسة رفضوا فيه الابتزاز الذي تمارسه الشركة وأكدوا على وجوب إعادة فتح النافعة في أسرع وقت، ومحاسبة الشركة عن ابتزازها للمواطنين وتعطيلها أعمالهم.

تجدر الإشارة إلى أن التعاقد مع “انكريبت” في ذلك الحين لم يكن معزولاً عن الظرف السياسي المحيط. في ذلك الوقت كان صاحب الشركة هشام عيتاني بدأ يتحول إلى جهاد العرب ثان: فلئن عُرف جهاد العرب بأنه مقاول الجمهورية، فقد عرف هشام عيتاني بأنه مقاولها الإلكتروني، حيث تمكّن برعاية من نادر الحريري من الحصول على تعاقدات ضخمة في الوزارات التي كان يديرها وزراء من تيار “المستقبل”. وعليه، ارتبط اسم عيتاني وشركاته بطباعة الهويات وجوازات السفر، حيث كان الوزير نهاد المشنوق يدفع بهذا الاتجاه. وحصل عيتاني على عقد النافعة الذي يلمح الديوان إلى أنه عقد منفوخ على الأقل بضعف المبلغ المستحقّ، تمكنت الشركة من الحصول على معظمه قبل إنجاز الأعمال (123 مليون دولار). والأمر نفسه حصل مع شركة سيرتا التي يملكها عيتاني أيضاً وتعاقد معها وزير الاتصالات جمال الجراح لمدّ شبكة الفايبر، فتبين مؤخراً أنها حصلت على 150 مليون دولار (نصف قيمة العقد) بالرغم من عدم إنجازها المشروع وانسحابها منه من دون إنجاز أكثر من 15% منه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات عامة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني