حماية الرأي المخالف في مداولات الهيئات القضائية وسيلة من وسائل التخليق


2022-12-16    |   

حماية الرأي المخالف في مداولات الهيئات القضائية وسيلة من وسائل التخليق

بعد أيام من حلول السنة الميلادية الجديدة المنتظرة وتحديدا بتاريخ 15-01-2023 سوف يدخل قانون التنظيم القضائي الجديد في المغرب حيز التنفيذ بعد أن استنفذ كل المساطر التشريعية وصدر بالجريدة الرسمية بتاريخ 14-07-2022. وقد منح  هذا القانون لنفسه مهلة ستة أشهر قبل دخوله حيز التطبيق  حتى تستعدّ المؤسسات المعنية بتطبيقه استعدادا كافيا بحكم المستجدات الجديدة التي جاء بها هذا القانون، علما أنه قطع مسارا زمنيا طويلا انطلاقا من سنة 2014 حين طرحته وزارة العدل والحريات للنقاش العامّ كمسودة أوليّة مرورا بإحالته على المحكمة الدستورية من طرف رئيس الحكومة سنة 2019 وصدور قرار هذه الأخيرة بعدم دستورية مقتضيات عدة منه وبالتالي إعادته للبرلمان لترتيب الآثار على هذا القرار  ولغاية صدوره بشكله الحالي.

ومن المستجدات الهامة التي جاء بها قانون التنظيم القضائي إقراره ولأول مرة لحقّ تسجيل الرأي المخالف في مداولات الهيئات القضائية بمختلف المحاكم المغربية بشكل رسمي. فكيف إذا تمّ تنظيم هذا الحقّ بواسطة هذا القانون؟ وما هي أهمية مساهمته في تخليق العمل القضائي المغرب؟

تنظيم الرأي المخالف في قانون التنظيم القضائي المغربي

نصّت الفقرة الأولى من المادة 16 من قانون التنظيم القضائي المغربي على أن أحكام هيئة القضاء الجماعي تصدر” بالإجماع أو بالأغلبية، بعد دراسة القضية والتداول سرّا، وتضمن وجهة نظر القاضي المخالف معللة، بمبادرة منه، في محضر سرّي خاص موقّع عليه من قبل أعضاء الهيئة، يضعونه في غلاف مختوم، ويحتفظ به لدى رئيس المحكمة المعنية بعد أن يسجله في سجل خاص يحدث لهذه الغاية، ولا يمكن الاطلاع عليه من قبل الغير إلا بناء على قرار من المجلس الأعلى  للسلطة القضائية”.

وبصدور هذه المادة، يكون التشريع المغربي قد انضمّ إلى نادي التشريعات التي  تضمن للقاضي حقه في التعبير عن رأي مخالف على نحو يخفّف من صرامة مبدأ اتخاذ القرار بالأغلبية وفق ما تقتضيه قواعد التسيير الديمقراطي في اتخاذ القرار الجماعي. ولا يؤثر وجود رأي كهذا على حجيّة الحكم القضائي تجاه أطراف الدعوى حتى ولو لم تنص على ذلك المادة 16 أعلاه، كما فعلت تشريعات أخرى كالتشريع المصري، ما دام أن ذات المادة قررت في بدايتها أن أحكام هيئة القضاء الجماعي تصدر “بالإجماع أو بالأغلبية، بعد دراسة القضية والتداول سرا”.

ويتجاذب موضوع الرأي المخالف، من الناحية التشريعية بشكل عام، اتجاهان أحدهما أنجلوسكسوني والثاني فرنسي. الاتجاه الأول يذهب بعيدا في حماية الأقلية داخل المداولات، حيث ينصّ على تضمين آرائهم في نسخة الحكم ذاته وليس فقط في محضر سري. كما أن بعض الاتجاهات منحت إمكانية الاطلاع على الرأي المخالف لكل ذي مصلحة من خلال سجلات توضع رهن إشارتهم بمقر المحكمة مصدرة الحكم. أما الاتجاه  الثاني الذي سار على نهج التشريع الفرنسي فيطبعه الاعتماد على مبدأ السرّية في المداولات وبالتالي يقطع الطريق أمام أي أمل لمعرفة تفاصيل مداولات الهيئات القضائية على الأقل في الجانب المتعلق بنتيجة القرار القضائي وتعليلاته. 

ويلاحظ أن المادة 16 من قانون التنظيم القضائي المغربي ، نحت منحى وسطيا بين الاتجاهات أعلاه، حيث حافظت على مبدأ سرية المداولات كما كان عليه الأمر سابقا ومنحت فقط إللقاضي صاحب الرأي المخالف الحق في تسجيل رأيه المخالف للهيئة التي يعمل معها والتي قد تكون ثلاثية أو خماسية. وفي هذه الحالة الأخيرة، يمكن أن نتصور وجود رأييْن مخالفيْن وليس رأيا واحدا وبالتالي يمكن أيضا تسجيلهما معا في المحضر الذي تنص عليه المادة 16. وقد امتدّ مبدأ السرية هذا الذي ظلّ المشرّع المغربي وفيا له إلى عدم إمكانية عدم معرفة القاضي صاحب الرأي المخالف إلا من طرف الهيئة التي أصدرت القرار دون غيرها من المكوّنات المشكلة لهيئة المحكمة (النيابة العامة وكتابة الضبط) ولا من طرف أي أحد آخر داخل المحكمة كبنية إدارية بما فيهم رئيسها، لكون  المحضر السري المتضمن للرأي المخالف يتم كتابته بين الأعضاء داخل المداولة ويتم وضعه في ظرف مغلق يسلم لرئيس المحكمة الذي يسجله  كذلك دون الاطلاع عليه في سجل إداري نموذجي خاص ويضعه بمكتبه لمدة عشر سنوات مع تقرير جزاء قانوني قاس لكل إعلان عن مضمونه من طرف المؤتمنين عليه، حيث تم اعتبار ذلك بمثابة خطأ جسيما . وزيادة في صون مبدأ السرية، نص القانون على أن هذا المحضر لا يمكن الاطلاع على مضمونه إلا بقرار للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.

ومواكبة لبداية تطبيق قانون التنظيم القضائي، وجّه الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية دورية [5] إلى مختلف المحاكم تناولت مستجدات عدّة أتى بها القانون المذكور. ومنها توضيح طريقة تطبيق ما نصت عليه المادة 16 (تضمين الرأي المخالف) من الناحية الإدارية، طبعا، حيث أكدت حفاظا على مبدأ السرية الذي أقره القانون أن الهيئة كلها تسلم الظرف المغلق لرئيس المحكمة أو نائبه عند غيابه وبالتالي لن يعرف أيّ كان من هو القاضي صاحب الرأي المخالف، وذلك مقابل وصل يحمل بيانات الملف القضائي المسجل ظهر الغلاف المغلق ويسلم للهيئة بكاملها ويتولى رئيس هذه الأخيرة تسليمه للقاضي صاحب الرأي المخالف. كما تمّ إرفاق الدورية بمحضر نموذجي، حفاظا على وحدة العمل في هذه النقطة بمختلف المحاكم،  لتسجيل الرأي المخالف الذي يجب أن يكون معللا.

وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن المادة 16 من قانون التنظيم القضائي لم توضح متى يٌسلّم المحضر لرئيس المحكمة. هل يحصل ذلك عقب انتهاء المداولة مباشرة أم بعد النطق بالحكم؟ وما العمل إذا تأخر ذلك لأيام؟ هل يقبل رئيس المحكمة بتسلّم المحضر من الهيئة أم لا؟ علما أنّ دورية الرئيس المنتدب التي لها طابع إداري، كما سلف القول، نصّت على أنه في حالة عدم التمكن من تسليم الغلاف للرئيس بعد انتهاء الجلسة، يحتفظ به القاضي صاحب الرأي المخالف لغاية أول يوم عمل، حيث تعمل الهيئة على تسليمه لرئيس المحكمة. كما أن المدة المقررة للاحتفاظ بالمحضر السري التي هي عشر سنوات تفوق بكثير المدد المقررة لتقادم المخالفات التأديبية للقضاة، مما يعني الحرص الكبير من المشرع على ضرورة الاحتفاظ بهذا الرأي لأيّ غاية مفيدة أخرى. كما أنه بعد انقضاء هذه المدة لم يبيّن القانون مآل المحضر على خلاف إحدى نسخ  مشروع قانون التنظيم القضائي التي كانت تنص على أن المحضر يسلّم إذ ذاك لمؤسسة أرشيف المغرب.

إسهام تضمن الرأي المخالف في تخليق العمل القضائي:

إن النصّ القانوني على تضمين الرأي المخالف داخل مداولات الهيئات القضائية، ولو في الحدود المشار إليها أعلاه، يبقى أمرا مهما من شأنه أن يسهم في عملية تخليق العمل القضائي المغربي بشكل أو بآخر، لكون عملية التخليق ليس لها منفذ واحد بل منافذ متعددة ويتداخل فيها الجانب الوقائيّ والإجراءات الشفافة بالجانب الزجريّ. وعليه يمكننا إبراز إسهام عملية تسجيل الرأي المخالف وحمايته، كما يأتي:

–        تحمل المسؤولية من طرف كل قاض: تتمّ أغلب الأعمال القضائية في المغرب داخل هيئات قضائية جماعية، وهو أمر سيتعزز مع عودة الهيئات الجماعية في قضايا المعتقلين في قانون التنظيم القضائي الجديد  بعد أن كانت هذه الهيئات فردية منذ تعديلات أواخر سنة 2010. وكان يصعب عند إثارة المسؤولية التأديبية من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية التمييز داخل هذه الهيئات في ظل فرض مبدأ سرية المداولات على أعضاء هذه الهيئات قانونا فكان يتم تحميل المسؤولية للهيئة بكاملها في حالة الأخطاء وخاصة المتعمّدة منها. أما الآن، فسيكون من السهل جدا عند إثارة هذه المسؤولية حماية صاحب الرأي السليم المتحفّظ – أتحدث هنا بشكل افتراضي – على خرق القانون وخاصة إذا كان خرقا  فاضحا غير مستساغ.

–        إن مجرّد إثارة القاضي لحقه في تسجيل رأيه وتمسكه بذلك، واتخاذ الأمر لشكل رسمي بتسجيله في محضر معدّ لهذا الغرض وتوقيع كافة الأعضاء عليه، سوف يكون له تأثير نفسي وتذكير أخير لباقي الأعضاء بضرورة التريث وإعادة النظر في قرارهم إن كانت تشوبه شائبة أو مخالفا للقانون بشكل واضح ومتعمّد. وطبعا لا نتحدّث هنا إطلاقا عن الاجتهاد والتأويل في النصوص القانونية .

–        إن عملية تضمين الرأي المخالف فيها نوع من حماية الأقلية من هيمنة رأي الأغلبية التي فرضها التسيير الديمقراطي للمداولات عند تعذر الاجتماع على القرار القضائي واللجوء للتصويت، وهو أمر معمول به في عدة مجالات ومنها المجال الاقتصادي حيث وفر قانون الشركات، على  سبيل المثال، عدّة مقتضيات تهمّ حماية الأقلية داخل  هذه الشركات وضمان التعبير عن رأيها وإثارة انتباه الأغلبية أو المسيّرين فيها حماية للمصالح المتواجدة داخل الشركات والنظام العام الاقتصادي كذلك.

–     إن إقرار حق تسجيل الرأي المخالف من شأنه أن ينعش عملية الاجتهاد وحيوية المداولات الجماعية للهيئات القضائية، حيث سوف يكون على العضو الثالث أو الرابع والخامس أن يعمل ويجتهد أكثر فأكثر لتبرير رأيه في كل ملف على حدة من الملفات التي يمكن أن يقع فيها الخلاف، عوض إمكانية أن يصاب العضو المعني بالرأي المخالف بالإحباط الناجم عن عدم قدرته على التأثير في المداولة بالتالي قد يتمّ الركون للصمت ما دام أن رأيه لن يكون له أثر لا في واقع المداولة ولا في المستقبل عند إثارة المسؤولية وخاصة إذا تكرر الأمر.

–         أخيرا، إن هذه الوسيلة القانونية (تسجيل الرأي المخالف) إذا ما تم تطبيقها على الوجه الأمثل وحققت النتيجة الوقائية  للتخليق المرجوة منها، سوف تخفف من الضرر، بنسبة معينة، الذي يلحق بصورة القضاء عند ارتكاب المخالفات المهنية والسلوكية وتصير معلومة لدى الرأي العام وخاصة تلك المرتبطة بالرشاوى أو استغلال النفوذ حيث تضرب صورة العدالة في العمق وتؤثر على مجالات أخرى بشكل مباشر أو غير مباشر. هنا تكمن أهمية هذه الوسيلة الذاتية والسرية لتخليق العمل القضائي.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، محاكم دستورية ، قرارات قضائية ، مقالات ، المغرب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني