حوار “المفكّرة” مع د. غسّان أبو ستّة: “شهادتي عن الإبادة الجماعية”

،
2024-01-15    |   

حوار “المفكّرة” مع د. غسّان أبو ستّة: “شهادتي عن الإبادة الجماعية”
د. غسان أبو ستة

لم يترك طبيب الجراحة التجميلية والترميم الفلسطيني البريطاني غسّان أبو ستّة غزّة وأهلها في أيّ من الاعتداءات الإسرائيلية منذ العام 2008 إلى اليوم، حيث وصل إلى غزّة في 9 تشرين الأوّل، قبل ساعات من إحكام الحصار عليها. وإلى جانب عمله الطبِّي الذي استمرّ 18 ساعة يوميًّا، انكبّ على توثيق هدف إسرائيل الممنهج في جعل غزّة مكانًا غير قابل للحياة. ولم يرصد الأسلحة الفتّاكة الجديدة فقط، بل تحدّث عن استعمال الاحتلال للجسد الفلسطيني كرأس مال استثماري تسويقي لها، مطلقًا مفهومًا مستجدًّا على الإبادة لمصطلح “أطفال من دون عائلات”، ومحو عائلات بأكملها عن السجلّ المدني.

تنشر “المفكّرة” مختصرًا عن حوارها الطويل الذي أجرتْه مع د. أبو ستّة كوثيقة هامّة على حرب الإبادة الجماعية في غزّة.

بمَ تختلف هذه الحرب عن سابقاتها؟

هذه حرب إبادة، تلك كانت حروبًا عسكرية. هذه الحرب كان هدفها القتل. والقتل يحصل على مرحلتَين: القتل المباشر، ومن ثمّ القتل عن طريق القضاء على كلّ مقوّمات الحياة في غزّة. هم يفكّكون كلّ مقوّمات الحياة في غزّة بطريقة ممنهجة وعمدًا، بشرًا ومنازل وطرقات وبنى تحتية، فضلًا عن إعدام أيّ إمكانية للعلاج، إنّها “الإبادة”.

وإذ نسأله عن الروايات المختلفة لاستهداف المستشفى المعمداني، يسارع إلى الإجابة: “الكنيسة الإنجيلية في بريطانيا هي التي تدير المعمداني. وكان إحساس الجميع أنّ إسرائيل إذا كانت ستتجنّب المساس بأيّ مستشفى فسيكون هذا المستشفى”. وعليه، يقول “بالنسبة إليّ، كان قرار الإسرائيليين بضرب المستشفى المعمداني بمثابة اختبار لمدى تجاوب المجتمع الدولي وردّة فعله تجاه قرار إسرائيل بالاستهداف الممنهج للقطاع الصحِّي”. لذا، بعد مجزرة المعمداني وتبنّي الرأي العام الغربي سرديّته حول الصاروخ الفلسطيني، بالرغم من عدم وجود أيّ أدلّة حسِّية أو منطقية، ومن دون أيّ محاولة للأخذ بأيّ من إفادات الجرحى والأطبّاء، أدرك الإسرائيلي أنّ بإمكانه الاستمرار في هجومه الممنهج على القطاع الصحِّي”. ولذا، بعد قصف المعمداني، واستشهاد 480 فلسطينيًّا، “استهدفت إسرائيل 4 مستشفيات للأطفال وصولًا إلى القضاء على كلّ القطاع الصحِّي في شمالي غزّة.

استعراض قتل الأطفال والتمثيل بهم

يعود د. أبو ستّة إلى اللحظة التي حوصر فيها مستشفى الشفاء: “توجّهت الدبّابة الإسرائيلية الأولى التي دخلت إلى الشفاء نحو أنابيب الأوكسجين وقطعتها عن قسم الولادة لقتل الأطفال الخُدّج ببطء وبطريقة استعراضية”. ويرى أنّ هذا الفعل العدواني هو استعراض تمثيلي يشكّل جزءًا أساسيًّا من العنف الإسرائيلي، ويرتبط بـ “الإيغال بالدم ومحاولة خلق الهول عند الفلسطينيين”. ولذا، يرى د. أبو ستّة أنّ ترك جثث الأطفال الخُدّج في مستشفى النصر علانية، “لم يكن خطأ، بل جاء عمدًا في صلب استعراض القتل عينه”.

وفيما هو يتحدّث عن الأطفال، يؤكّد أبو ستّة أنّه قام ذات ليلة في المستشفى الأهلي المعمداني “بعمليّات بتر لأطراف ستّة أطفال”. وعليه، هو يقدّر “وجود ما بين 1000 إلى 1500 طفل مبتوري الأطراف، وبعضهم بُتر له أكثر من طرف. هذا بحدّ ذاته يحتاج إلى مجهود جبّار لإعادة بناء الأجساد”.

عندما تضطر العائلة إلى فرز أبنائها: من يخضع للعملية؟

مع بداية انهيار القطاع الصحِّي، أضحى الفرز بين المرضى “يزداد صعوبة كلّ يوم”. فقد “أصبح الفرز نوعًا من الاختيار الشيطاني لمن يعيش ومن يموت”، يقول بأسًى. وعندما حوصِر مستشفى الشفاء وأصبح المستشفى المعمداني هو الوحيد الذي يستقبل جرحى، وكان يحتوي على غرفتَي عمليّات فقط “وكنّا جرّاحَين اثنَين فقط، أنا والدكتور فضل نعيم، جرّاح عظام، ثمّ انضمّ إلينا جرّاح عام، صار القرار بالاختيار بين 500 جريح ينتظرون في المستشفى، فمن تختار أن تجري له عملية على مدى اليوم؟ كان الأمر صعبًا، وبلغ ذروته عندما قُصف مسجد دغمش في حارة الصبرا”. يومها، أُحضرت عائلة دغمش بأكملها مع الأقارب: “هنا، صارت العائلة  نفسها تُشارك في عملية الفرز: خُذ هذا، هذا لا تأخذه، هذا لديه 17 ولدًا، وهذا ليس لديه إلّا ولدان”.

عندما انتقل د. أبو ستّة من شمال القطاع إلى جنوبه، اكتشف “اضطرار الأطبّاء إلى القيام بالفرز نفسه بسبب النقص الحادّ في المعدّات والأدوية”. وعليه، “يتحوّل الجرح، الذي يمكن إنقاذ الحياة عبر علاجه، إلى قاتل، وكذلك يصبح الجرح الذي لا يؤدّي بطبيعته إلى إعاقة دائمة”. وهذا كلّه، غير الموت بسبب الأمراض المزمنة الذي يحدث حاليًّا، كمرض السكّري والربو وغسيل الكلى، “كلّها أمراض يُمكن علاجها، ولكنّها تحوّلت إلى أمراض قاتلة بسبب انقطاع علاجاتها”.  

أجساد المصابين تخبر عن أنواع الأسلحة

إذ يسترجع د. أبو ستّة أنواع إصابات رآها خلال 43 يومًا من عمله في قطاع غزّة، تراه يقرأ “من الجروح وأنواع الإصابات الكثير من تفاصيل الحرب والاستخدام المفرط للأسلحة”. يتحدّث عن “قنابل الـ 200 رطل، و1500 كيلو التي أُلقيتْ على مبانٍ سكنية، ما تسبّب في إبادة ثلاثة أجيال من العائلات”. بعد بضعة أيّام من العدوان، “جاءنا المُصابون بحروق صعبة جدًّا، تغطّي أكثر من 50% من الجسم من دون شظايا أو كسور، إنّها القنابل الحارقة، وقنابل بموادّ مشتعلة، تنفجر وتتحوّل إلى كرة نار تحرق الناس. وعندما انهار مستشفى الشفاء، كان هناك 100 مصاب بهذا النوع من القنابل”. ثمّ عاد الفسفور الأبيض و”حروقه مميّزة بسبب مادّة كيماوية مثبتة بمعجون، تنفجر في السماء وتنفلش مظلّة كبيرة من كرات الفسفور الحارقة، حيث لا يتوقّف الاحتراق إلّا عندما ينقطع عنه الأوكسجين،  إذ تستمرّ الحروق باختراق جسد المصاب إلى أن تصل إمّا إلى الأعضاء الداخلية، أو العظم”. ويردف أبو ستّة أنّ إصابات استهداف المستشفى المعمداني أخبرتْ عن استخدام جيل جديد من صاروخ  الـ Hellfire، وهو صاروخ تضربه المسيّرات، ويتفتّت إلى شرائح حديدية، ويبتر الأجساد المصابة. يُحدث الصاروخ العادي حفرة في الأرض وينفجر، وتكون معظم شظاياه من الحصى ومن التراب وجروحه مختلفة. أمّا جروح Hellfire فحديدية من الصاروخ المتشظّي، والعدد الذي أصيب ومعاينة موقع الانفجار يدلّان على ذلك”.

مقاومة في مواجهة “عالم الموت” الإسرائيلي

في مواجهة ما يسمّيه “عالم الموت” الذي تحاول إسرائيل عبر جرائمها فرضه على غزّة وأهلها، يتحدّث أبو ستّة عن “المقاومة اليومية” وبشكل خاص عن “الكادر الطبِّي”: “مذهل أن يبقى أطبّاء وممرّضون ومُسعفون كانوا مُحاصَرين في مستشفى الشفاء لـ 10 أيّام من دون ماء أو طعام، وعندما يُطلق الإسرائيليون سراحهم، يبحثون فورًا عن مستشفى ثانٍ ليلتحقوا به. يحصل هذا بينما استشهد أكثر من 280 طبيبًا ومسعفًا وممرّضًا لغاية اليوم بطريقة ممنهجة”.

ويحرص هنا أبو ستّة على التذكير بأنّ مستشفى العودة في جباليا كان المستشفى الأوّل الذي تلقّى تهديدًا بالإخلاء (وهو كان في المستشفى حينها)، وقد اتُّخذ القرار بعدم الخضوع للتهديد وبالتالي عدم إخلاء المستشفى، وصار القرار من ثمّ بمثابة كرة ثلج، والكلّ شعر أنّه سيتعرّض، كما “العودة”، للتهديد إذا لم يكن اليوم فغدًا، وعليه تمّ تبنّي القرار ورفض الإخلاء على مستوى كلّ القطاع الطبّي في غزّة.

وهنا يوضح أبو ستّة أنّ هذه المقاومة ناتجة من ارتباط النضال الفلسطيني بالعمل الطبِّي تاريخيًّا، وأنّ الرؤية الفلسطينية لمقاومة الطواقم الطبِّية هي امتداد لمسيرة طويلة بدأت بعد نكبة 1948، وأنّ “هذه الخصوصية الفلسطينية لرؤية الصحّة كجزء أساسي من النضال ضدّ الاحتلال الإسرائيلي والإلغاء الإسرائيلي للجسد الفلسطيني تجلّت في هذه الحرب بشكل مذهل في مستشفيات شمال غزّة. ومسيرتي أنا امتدادٌ لهذا الإرث الطبِّي الفلسطيني”.

أيّ تجدّد للقضية الفلسطينية تبعًا لحرب غزّة؟

وإذ نسأل د. أبو ستّة عن رؤيته بشأن تأثيرات حرب غزة على القضية الفلسطينية، يجيب: “أنا أشبّه هذه الحرب بحرب بيني موريس (Benny Morris) الذي كتب كتابه الأوّل كمؤرّخ عن نشأة قضيّة اللاجئين الفلسطينيين، متحدّثًا عن حملات التطهير العرقي خلال النكبة، ثمّ عاد وراجع نفسه، بعد نحو عشر سنوات، واستنتج أنّ الخطأ القاتل الذي ارتكبته الحركة الصهيونية يكمن في عدم طردها الفلسطينيين من الضفّة وغزّة والجليل بالطريقة نفسها التي أجهز بها الرجل الأبيض على السكّان الأصليين في القارّات المكتشفة أو ما فعله الأتراك حينما احتلّوا مناطق يونانية. والفلسطيني الذي اعتقد من قبل أنّه يتعرّض لإبادة سياسية (Politicide) أدرك اليوم أنّه مستهدف بالإبادة الجسدية. وعليه، أرى أنّ هذا الدم في غزّة وضع كلّ “حدّوتة” منظّمة التحرير البائسة وراء ظهر الفلسطينيين، ووضعنا في أزمة تمثيل تفرض إعادة تشكيل حركة وطنية فلسطينية تحمي الناس المقاومين والإنجازات المتراكمة.

أمّا الأمر الثاني الذي كشفته هذه الحرب، فهو أنّ إسرائيل هي مجرّد ناطور ولكنّ المصلحة هي بيد الأميركي والأوروبي. وإذ يعزّز هذا الواقع من شعور الاغتراب لدى الجاليات العربية في المجتمعات الغربية، فإنّه سيولّد من جهة أخرى شرخًا اجتماعيًّا بين حكومات الغرب والجيل الجديد فيه، الذي بات يصدّق النشطاء الفلسطينيين على السوشيال ميديا أكثر ممّا يصدّق وسائل إعلامه التقليدية. هذا الجيل هو الذي يتظاهر في العالم اليوم، بمن فيه اليهود في أميركا وأوروبا، ضدّ المشروع الصهيوني والدعم الغربي له. وأرى أنّ هذا الانتفاض في شوارع الغرب سيعمّق أزمة التمثيل في هذه المجتمعات التي تدّعي الديمقراطية؛ فكلّ الجسم الاجتماعي لحزب العمّال البريطاني مثلًا مؤيّد لفلسطين، كما كلّ كوادره، بينما نجد على رأس الحزب شخصًا صهيونيًّا استأصل كلّ الكوادر، سواء اليسارية أو المؤيّدة لفلسطين بطريقة منهجية”.

نشر هذا المقال ضمن الملف الخاص بالعدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لقراءة العدد بصيغة PDF

وهو ملف مشترك مع مجلة تونس العدد 28

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، مجلة لبنان ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني